و أفقت حينما رأيت سير السيارات فى اتجاه مغاير ف*جعت و استويت فى طريقى بينما قلبى يحمل بين جنباته مشاعر مختلطة كثيرة لا أعرف ما هى ، و لا ادرى كيف مرت الساعات حتى وصلت الى منتصف الليل بينما أنا فى غرفتى أتصفح أى شئ تقع عليه عينى لعله يخرجنى قليلا من التفكير المتعاقب فى كل ما دار اليوم ، لقد تحولت أشياء كثيرة فى حياتى ، نظرتى للدنيا تبدلت ، صرت أرى ما فى الحياة من جمال كنت عنه فى غيبوبة لا أراه ، صرت أقرأ القصائد بروح أخرى غير ما تعودت عليه ، صرت أستمع إلى الأغنيات فاجد فى كل أغنية ملمحا يعبر عنى او عن مصطفى ، صرت انظر إلى الهاتف لعلنى أرى اتصالا منه ، لا ، لست اظنه سيفعلها إلا لو كان هناك سبب قوى و أقبل الصباح و أنا أتأهب للخروج و صرت احسب الخطوات حتى وصلت إليه ، كان بالفعل يجلس حاجزا لى مقعدى ، رحب بى و اجلسنى و بادر بسؤالى : بالامس نسيت ان أسألك متى يمكننى الاتصال بك ؟ ابتسمت و قلت له فى اى وقت تريد ، لا تشغل بالك بالتوقيتات فانا فى معظم الأوقات اكون فى غرفتى إما بين الكتب او فى استماع إلى الموسيقى ، فقال لو تأذنى لى أن أكلمك الليلة فى التاسعة مساءً ، فأجبته بالقبول ، ثم ساد ال**ت و كأننا ما كنا فى حديث قبله حتى نزلنا و مضى اليوم **ابقيه ، ثم عدت إلى البيت و أنا أنتظر الموعد و الغريب أننى قد ملأت غرفتى بالزهور التى جمعتها من الحديقة ، و ملأتها بالعطر و رتبت كل شئ فيها و كأننى أنتظر ضيفا سيجلس معى فيها ، بل إننى تحممت و تعطرت و صففت شعرى و ارتديت ثوبا منزليا جديدا و امسكت هاتفى بين يدى و بين لحظة و الأخرى أنظر إلى قوة الإشارة فيه حتى أتيقن أنه سيعمل حينما يطلبنى مصطفى ..
و فى الموعد بالدقيقة رن هاتفى و لأول مرة أشعر أن رنينه أجمل من تلك الأغانى التى كنت أستمع إليها ، و استقبلت أذنى تحيته بشوق لأرد عليه التحية و أنا فى حالة مرح و سعادة منقطعة النظير ، و كان أول ما قال هو أنه كان يخشى أن لا أجيب و حين سألته لماذا ، قال بأنه دائما يخشى أن يكون متطفلا أو مزعجا لى ، لكننى طمأنته و طلبت منه ان يصرف هذه الفكرة من عقله فهو شاب مهذب خلوق لا يمكن أن يتصف بتلك الصفات ، و تجاذبنا أطراف الحديث و اقترب أكثر مما كان قريبا ، سألنى عن حياتى و أسرتى و أجبته عن كل شئ باجابات سطحية غير متوغلة فى الحقائق ، فتح لى قلبه و حدثنى عن حاله و حال أسرته البسيطة ، و كيف حصل على وظيفته باجتهاده و عن كفاحه من اجل تكوين مستقبله و وقوفه بجانب أبيه فى زواج اخته الوحيدة ، كان حديثنا أشبه بحديث اثنين لم يلتقيان من قبل و كأننا أردنا التعارف من جديد و لكن بشكل أكثر عمقا ، تحدثنا عن هواياتنا و ما نفعله فى اوقات الفراغ ، و عن الاعوام التى قضيتها بعد التخرج ، عن تجاربه فى المرحلة الثانوية مع الفتيات ، و عن جديته بعد التخرج فى التعامل معهن ، سألنى عن تجاربى فأجبته بصدق أننى لم أعرف فى حياتى رجالا إلا أبى و إخوتى ، و رأيته لا يراجعنى فى كلمة قلتها ، كان كلامى بالنسبة له مصدقا لا يمكن له أن يناقشه ، تحدثنا فى أمور عديدة ، و تناقشنا فى أحوال البلاد و فى أحوال الشركة و بعد أقل من ساعة رأيته يحاول أن يشعرنى بأنه قد أثقل علىّ لكننى طمأنته أننى ليس لدىّ شئ لأفعله الآن و أنه لم يثقل علىّ ، و انتهى الحوار بيننا بعد ذلك بقليل على وعد بتكرارها مرة أخرى ، و فى كل يوم بعد عودتنا من العمل كان يؤكد علىّ أن أنتظره فى الليل .
و هكذا كنا فى حوارات دائمة لا تنقطع سواء فى الطريق إلى العمل أو فى كل ليلة عندما يكون الحديث فى الهاتف ، كان فى كل ليلة يقترب منى أكثر و أكثر ، و كلما نادى اسمى شعرت مع ندائه بمشاعر كثيرة تختبئ بين ثنايا الحروف ، تعلقت بحواره و بطريقته و زاد تعلقى به و شعرت انه يسكن فى موقع لم يشهد ساكنا قبله ، و شعرت انه يريد الاعتراف بشئ ما فى ليلة عندما كان صوته يرتعد و حروفه تهرب على ع** المرات السابقة ، فوجدته يطلب منى ان يتحدث إلى بسر كان يخشى أن يأتى اليوم لأعرفه ، أراد أن يتحدث بحرية دون خوف من رد فعلى ، فطمأنته و أنا أستوى فى فراشى أستعد و أتأهب لما سيقوله ، و إن كان كلامه العادى يمتع سمعى و قلبى فكيف به حينما يسر إلىّ بحديث ، قلت له إن مكانتك عندى أكبر بكثير من أن تجد فى نفسك الخوف أو القلق من أى شئ تقوله أمامى ، اطمئن و تحدث بما تريد ، فأنت بصدق آخر إنسان يخشى ردة فعلى ، و أيا كان ما ستقوله فلن يغير نظرتى لك أو يزحزح مكانتك عندى ، فاطمأن لكلماتى و تابع و هو يقول أنه منذ رآنى اول مرة و هو يشعر بشئ ما تجاهى ، كان يكذب إحساسه فى البداية لكنه يوما بعد يوم صار على يقين بما يشعر به ، استمعت له فى **ت بينما هو قد استرسل فى كلماته و تحدث و كأن ل**نه قد وكّل قلبه لينطق ، كانت كلماته يومها غير كل كلام سمعته فى عمرى منذ ميلادى و حتى يومها ، حتى نبرات صوته كانت مختلفة و هو يقول : كنت قبلك أقضى أيامى و انا أقتل الوقت كى يمر ، كانت أيامى سرابا ألاحقه و يلاحقنى و لا أحد منا يدرك الآخر ، كنت فى السابق بين جنبات الحياة أتقلب فيها بلا أمل أو رجاء ، ما كنت أعرف السبب غير أننى ظننت أنها حالة عامة بين الجميع ، إلا أننى عندما رأيتك وجدت دربا آخر فى الحياة مؤهلا للمسير ، فيه من كل ألوان النعيم ما قد خفى على نفسى ، و رأيت معك إشراقة شمس لا غيوم تحجبها ، و لا **وف يعتريها ، شمس تحمل الدفء و الظل فى آن واحد ، يوما بعد يوم سرت فى دربك هائما حالما و أنا غير آمل فى شئ إلا المسير ، فما أمتع السير بين الظلال الكريمة و القطوف الدانية ، تمسكت بالحياة و بالايام و ما عدت أقتل الوقت ، بل صرت أسابقه و يسابقنى ، كانت ابتسامتى قاتمة إن كانت موجودة أصلا ، لكن بمجرد النظر فى وجهك كنت أشعر بها زاهية الألوان لا تبارح وجهى و لا تغادر ملامحى ، حتى و انتى بعيدة ، كانت تحل الابتسامة حينما يمر طيفك على القلب و الخيال ، كثيرا ما سألت نفسى ماذا يكون هذا الشعور ، و كيف أسميه و لم اجد له غير اسم واحد جعلته بينى و بين قلبى ، سألت نفسى كل سؤال إلا سؤالا واحدا و هو : لماذا أنتى ؟ لأنك حقا تستحقين أن تكونى مص*ر السعادة و مورد المشاعر التى اجتاحت قلبى و روحى ، أنت وحدك لا أحد غيرك قادر على بث تلك الرسائل المتتالية إلى الروح لتأذن لها بالدخول من الباب الكبير إلى السعادة و الأمان ، فى كل يوم مضى منذ اللقاء بك و انا أقبل على الدنيا و على العمل بروح جديدة غير ما اعتدت عليه ، صرت هائما بين الحلم بانتظار الصباح و الأمل المتجدد بانتظار المساء ، ففى هذا لقاؤك و فى ذلك حديثك و كلاهما جنتان ينعم فيهما القلب و تسبح فيهما الروح ، و إنى أضع اليوم قلبى بين يد*ك و أسلمه لك حتى لو مزقتيه بيد*ك أو أحرقتيه حتى يصبح رمادا ثم تطلقينه أدراج الرياح فهو ملك لك ، فافعلى به ما تشائين .. دينا !! إننى أحبك ، بكل ما احتوته الكلمة من مشاعر ومعانى و مواثيق و عهود أحبك ، بعدد ما قيلت هذه الكلمة و هى صادقة منذ عهد آدم إلى نهاية الكون أحبك ، بعدد انفاسى التى خرجت من ص*رى أو دخلت إليه منذ وصولى لهذه الدنيا أحبك ، دون خجل أو خوف أعلنها بين يد*ك ، أحبك ، و انت الأمل الذى أحيا به عمرى الآن ، فى لقائك نعيم مقيم ، و فى بعدك عذاب أليم ، لم يعد لى فى هذه الدنيا حصن ألجأ إليه بعد اعترافى لك و لا ملجأ إلا أنتى فكونى منصفة أو جائرة على قلبى فلا أملك المحاسبة و لا المراجعة ، و لم أعد أملك من أمر قلبى شيئا ، فلقد أحببتك حتى احترقت أنفاسى و هى تناجيكى ، و لو علمتى ما انا فيه الآن أو رأيتى حالى و أنا أعترف بين يد*ك بحبى لك لما رأيتى ذلك الشاب الذى تعرفينه ، بل ستجدين بقاياه حتى تستبد بك الرحمة و الرفق به و قبل أن تجيبى بأى شئ فإنى أعفيك من الردود و أستأذنك بانهاء المكالمة فما عاد فى قلبى ذرة تحتمل استكمال الحديث ، و لا عادت الأرض تحملنى ، ضجت بى و بما أشعر به ، ما بقى إلا الدموع التى احبسها سجينة بين أجفانى ليس عزة و لا إباء ، و لكن حتى لا أظلم حبى لك الذى قد انعم على بالسعادة منذ اليوم الأول فأجعل فيه بكاء ، و ليبق حبك دوما فى حياتى ميدان السعادة خاليا من الأحزان ، إلى اللقاء ..
هائمة أنا فى دنيا غير الدنيا ، سابحة فى بحار من الوجد و الأشواق ، ممددة فى فراشى غير قادرة على الحركة ، عواصف و رعود اجتاحت غرفتى حتى ظننت ان سقف الغرفة يحمل سحابا سيمطر فوق رأسى بعد قليل ، ما هذا ؟ هل انا سعيدة ام حزينة ؟ ما هذه الدموع التى تجتاح عينى ؟ و ما تلك الزفرات المنبعثة من ص*رى بحرارة تشبه نيران البراكين المتأججة القاذفة بالحمم ، ما هذه التن*دات التى تتابعت دونما سيطرة ، لقد خارت قواى و صار جسدى مشتعلا بنيران الشوق إليك أن تكمل ، فلماذا أنهيت الحديث ؟ آه لو تعلم ان ما تقوله ليس إلا قطرة فى بحر ما أحمله لك ! آه لو انتظرت قليلا و تمهلت لسمعت منى أغلى عبارات الشوق لحديثك هذا ، لو انتظرت لعرفت أنك فى قلبى منذ النظرة الأولى ، بل لن أكون كاذبة لو قلت لك أننى انتظرتك عمرى كله لتحملنى إلى ما تبقى منه فى نعيم كالذى تحدثت عنه ، الحب !! آه منه و مما فعله بى ، آه من لحظة رؤياك و من استماعى لصوتك ، آه من فرحة أحلامى بك ، آه من إحساسى بك لحظة المغيب ، لو كان فى الدنيا جنات لقلت أنها فى قربك ، و لو كنت واصفة بعدك لوصفته بأنه شقاء و تباريح و طعنات سهام تغادرالنبال إلى ص*رى واحدا بعد واحد حتى ألقاك ، كثيرا ما تساءلت عن شعورى بك ، هل هو حلم أنعم الليل به علىّ ، ام أنه واقع رضيت به الدنيا عنى ، الحب يقبل إلى عمرى على غير ميعاد ، ماذا بك يا قلبى ؟ لماذا أراك مضطربا لا تستقر و لا تهدأ ، اسكن قليلا حتى يتمكن ال*قل من التفكير و يعود إلى الوعى ، أراك تسطو عليه مستبدا بسلطاتك الليلة ، لا لن احتمل البقاء هكذا ، أريد ان أغمس جسدى فى الماء البارد حتى أفيق ، لكننى حتى مع هذا لم أشعر بالافاقة مما انا فيه من هيام و وجد و اشتياق ، ترى كيف هو الآن و هو من عبر و أقر ، قلبى يرق لحالك يا حبيب القلب حينما يتخيل ما أنت فيه ، لا تبتئس و لا تقلق ، ففى الصباح سيكون لى معك شأن آخر ، سترانى كما لم ترانى من قبل ، و لكن لماذا تأخر الصباح و توانى عن ميعاده ، و أين النوم حتى أختصر ساعات الليل بالانغماس فيه ، طار النوم و لاذت الراحة بالفرار ، يكفينى ان أبقى ممددة فى فراشى أنتظر أول خيط من نور الصبح ، و بقيت أستعيد ما كان من حوار حبيبى جملة بجملة ، كلمة بكلمة ، أعيده على قلبى و روحى كأغنية عذبة الكلمات شجية الألحان حتى تابعت شروق الشمس للمرة الأولى ، ما أجملها من لحظات حرمت نفسى منها طيلة أعوام عمرى ، و جلست ساعات أستعد للخروج ما بين اختيار ثيابى ، و بين وضع الزينة و العطور ، ذهبت إلى الحديقة لأقطف منها باقة من الورود التى اعتنيت بأشجارها بنفسى ثم خرجت و انا على غير ثبات انازع خطواتى .
و صعدت إلى الاتوبيس فرأيته ، شاحب الوجه يبدو عليه الإرهاق ، ترى هل قضى ليله مستيقظا مثلى بعدما هرب منه النوم ! لم يستقبلنى بابتسامته المعتادة ، نظر فى وجهى ثم أغمض عينيه و أخفض رأسه قليلا ثم قام من مكانه ليجلسنى ثم جلس و هو صامت لم ينطق ، يداه ترتعشان و قدمه تتحرك فى توتر ، صوت انفاسه يكاد يسمعه كل من حولنا ، و باصبعين طرقت كتفه فانتبه و التفت إلىّ ، مددت له يدى بباقة الزهور قبل اى كلام بيننا ، وجدته ينظر إلى الزهور فى يدى و عيناه فيهما بريق يشبه الدموع السجينة التى حدثنى عنها بالأمس ، نظر فى عينى قليلا ثم مد يده ليأخذ منى ورودى ثم همس و قالها لى ، قالها دون حواجز ، لم تكن عبر الأثير هذه المرة ، قالها بل**نه لتستقبلها أذنى مباشرة : أحبك ، أطرقت برأسى إلى الأرض و انا أبتسم قليلا و حمرة الخجل تعترى وجناتى و عيناى زائغتان تنظران يمينا و يسارا و كأننى كنت اخشى أن يسمعه احد غيرى ، و بحركة خفيفة وراى يدينا بحقيبته و وضع يده فوق يدى و هو ينظر فى عينى و يردد بهمس : اليوم هو يوم ميلادى بصدق ، ما اجمل هذا الصباح و ما أسعده ، مختلف فى كل شئ حتى لون شمسه ، حينما كنت قادما من بيتى إلى هنا فى خوف و قلبى منقبض كنت انظر يمينا و يسارا إلى الحقول فأرى لونها اكثر خضرة من ذى قبل ، و أرى الماء يتدفق فى مجراه برقة و نعومة يع** لون الحياة اكثر من كل مرة رأيته من قبل ، ما كنت أدرك اننى بعد لحظات سأعرف السر ، إنه يوم سعدى حقا ، كان كل شئ فى الكون يحتفل بى قبل أن يخبرونى بما سأواجهه من سعادة ، حاولت نزع يدى من يده ، لكنه تمسك بها و هو مستمر فى همسه ، لا تحرمينى من أغلى لحظة فى عمرى و اتركى يدى تنعم بخير ما أنعمت به الدنيا عليها و علىّ ، اتركينى فى احلامى التى لم أمر بمثلها قبل اليوم ، لن يكون هذا اليوم كأى يوم مضى ، ائذنى لى ان ادعوك للخروج و لو لساعة بعد انتهاء العمل ؟ لن تتأخرى عن موعد عودتك فاليوم من الممكن أن تطلبى الاذن بالخروج مبكرا قبل ساعة واحدة من موعد الانصراف ، و اجعليها إهداءً لى ، فعندى منذ الأمس كلام لم أكن اجرؤ على قوله ، ابتسمت له و أشرت له بالموافقة و مضى يوم العمل حتى حانت الساعة التى استأذنت فيها لأخرج و اجده ينتظرنى ، و استقل سيارة أحد زملائه و فتح لى الباب فركبت إلى جواره ثم انطلق بنا إلى مكان لم أشهد جماله من قبل على شاطئ النيل ، و جلسنا ليحدثنى و هو ينظر فى عينى و ينشد ما طاب له من الأشعار ، لا لم يكن شعرا بل كان كلاما لكنه كان فى سمعى له وقع الشعر ، عاهدنى و عاهدته ألا نفترق ، قالها من جديد : أحبك ، و اعادها مرات و مرات ، و لم يهدأ حتى قلتها له : أحبك ، لن تعلم قدر حبى لك ربما لأننى لا أجيد التعبير مثلك ، لكنه لا يحتاج لكلمات لتعبر عنه ، ها انت تراه فى نظرة عينى ، فى رعشة يدى حين لمستها ، فى صوتى و فى **تى ، فى ابتسامتى و فى همسى ، لم أشعر فى قلبى بغيرك من قبل ، فتح بابه لك و أغلقه عليك غير مسموح لك بالخروج منه ، فابتسم و هو يقول : من ذا الذى يسكن الجنة و يخرج إلا لو كان مطرودا منها ! فرددت عليه بابتسامة و انا أقول : انت من ملكت القلب و ما لأحد الحق فى أن يخرجك منه ، لن تخرج إلا مع خروجه من ص*رى ، **ت و هو ينظر فى عينى ثم تمنى لى السلامة و قال اليوم أبدأ مع الدنيا صفحات جديدة تنقشينها بيد*ك ، و بينى و بينك فى الليل حديث متجدد لا ينقطع ، و لكنه منذ الليلة سيأخذ شكلا جديدا ، شكلا يواكب المشاعر التى أقرت بها الأرواح ، و امتدت يده من جديد لتحتضن يدى و هو ينظر فى عينى ، و كانت يدى كذلك تحتضن يده ، قبل يدى و وضعها على خده و هو يغمض عينيه ، تبدد الخوف من الأعين حولنا و قمنا من مكاننا و يدانا متعانقتان .
و استمرت احاديث الليل بيننا دونما انقطاع و تكرر ذهابنا إلى ذلك المكان الذى شهد لقاءاتنا ، كانت الحياة هادئة مطمئنة ، إلى أن صادفها ما غير القرب الدائم و جعلنى أعيش فى يقظة كادت أن تطيح بأحلام الكرى حينما رآنا معا احد أصدقاء أبى فأبلغه على الفور فى شكل استفسار عن ارتباطى من عدمه ، هاج و ماج والدى و شعر بطعنة فى كرامته جعلته يعنفنى و يوجه لى أقسى عبارات اللوم و انا فى **ت ، كانت ليلة شتوية بردها قارص و تكفل صوت أبى بأداء صوت الرعد ، لكن حرارة قلبى غطت على برودة الجو حتى اجتاحتنى عاصفة الجرأة لأعلنها له أمام أمى ، دافعت عن حبى له بشراسة جعلته يهم بصفعى لولا ان جعلت امى نفسها بينه و بينى فتلقت الض*بة لكنها لم تهن و لم تضعف عن مقاومته مدافعة عنى و عن مشاعرى البريئة تجاه شاب أحبنى بصدق ، و قاومت عاصفته الهوجاء و هى تكيل له اتهامات القسوة و غلظة القلب و اهتمامه الأول بمظهره العام امام الناس و غض الطرف حتى عن مشاعر ابنته الرقيقة و إهماله للعواطف الانسانية فى كل معاملاته ، و هددته بانه إن كررها مرة ثانية و هم بض*بى فسيكون آخر يوم لنا فى بيته و ليبحث عن وجاهته الاجتماعية حينها ، و هنا شعر بطعنة اخرى فى قلبه عندما سمع كلمات امى ، فانسحب و هو يردد بأنه سوف يتخذ معى أصعب إجراءات التشدد بعد اليوم ، و أقعدنى من العمل ، دائما يعتقد انه الحاكم بأمره حتى فى القلوب و احوالها ، و اتصلت يومها بحبيبى أبلغه بما كان ليخبرنى بانه ذاهب لمقابلته و التقدم له ، غير انى منعته من ذلك ، فليس الآن هو الوقت المناسب لأمر كهذا .. كانت أمى هى الداعم الأول لى و تعهدت بمساعدتى حتى و لو اضطرت لمواجهة العالم لأجلى ، و طالما كنت واثقة من حبه لى فلن تتوانى هى عن التضحية بكل ما اوتيت حتى تصل بحبى له إلى بر الأمان ، زادت قوتى و ثبت قلبى و استقرت نفسى بالنظر فى عينى امى و هى تؤازرنى ، كم شعرت حينها بالامان و الاطمئنان ، لست وحدى فى هذا العالم ، فهناك أقوى قلب فى العالم إلى جوارى ، إنها أمى و كفى ..
كان أبى يظن ان بمنعى عن الذهاب للعمل سينتهى كل شئ ، لكننى فوجئت فى ثانى أيام بقائى فى المنزل و فى الليل بمصطفى يقف امام سور الحديقة و يحادثنى فى الهاتف انه ينتظرنى لرؤيتى و سيرحل بعدها ، و برغم المفاجأة و الخوف عليه إلا أننى كنت فى غاية السعادة به ، ها هو يتحدى كل شئ من أجل رؤيتى ، ها هو يغامر بشكل غير محسوب ليرانى و يطمئن علىّ ، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ، و كان أبى لا يزال فى الخارج فهو لا يعود إلا بعد منتصف الليل بساعتين أو أكثر ، بأى مكافأة أجازيك يا حبيب القلب و منى النفس ، هرعت إليه حيث هو و وقفنا أمام الباب الرئيسى حتى سمعت أمى تنادى ، فأدخلته و أجبتها أننى فى الحديقة أستنشق الهواء ، و خلف بيت أخى راضى و الذى كان يخلو من سكانه لسفره ، جلسنا جنبا إلى جنب ، حدثنى عن ألمه لغيابى و افتقاده لحديثى حتى كاد الدمع ان يتساقط من عينيه ، ربتت على كتفه و انا أطمئنه بأننى على عهدى لن أكون لغيره و لن يمنعنى عنه مانع حتى و لو تآمرت الدنيا على قصتنا ، اطمأن و هدأت نفسه و قال بأنه لن يغادرنى إلا فى الصباح انتقاما من ساعات الفراق و ثأرا لإحساسه بأننى أضيع من يده ، فابتسمت و أنا أقول له أن ذلك غاية المنى ، فبعد حديث الهاتف بالليل نجلس أنا و انت مواجهة و العين فى العين ، و لكن البرد قارص و لفحاته قاسية على كلينا فانتظر و سأجد حلا ، و دخلت اجلب له شيئا يشربه حتى يشعر بالدفء ، و حينما دخلت وجدت أمى تذهب إلى غرفتها للنوم ، ألقت علىّ التحية و تمنيت لها أحلاما سعيدة ثم دخلت إلى غرفتها ، و بينما كنت أعد مشروبا لحبيبى تفكرت فى برودة الجو و رأيت يدى تمتد إلى درج مكتب أبى تبحث عن مفتاح منزل أخى راضى ، و لما وجدته أغلقت باب غرفتى و كنت قد اعتدت على إغلاقه بالمفتاح بعد الازمة الاخيرة ، و هرعت إلى حيث يجلس مصطفى ، و بهدوء أخبرته بأننا سندخل إلى البيت حتى لا يصيبه البرد بأى أذى و دخلنا فى هدوء دون ان نشعل الإضاءة و اكتفينا بالحديث على ضوء هواتفنا ، كنا نجلس على الأرض لم نحاول حتى ان نزيل الاغطية من فوق أثاث البيت ، جلست إلى جواره و نظر فى عينى نظرة كان إحساسها غير كل مرة .
و بدون سابق إنذار أو بادرة منى أو منه التقينا فى حضن باكى ، كنت أبكى و هو يبكى لبكائى ، و يطلب منى العفو و السماح و يعتذر لأنه كان السبب فى تلك المواجهة بينى و بين أبى ، هدأت من روعه و أخبرته أن هذا أمر متوقع منه فهو هكذا و تلك طبيعته التى اكتسبها من نمط عمله ، لا تقلق يا حبيبى فأنا بخير ، المهم ان تكون أنت كذلك بخير ، عاد إلى حضنى و هو يقول : إنما الخير فى رؤياكى و الاطمئنان عليكى ، لا خوف على قلبى و لا نفسى ما دمت أراكى أمامى
لكنه قام و طلب منى الانصراف فنظرت فى الساعة وجددتها تقترب من الواحده و النصف ، تابعته حتى خرج من الباب ثم أشار لى بالتحية و أكمل فى طريقه بينما أنا صعدت إلى غرفتى و مشاعرى تفر من حارة لشارع بين فرح باللقاء ،و الألم لبكاء حبيبى ، و الخوف على حبه لى أن يتحول ، لكن النوم داهمنى بثقل و جعلنى أسافر معه فى رحلة طويلة لم يتركنى لليقظة حتى كانت الساعة العاشرة صباحا .
مر علينا سبعة أيام دونما اتصال ، دون موعد جديد ، حاولت الاتصال به فلم أجد رقمه متاحا أبدا ، شعرت بخيبة امل تجتاح قلبى ، و أحسست أن كل شئ قد ضاع و انتهى إلى الأبد ، هكذا كانت الدنيا معى ، دائما تجرحنى و لم أعرف معها طعم الفرحة أبدا ، لبيك أيتها الوحدة ، أقبلى من جديد ، أقبل أيها الهم ، أقبلى يا كل مشاعر اليأس ، ها انا أنتظركم .. و بينما انا أنتظر التعاسة و الشقاء رأيت أمى تخرج من غرفة مكتب أبى و هى تنادينى و تطالبنى ان أجمع ملابسى لنرحل من هذا البيت اللعين ، رأيت أبى يخرج خلفها و هى تحادثنى ثم تدخل غرفتها فيدخل خلفها فى **ت و ان**ار و لأول مرة أراها صاحبة اليد العليا فى الحوار ، أراد أن يغلق الباب فمنعته من غلقه ، ترى ما الذى يدور فى الأفق ؟ إن صوت أمى اليوم هو الأعلى و هى تهدد أبى بالرحيل من البيت و ليفعل ما يمكنه حينها ، و تخبره بأننى صرت فى السادسة و العشرين و بإمكانى أن اتزوج ممن أردت و سيكون لى ما أريد سواء رضى هو أو لم يرضى ، وجدتها تمسك بهاتفها فى يدها و تهدده باستدعاء النيابة و اتهامه باحتجازها هى و ابنتها و ليقل حينها ما شاء بعد شيوع الفضيحة فى المنطقة و وصول الامر إلى الصحافة ، قالت له : لقد صبرت كثيرا على رفضك لكل من تقدم لها لأنهم كانوا جميعا فى نظرها سواء ، أما هذا فهى تحبه ، ألا تفهم ؟ تحبه ، لن ا**ر قلب ابنتى و ازوجها بمن تريد أنت كما فعل أهلى معى و زوجونى بك على غير رغبة منى و برفض قاطع لك ، أبشر بقصتنا على صفحات الجرائد و امام النيابة لتحقق فى اسباب احتجازك لها و اجبارها على الانقطاع عن العمل الرسمى ، امامك فرصة اخيرة لتكفر عن تلك السنوات التى أحرقتها من عمرى فى العيش معك مكرهة ، أكرهك و أكره حتى مجرد نطقك لاسمى ، طلقنى حتى أرحل انا و ابنتى و ازوجها بمن تريد هى ، لن أتركها للتعاسة مثلى حتى و لو قتلتك .. قالتها و هى تمسك فى رقبته و تحاول بالفعل خنقه إلا انه ظل يجاهدها حتى أسقطها أرضا .
حينها لم اتحمل كل هذا الضغط و لم أفهم ما يجرى ، اندفعت نحوها و هى على الأرض ثم صرخت مستغيثة ثم سقطت فاقدة للوعى و لم أعرف كم من الوقت مضى و انا فى غير وعيى ، فتحت عينى لأرى أمى تجلس عن يمينى و كانت المفاجاة انى رأيت مصطفى على يسارى ، بينما كان أبى يخرج من الغرفة مع الطبيب فى مشاورات عن حالتى ثم يعود و هو يبتسم و يخبرنى بأننى قد صرت بخير ، بخير !! هل كنت أحلم أن أمى تهدد أبى أمام عينى و تخبره بحقيقة مشاعرها تجاهه ، لا لم يكن الحلم هكذا ، كانت امى تهدده باستدعاء النيابة و ابلاغ الصحافة ، لكن لم كان كل هذا ؟ كنت اتمتم بتلك العبارات بينما كانت امى تتابعنى فى **ت و نظرت لمصطفى و طالبته بال**ت الآن ، و انتبهت انا أن مصطفى جالس فى غرفة نومى بينما انا ممددة على فراشى فيما يناقض العرف هنا ، نظرت امى فى وجهى مبتسمة مبتشرة ثم طلبت من مصطفى الخروج مع أبى قليلا ..
قبّل مصطفى جبينى ثم ابتسم و أخبرنى انه سيعود بعد قليل ليطمئن أكثر ، و حينما خرج مصطفى من الغرفة نظرت امى فى وجهى و اعتذرت انها عرضتنى لهزة عنيفة كهذه ، لكنها كانت حتما ستحدث فى يوم من الأيام ، اخبرتنى ان مصطفى كان قد ذهب إلى والدى فى مكتبه ليطلبنى منه و عندما عاد روى لها ما كان فى أمره ساخرا و قال لها انه قد رفضه و طرده فهبت نيرانها فى وجهه و طالبته بالاعتذار له و استدعاءه من جديد و عندما رفض كلامها كانت تلك المشادة بينهما و بعدما سقطت امامهما تحول أبى من ذلك المتغطرس إلى رجل يبكى لشعوره بضياع ابنته و زوجته منه عاهد امى لو أفقت و كنت بخير سيطلب مصطفى و يعتذر له بنفسه و يتم الخطبة و الزواج ، و علمت اننى فى غيبوبة منذ ثلاثة أيام أفيق لأصرخ ثم أعود لفقد الوعى من جديد و هذه هى المرة الاولى التى أتكلم فيها منذ سقوطى .
و بعدما تحسنت حالتى تماما ، أخبرنى أبى أن بإمكانى الذهاب إلى العمل من جديد و انه قد تدبر أمر انقطاعى عن العمل بشهادة مرضية ، و أقبل الصباح من جديد و انا احضر نفسى و أتأهب للخروج فى ميعادى و عندما خرجت من غرفتى وجدت أبى و امى مع مصطفى يتناولون الإفطار ، كان وقع المفاجاة على قلبى غير متوقع نهائيا ، كانت السعادة تملا كيانى ، لو كان بيدى لقمت و احتضنته امامهما ، جلست على المائدة و جلس أبى ينظر لى ثم لمصطفى و أنا أختلس نظرة لمصطفى لأراه يبتسم فأبتسم ، ثم أعود انظر لأمى لأرى ابتسامتها تنير وجهها ثم نظرت فى وجه أبى فابتسم لى و قال : مب**ك ، لم اكن احتاج غير تلك الكلمة حتى أنظر لمصطفى فأراه يردد : الف مب**ك ، حتى نظرت أمى فى ساعتها لتخبرنا باننا قد نتاخر على موعد الاتوبيس و لذا فعلينا ان ننصرف على ان نعود لتناول الغداء معهم ، خرجنا انا و مصطفى من البيت و لأول مرة يمد يده لى فى الطريق لأمد إليه يدى و سرنا و نحن نتعاهد من جديد على ان تبقى أيدينا متشابكة و قلوبنا متعانقة ما تبقى لنا من حياة .
.