- " وإلى أين ستذهبين؟ "
- " سأذهب لشراء السجائر . "
- " سجائر؟ "
- " نعم سجائر يا للوين . فإنني أنتظر هنا منذ الصباح . "
- " ما رأيك في السيانيد؟ ألا تعتقدين أنه يناسبنا أكثر؟ "
- " أعطني المفاتيح وكف عن السخرية . أريد أن أجلس في الفناء الخارجي اللعين وأدخن . "
عبَّ من الجعة وقفل عائداً إلى غرفة النوم . هبط على إحدى ركبتيه ودفع الحقيبة تحت السرير . ثم رجع إليها .
- " لقد جلبت لك بعض السجائر . "
- " ناولني إياها . "
ترك زجاجة الجعة على المنضدة، ثم خرج وجلب علبتي السجائر والمنظار وعلق المسدس عيار 0 . 270 بكتفه وأقفل باب العربة وعاد . ناولها السجائر ورجع إلى غرفة النوم .
نادته:
- " من أين أتيت بالمسدس؟ "
- " أتيت به من المكان الذي يأتون بالمسدسات منه . "
- " هل اشتريت هذا الشيء؟ "
- " كلا، بل عثرت عليه . "
جلست على الأريكة . وقالت:
- " للوين؟ "
رجع إليها . وقال:
- " ماذا تقولين؟ توقفي عن التذمر . "
- " كم دفعت مقابل هذا الشيء؟ "
- " ليس عليك معرفة كل شيء! "
- " كم؟ "
- " قلت لك، لقد وجدته . "
- " كلا إنك لم تفعل قبل ذلك شيئا مثل هذا . "
جلس على الأريكة وأسند قدميه على المنضدة، وراح يجرع كأسه ثم قال لها:
- " إنه لا يعود لي، إنني لم أشتر أي مسدس . "
فضت إحدى علب السجائر واستخرجت سيجارة منها وأشعلتها بالقدّاحة . وقالت:
- " وأين أمضيت هذا النهار كله؟ "
- " ذهبت لأشترى لك بعض السجائر . "
- " لا أريد أن أعرف أين كنت . ولا حتى ماذا كنت تفعل . "
تابع ارتشاف كأسه:
- " ليكن . هذا أفضل . "
- " كما أنى أعتقد أنه من الأفضل للمرء ألا يعرف عنك شيئا أبداً . "
- " تابعي النقار على هذا المنوال وستجدينني آخذك إلى السرير وأغتصبك بعنف! "
- " كلام في كلام . "
- " جربيني . تابعي الثرثرة وستعرفين بنفسك . "
- " هذا ما قالته لك تلك التي كنت معها . "
- " صبرك فقط حتى أنهي احتساء كأسي، وسنرى ما الذي قالته، وما الذي لم تقله . "
***
-4-
عندما استيقظ، كانت الوقت قد بلغ الواحدة وست دقائق بالضبط على شاشة الساعة الرقمية الموجودة على الطاولة المجاورة للفراش . رقد هنالك يتأمل سقف الغرفة . كان نور لمبة النيون الآتي من الخارج يغمر حجرة نومهما بوهج مزرق بارد . ضوء أشبه بنور القمر في منتصف ليلة شتاء . أو بنوع آخر من الأقمار . ضوء له طبيعة نجمية غريبة عن كوكبنا من شأنه أن يبعث الخدر في البدن والتنميل في الأوصال . كل شيء سوى النوم في العتمة . سحب قدميه من تحت الأغطية وجلس قاعداً . نظر إلى ظهرها العاري . شعرها الناعم يفترش الوسادة، مد يده ورفع الغطاء فوق كتفيها ونهض من السرير متجهاً نحو المطبخ . تناول قارورة ماء من الثلاجة، وفك سدادتها ووقف هنالك يشرب في ضوء باب الثلاجة المفتوح . طاله وقوفه هناك حاملاً بيده قارورة الماء التي جمعت سحابة من بخار الندى على سطح الزجاج البارد . وقف ينظر إلى الشباك المطل على الطريق السريع المضاء بأعمدة النور . وقف هنالك وطال تأمُّله .
عندما عاد إلى حجرة النوم، التقط سرواله القصير من على الأرض بقرب السرير فارتداه وذهب إلى غرفة الحمام وأقفل الباب وراءه . ثم إنه ما لبث أن ولج إلى غرفة النوم الثانية وسحب الحقيبة من تحت السرير، وفتحها بهدوء . جلس على الأرض جاعلاً الحقيبة بين رجليه، وغاص بيديه بين أوراق النقود التي تحتوي عليها فأقلق منامها . وجد أن ارتفاع الرزم يصل إلى عشرين رزمة, أعادها بحرص إلى مكانها وهز الحقيبة ليعيد صفوف الرزم إلى سيرتها الأولى قبل عبثه بها . ض*ب في عقله عشرين رزمة علواً باثنتي عشرة في كل صف أفقي، واستنطق الإجابة الرياضية من رأسه حتى كاد قلبه يتوقَّف . جاءه الجواب: مليونان وأربعمائة ألف دولار! وهي كلها أوراق بنكنوت سليمة صالحة للتداول . جلس ينظر إلى هذه الثروة المخيفة، وقال لنفسه: " عليك بأخذ هذا الأمر بالجدية اللازمة، هذه ليست مجرد ض*بة حظ . "
أغلق غطاء الحقيبة، وأعاد غلق السحّابات وتثبيت الأحزمتة، ودفع بها إلى مرقدها تحت السرير، ونهض من مكانه . وقف يتامل النجوم من الشرفة التي تطل على المنحدرات الصخرية المنتصبة في الجهة الشمالية خارج البلدة . كان ال**ت شاملاً . **ت الموتى في القبور . ولا حتى كلب ضال يعوي .
لكن من قال أن النقود هي التي أيقظته من النوم؟
تسائل في سره: " هل تراك مُت أم أنك لا تزال هناك حياً؟ لا بالله عليك، إنك لست ميتاً . "
استيقظت بينما كان يرتدي ثيابه، فاستدارت في السرير تراقبه .
- " للوين؟ "
- " هممم؟ "
- " ما الذي تفعله؟ "
- " ألبس ثيابي . "
- " وإلى أين أنت ذاهب؟ "
- " ذاهب إلى داهية . "
- " قلت لك إلى أين أنت ذاهب يا حبيبي؟ "
- " هنالك عمل ينبغي لي أن أقوم به ثم أعود . "
- " وما هو ذلك العمل الذي تنوي القيام به؟ "
فتح الدرج وتناول المسدس عيار 0 . 45، وأخرج الرصاصة من الخزانة وفحصها، ثم أعادها إلى مكمنها، ودس المسدس في حزامه . استدار ناظراً إليها .
- " إني ذاهب لتأدية مهمة غ*ية في جهنم! لكنني سأذهب في كل حال . فإذا لم أعد، قولي لأمي إني أحبها . "
- " لكن أمك ميتة يا للوين! "
- " حسناً، سأٌخبرها بنفسي إذن . "
جلست في السرير، وقالت:
- " إنك تجعل أوصالي ترتعد يا للوين . بربك، هل أنت متورط في أي نوع من المتاعب ضد القانون؟ "
مط شفتيه وأجاب في بساطة:
- " كلا . عودي إلى النوم . "
عقدت حاجبيها وهتفت مستنكرة:
- " أعود إلى النوم؟ "
هز رأسه باستهزاء:
- " إنني سوف أعود بعد قليل . "
- " ا****ة عليك يا للوين . "
رجع إليها من الممر، وقال:
- " وماذا إذا لم أعد أبداً؟ هل هذه هي كلمات الأخيرة في لحظات الوداع؟ "
تبعته طيلة الممر إلي المطبخ وهي تلملم شتات رداء النوم حول جسدها . تناول وعاء فارغاً للماء من تحت الحوض ووقف يملؤه بالماء من الصنبور . سألته:
- " أتدري كم هي الساعة الآن؟ "
- " نعم أعرف كم هي الساعة الآن . "
- " حبيبي إنني غير راضية عن ذهابك . قل لي إلى أين أنت ذاهب؟ إني لا أريدك أن تذهب . "
- " حسناً يا قلبي، إننا متساويان في هذه الرغبة، فأنا أيضا لا أتمني الخروج . سوف أعود . لا تنتظريني . "
***
توقف تحت أضواء محطة البنزين، وأطفأ المحرك، ثم أخرج الخريطة التفصيلية من صندوق السيارة وفردها فوق المقعد وجلس هناك يدرسها مدققاً . أخيراً وضع إشارة بالقلم على المكان الذي يعتقد أن العربات يجب أن تكون فيه، ثم تتبع الطريق عبر الصحراء عائداً إلى بوابة هاركل لطريق المواشي . كانت شاحنته مزودة بأربع عجلات تصلح للسير على جميع أنواع الطرقات، بالإضافة إلى عجلتين احتياطيتين . الطريق كان وعراً بالفعل . بسط الخريطة من جديدة يراجع هذه المرة خط السير الذي رسمه لنفسه، ثم استوى في مقعده يتأمل البيئة المحيطة من مكانه . وبدأ الآن يرسم خط سير جديد على الخريطة . وعندما أدار المحرك وتحول عن الطريق السريع كانت الساعة قد بلغت الثانية والنصف صباحاً . وكان الطريق خالياً، وراديو السيارة في تلك الأراضي القفراء ساكتاً حتى عن التشويش الاستاتيكي من أول محطة إذاعية للأخبار حتى آخر محطة للفرق الموسيقية .
توقف عند البوابة، ثم خرج من السيارة، وفتحها، وأدخل السيارة من خلالها . ثم خرج من سيارته ثانية، ليعيد إغلاق البوابة . ثم وقف صامتاً يصغي . وأخيراً عاد إلى السيارة من جديد وقادها جنوباً على طريق الماشية . أبقى الشاحنة تعمل بالدفع الأمامي، وقادها بعد تبديل السرعة إلى الثانية . وانتشر نور القمر الخفيض أمامه فوق التلال المظلمة التي بدت كأنها مرسومة علي شاشة خلفية لمسرح .
انحرف نحو منطقة أسفل من المكان الذي كان قد أوقف فيه شاحنته صباحاً، ليتحول إلى مكان يبدو كأنه طريق قديم للعربات التي تتجه شرقاً عبر أراضي هاركليز . وعندما ارتفع القمر في السماء وبدا بصورته الكبيرة الشاحبة وشكله المعتل بنور غير كاف لإنارة جميع تلك التلال والأراضي التي بينها، فقام بإطفاء المصباحين الأماميين للشاحنة . بعد نصف ساعة من القيادة، أوقف الشاحنة ومشى على طول خط سنام سلسلة من النجود، ثم وقف يراقب المنطقة الممتدة إلى الشرق والجنوب . قمر في السماء يشع على عالم أزرق . وثمة ظلال مرئية للغمام ال**بر فوق السهل المستنقعي . وبعد أن أسرع في سيره فوق المنحدرات، جلس في منطقة من السهول القشرية واضعاً ساقا فوق ساق . لا ذئاب هنا . لا قيوط ولا ابن آوى . لا شئ . بالنسبة إلى مهرب م**رات م**يكي . نعم . إن كل شخص له أهمية . عندما عاد إلى شاحنته تخلى عن اقتفاء الأثر في اختيار طريقه، وقادها في اتجاه أوضح الممرات التي تقوده أشعة القمر إليها . عبر تحت رأس بركاني واقع في الطرف العلوي من الوادي، واستدار إلى الجنوب من جديد . فهو لديه ذاكرة جيدة لهذا الريف . فها هو الآن يعبر قطعة من الأرض كان قد قام باستكشافها من القمة في وقت سابق من الصباح . لذلك فإنه توقف من جديد وترجَّل من الشاحنة وأصغى .
وعندما عاد إلى الشاحنة، قام بفك الغطاء البلاستيكي لمصباح سقف الشاحنة . ونزع المصباح ووضعه في منفضة التبغ . جلس يراجع الخريطة من جديد تحت ضوء كشاف يدوي . وعندما توقف عن القيادة مرة أخرى، أطفا المحرك وجلس وراء المقود بعد أن أنزال زجاج النافذة . بقي في جلسته تلك ما بدا له كدهر كامل . أوقف الشاحنة على بعد نصف ميل فوق الطرف الأعلى من الفجوة البركانية المنبسطة، وأنزل معه وعاء الماء البلاستيكي، ودس المصباح اليدوي الكشاف في جيب بنطاله الخلفي . ثم أخذ المسدس ضاغطا بإبهامه **ام الأمان، ثم قفل راجعا نحو مكان الشاحنات . وكانت كلها على الحال الذي تركها فيه . فجميعها منحنية فوق عجلات مثقوبة . تقدم وهو يرفع مسدسه الجاهز لإطلاق النار، إلى الأمام . لا شيء سوى **ت الموتى . وربما بسبب أشعة القمر، فإن ظله كان بمثابة رفيق له . رفيقه الوحيد الذي لم يكن يرغب في صحبته إلى هذا الحد . شعور ممض هو الشعور الذي راوده في ذلك المكان . شعور لص القبور المعتدي على حرمة الموتى . قال لذاته: " لا تتعجب من نفسك يا عزيزي، فأنا لم أمت بعد . لست واحدا من هؤلاء الأموات، على الأقل، ليس بعد . "
كان باب سيارة البرونكو مفتوحاً . وعندما رأى ذلك جثاً على ركبتيه . وضع وعاء الماء على الأرض . قال لنفسه: " أنت أيها الحلوف الغ*ي، ها أنت هنا، لأنك أغبى من أن تستحق الحياة . " استدار ببطء مستكشفاً فضاء المفازة اللعينة، لكن الصوت الوحيد الذي سمعه إنما كان هو دقات قلبه كأجراس تُقرع في أذنيه . اتخذ طريقه نحو شاحنة البرونكو وانحنى قرب بابها المفتوح فلاحظ أن الرجل الذي كان خلف المقعد قد سقط الآن إلى جانبه فوق لوحة القيادة . لا يزال مقيداً بحزام الأمان . الدم الطازج ينضح منه إلى الأبد وفي كل مكان .