فى مدينة تتبع محافظة الدقهلية كنا نسكن أنا ( دينا ) مع أمى و أبى فى بيت من طابقين ، يجاوره مباشرة منزل اخى الأكبر ( معتز ) من طابقين كذلك لكنه مغلق لاقامته فى القاهرة منذ أعوام و لا يأتى إليه إلا كل عام مرة أو مرتين ، و الى جواره منزل اخى ( راضى ) و الذى كان على نفس النمط الهندسى للبيتين الآخرين ، الا انه كان مغلقا بشكل دائم نتيجة لسفره خارج البلاد فى مهمة عمل تستغرق أربعة أعوام يعود بعدها الى مصر لأربعة أخرى و هكذا ، و يحيط بالمنازل الثلاثة حديقة واسعة بينها و بين الطريق سور محيط بها ، كل يوم كنت أستيقظ من نومى على تغريد البلابل و شقشقة العصافير ، كان هذا هو الجزء الأجمل فى يومى ثم بعدها أرى تلك الوجوه ال**بسة التى كانت كلماتها معى معدودة لا تتجاوز العبور الى الاذن ، حتى جاء ذلك اليوم الذى رأيت فيه أبى يدخل غرفتى و معه بعض الاوراق ليخبرنى باننى قد تم تعيينى – على غير رغبته – فى وظيفة تتبع شركة شمال الدلتا لتوزيع الكهرباء ، و براتب مجزى ، قال ان هناك من أصدقائه من فاجأه بتلك الهدية كنوع من رد الجميل له على ما سبق من خدمات و لقد وافق لأنه يرانى فى فراغ رهيب و احتاج لتغيير الجو بعد أربع سنوات قضيتها فى البيت بعد التخرج لا أفعل شيئا إلا مشاهدة برامج التلفاز او الاستماع الى الموسيقى ، او إلى قراءة كتاب من اولئك الذين لا أبخل على نفسى فى جمعهم .
و ذهب معى بسيارته فى اول يوم للعمل ليوصلنى و عرفت الطريق و طلبت منه العودة بمفرده و اخبرته انى سأرجع فى أتوبيس نقل عام إلى البيت مما أثار غضب أبى ، و سألنى ممتعضا عن السبب فأخبرته أننى لا أريد له أن يتعطل عن شئ ، فانا بإمكانى أن أتدبر احوالى و سأذهب و أرجع فى وسائل المواصلات العادية كما كنت فى الجامعة فسكت و تركنى دون ان يناقشنى ، و كان من الواضح أنه قد اوصى هو و صديقه صاحب الهدية بان يكون عملى خفيفا يشبه التمرين ، كان الكل يعاملنى معاملة خاصة و ابتسامتهم دوما لا تفارق شفاههم عندما يحادثونى .. و مر أول شهر من شهور العمل و الحياة قد انتقلت من رتابتها فى المنزل الى رتابتها فى العمل و البرنامج اليومى ، كنت أخرج من البيت قبل الثامنة و استقل الاتوبيس إلى مقر عملى ، إلى أن حدثنى المدير أننى لا داعى لأن أذهب مبكرا الى العمل و بإمكانى ان أصل إلى مقر الشركة بعد الثامنة او قبل التاسعة بقليل ، و بالفعل خرجت فى الصباح التالى بعد الثامنة لأستقل الاتوبيس و الذى كان مزدحما عن الموعد السابق قبل الثامنة ، يبدو ان الأغلبية من الموظفين مثلى يذهبون الى مقار اعمالهم قرب التاسعة ، نظرت يمينا و يسارا فى الاتوبيس و لم أجد أى مقعد خالى ، و هنا رأيت احد الشباب ينهض من مقعده و فى عينيه كل مظاهر الإعجاب ليشير إلى أن أجلس مكانه ، و بعد ممانعة خفيفة جلست و انا ممتنة له
ظل واقفا دون ان ينظر إلىّ مرة اخرى ، حتى عندما توقف الأتوبيس فى تلك المحطة التى سأنزل فيها وجدته ينزل قبلى و لم يلتفت ، نزلت خلفه و انا أراه متوجها لنفس الشركة إلا أنه صعد إلى الطابق الثانى بينما كان عملى فى الطابق الأول ، و فى اليوم التالى ركبت الاتوبيس نفسه و وجدته جالسا و لما صعدت قام بابتسامة و كرر لطفه و كرم خلقه معى مرة اخرى و رغم رفضى فى البداية إلا أنه أصر ، فجلست و انا أبتسم له هذه المرة ، و عندما حان موعد النزول نزل قبلى ، لكنه توقف فى مكانه حتى نزلت و سار يتبعنى فى خطوات متثاقلة حتى لا يسبقنى ، فقد كانت خطواتى بطيئة منذ الصبا ، و عندما اقتربت من باب الشركة و صعدت اولى درجات السلم نظرت خلفى فرأيته و قد بدت عليه الدهشة ، فانتحيت جانبا على السلم و أشرت له باسمة بالصعود قبلى فتوقف قليلا و سألنى بصوت عذب رقيق إن كنت أعمل هنا ، فأجبته بالايجاب فابتسم و قال نحن زملاء إذاً ، أنا أيضا أعمل فى نفس المكان ، كم هى صدفة سعيدة ، منذ الغد سأحجز لك مقعدا فلو اننى كنت اعلم فى اليومين السابقين انك زميلة لحجزته لك ، فأنا دوما أبكر فى الجلوس فى ذلك الأتوبيس ، شكرته على لطفه و ابتسمت ثم انصرفت .
و فى اليوم التالى صعدت الأتوبيس فوجدته يجلس و إلى جواره مقعد خالى فقام من فوره و أشار لى بالجلوس فى اى مكان احب ، إلى جوار الطرقة أم إلى جوار الشباك ، فاخترت الشباك و جلست أشاهد الطريق بينما هو لم ينطق بكلمة واحدة حتى وصلنا ، فقط كان يمسك بكتاب فى يده يقرؤه ، لاحظت اسم الكتاب على الغلاف بنظرة عين ( أوراق على شجر ، لأنيس منصور ) لدىّ نسخة من هذا الكتاب ، إنه حقا كتاب رائع ، و لكن الأروع أن هذا الشاب قارئ يتضح أنه مطلع ، ظل يقرأ فى **ت و انا أختلس نظرة له بين حين و حين ، كان شابا يقترب من الثلاثين بقليل ، قوى البنيان ، مفتول العضلات ، طويل القامة ، عريض الص*ر فى غير غلو ، شعره ناعم و طويل كذلك ، **تنائى اللون بشكل يتناغم مع ملامح بشرته الخمرية ، له شارب و لحية قد اعتنى كثيرا بتهذيبهما و تحديد خطوطهما ، عيناه سوداوان معبرتان لهما وقع فى النظرة و الابتسامة و الهدوء ، كان يرتدى قميصا أبيض اللون و بنطالا من القماش الفاخر و حذاء أ**د اللون لامعا و يضع عطرا ما أجمل رائحته ، عبيره أخاذ ، بيده ساعة ........ ما هذا ؟ لماذا استغرق فى النظر إليه بهذا الشكل ؟ و لماذا انظر فى يده اليمنى و اليسرى أبحث عن خاتم الزواج أو الخطوبة ؟ إنه طيف عابر ، مجرد زميل عمل فى مكان يتسع لآلاف الموظفين الزملاء و الزميلات ، توقف الأتوبيس و انا هائمة بين أسئلتى تلك و الرد عليها و إذا بصوته بنادينى بهدوء :- سيدتى لقد وصلنا ، افقت و انا انظر من الشباك إلى الطريق ثم ابتسمت و نزلت من الأتوبيس خلفه لكنه توقف قليلا حتى نزلت ، و رأيته يريد السير إلى جوارى ، كان الطريق بين المحطة و الشركة حوالى خمس دقائق ، و قال فى هدوء ظننتك لن تنزلى هنا اليوم حينما توقف الأتوبيس لكن اتضح لى أنك كنتى منشغلة بشئ ، لعله خير . رددت عليه بعبارة مقتضبة و قلت : نعم لعله خير ، أو ربما ليس كذلك ، **ت قليلا ثم قدم لى نفسه و قال :- انا مصطفى بكالوريوس علوم حاسب و أعمل هنا منذ خمسة أعوام ، هل لى ان أعرف اسمك لو لم يكن هذا مزعجا لك ؟ فرددت عليه بابتسامة و قلت : دينا ، بكالوريوس تجارة و أعمل هنا منذ شهر تقريبا ، كنت اتمنى المزيد من أسئلته لكن ها قد وصلنا ، و ها هو يلقى على التحية و يستمر فى صعود السلم ، كنت اود ان أسأله عن عمره و ظروفه الاجتماعية ، لكن لماذا أريد أن أعرف ؟ ويحك أيها الفضول ! أمضيت اليوم كله و صورته تلمع أمام عينى ثم تختفى ، لست ادرى ماذا دهانى !
و انتهى اليوم و حان موعد الانصراف ، خرجت لأجده يقف على نفس الرصيف الذى ننزل عنده ، نظر إلى بابتسامة و حيانى برأسه ، فرددت عليه التحية بمثلها و ما هى إلا دقائق حتى جاء الاتوبيس ، صعد و هو يبحث عن مقعد او مقعدين فلم يجد ، ثم نظر بعينه إلى المقاعد و رأيته يتوقف إلى جوار مقعدين فى المنتصف يجلس عليهما رجلان ، ثم أشار لى أن ألحق به ، لا أعرف لماذا لبيت نداءه و ذهبت إلى هناك فرأيته يبتسم و هو يقول فى همس ، هذان الرجلان سينزلان فى المحطة القادمة فابتسمت و قلت له : من الواضح أنك تستقل هذا الأتوبيس منذ زمن حتى عرفت كل ركابه ، فابتسم و قال : نعم و لقد استفدت كثيرا من حفظى للوجوه ، و فى المحطة التالية نزل الرجلان ، فأجلسنى اولا إلى جوار الشباك ثم جلس و هو ينظر فى وجهى و يبتسم ، ثم ساد ال**ت بيننا ، لكننى لاحظت كأنه يريد أن يقول شيئا ما ، لكنه كان مترددا ، جاء المحصل فرأيته يدفع ثمن تذكرتين ، و لما هممت أن أخرج النقود من حقيبتى رأيته يبتسم و يقول : لا عليكى لقد دفعت .. امتزجت مشاعرى بين الدهشة و الخجل و الغضب ، و لما لاحظ كل هذا فى وجهى اعتذر و قال هذا واجب لا يمكن لرجل أن يغفله ، نحن زملاء يا سيدتى ، و لو كان أى أحد مكانى لفعل ذلك ، أتمنى ألا أكون قد أغضبتك بتصرفى هذا لكنى أعتذر لك على كل حال ، سكتت للحظة ثم قلت له كم عمرك ؟ فرد على بابتسامة ثم قال : ثمان و عشرون سنة ، أنا من قرية كذا .. كان من قرية تجاور مدينتنا و تبعد عنها بضعة كيلومترات ، ثم سألنى من أى البلاد أنتى ؟ فأجبته اننى من هذه المدينة ، حاول المراوغة لمعرفة مكان منزلى تحديدا لكننى لم أعطه الاجابة للسؤال الذى لم يسأله صراحة ، سكت قليلا و قال : هل لى ان أسألك سؤالا شخصيا جدا ؟ فأجبته و أنا أكاد أعرف السؤال لكننى لم أكن واثقة أن سيسأله ، فقلت له تفضل و اسأل ، فقال : هل انتى مرتبطة ، متزوجة ، مخطوبة ؟ فقلت له ما هذه الصفات الثلاث ؟ هل تجتمع فى امرأة واحده ؟ فضحك حتى بدت أسنانه و ظهر صوت ضحكته ثم قال : اختارى من بين الأقواس ، فسألته ألا يوجد اختيار رابع ؟ فقال : بلى و لكنى تركته ، فابتسمت و قلت له فأنا فى الحالة الرابعة ، فابتسم و قال بل هى الحالة الأولى ، و دون تردد سألته نفس السؤال ، فقال أنا كذلك فى الحالة الرابعة لست مرتبطا و لم يسبق لى الارتباط ، فهل سبق لك ؟ فأجبته بالنفى فرأيت ابتسامته تملأ وجهه كأنه قد تلقى خبر نجاحه ، و تبادل معى الحديث فى أمور متنوعة ، ما أعذب حديثه و ما أشهى صوته ، ما أوسع ثقافته و علمه و تطلعه و طموحه و ما أرق مشاعره ، كنت أصغى إليه و أنا أتابع تعابير وجهه و قسماته و ملامحه و نظرات عينيه التى ما كانت لتركز فى وجهى و لا ت**د او تثبت حين النظر إلى عينى ، تمنيت لو طالت المسافة و لم يتوقف ذلك الاتوبيس اللعين .
و عندما توقف الاتوبيس و نزلنا رأيته يقول لى : غدا فى الصباح ، نفس الموعد سأنتظرك ، تهلل قلبى و ابتسمت و أنا أومئ له بالموافقة ، و خطوت أولى خطواتى و انا اتساءل : هل هو يواعدنى بهذا الشكل أم أنه فقط يذكرنى بموعد الاتوبيس فى الصباح ! لماذا هذه السعادة و كأنه يواعدنى للقاء غرامى ؟ و لماذا يذكرنى لو لم يكن يهتم لرؤيتى ؟ و انا لماذا أهتم بكلماته تلك ؟ لم أعد أعرف نفسى أو كأننى لم أكن أعرفها من قبل ! لا أعرف كيف يتعامل الرجال مع النساء إلا فى الأطر الرسمية و لم أرى غيرها فى حياتى ، لكن هذا ليس أبدا شكلا رسميا ، عدت إلى البيت و انا اذكر أو اراجع كل ما دار فى ذلك اليوم ، كنت استرجع نظرات عينيه لى ، كانت مختلفة بحق ، فيها شئ غريب لم اعهده فى أى عين نظرت لى ، كنت استرجع كلماته و سكوته ، آراءه و ملاحظاته ، و كأنى كنت أجرى بحثا عنه بينى و بين نفسى ، و لأول مرة منذ التحاقى بهذا العمل أقضى الليل و انا انتظر الصباح ، و استيقظ من النوم و أنا أفكر ماذا سأرتدى و اختار من بين ملابسى أبهاها ، و من أرقى العطور أغناها عبيرا ، و أقف امام المرآة أهندم ثيابى و أنظر إلى جسدى من الأمام و التف لألقى عليه نظرة من الخلف ، و كلما حاولت التراجع عن تلك التصرفات حدثتنى نفسى بالتوبيخ قائلة : لابد من الهندام ، كيف تريدين لنفسك ان تكونى ؟ رثة الثياب غير مرتبة و لا منظمة ؟ لا داعى للقلق على شئ ، لكن لابد من القلق على مظهرك و هندامك و أنتى بين الآلاف من الزملاء و فى طريقك تمرين بالآلاف كذلك فكونى فى ازهى حلة و فى أبهى حالة .
و خرجت و انا اطبع قبلة على جبين أمى و وجنتيها و أقبل جبين أبى لأول مرة منذ التحاقى بالعمل ليبدى انزعاجه و اندهاشه و هو يقول : من الواضح أنك سعيدة بعملك هذا ، كنت اظنك ستطلبين منى بعد أول اسبوع لك أن تتركيه ، فابتسمت و انا اقول له هداياك تاج فوق الجبين ، فكيف لى ان أرفضها يا أبى ، و خرجت و انا أردد بينى و بين نفسى مقطعا من أغنية يقول ( هذه الدنيا كتابٌ أنت فيه الفِقَرُ ، هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العمرُ ) كان هذا المقطع يتردد فى سمعى و على ل**نى حتى وصلت إلى المحطة ، ربما لأننى كنت أستمع لهذه الأغنية بالامس و تركتها تتكرر مرة بعد مرة ، لا بأس المهم أنه مقطع جميل يستحق الاستماع ، صعدت إلى الاتوبيس و لكنى لم اجد مصطفى فى انتظارى ، و لم اجد مقعدى و لا مقعده خاويين ، كان هناك من سبقنا إليهما ، توقفت الاغنية فى عقلى ، و وقفت فى الطرقة و أنا أفكر أين هو ؟ و لماذا لم يأتى ؟ ترى هل به مكروه ؟ ظلت عينى تبحث عنه فى أرجاء الاتوبيس دون جدوى ، هل هو فى إجازة اليوم ؟ فلماذا لم يخبرنى بالأمس ؟ و لماذا أكد على الموعد ؟ و انطلق الاتوبيس حتى وصل إلى محطة النزول ، نزلت و انا لا زلت انظر فى وجوه من ينزلون من الاتوبيس لعلى اجده بينهم فلم اجده ، و مضى يوم العمل و هو ثقيل جدا على قلبى و روحى و ضاع أملى فى أن ألقاه فى رحلة العودة حينما صعدت الاتوبيس فلم أجده كذلك ، و عدت إلى البيت و أنا فى حالة غير تلك التى خرجت بها فى الصباح ، لماذا ؟ لا أدرى
و أقبل الصباح و أنا أحلم أن أجده اليوم و اطمئن عليه بعد افتقاده بالامس ، و راجعت هندامى و وضعت عطرى و أنا اخرج من البيت و بينى و بين نفسى أمل فى رؤيته و خوف من افتقاده اليوم أيضا ، لم أعد أسأل نفسى و لا أبحث عن اسم لما أشعر به ، فأيا ما كان ، هو احساس جميل ينعش روحى و لا داعى للبحث عن معناه ، وصلت المحطة و صعدت الاتوبيس و انا اوجه نظرى على موقع جلوسه وجدته يقف مبتسما يشير إلىّ ، خفق قلبى بقوة و انف*جت أساريرى و ابتسمت ملامحى قبل شفاهى و ذهبت إليه وأنا أكاد أكون مهرولة و كان سؤالى له حتى قبل أن اجلس : مصطفى ! أين كنت بالامس ؟ فابتسم و هو يعتذر أشد الاعتذار و يقول جاءنى هاتف فى المساء أول أمس يخبرنى أننى فى مأمورية للمتابعة فى أحد المواقع و ما كان بأمرى أن أرفض ، و لكن تيقنى اننى لو كنت املك وسيلة اتصال بك أو كنت أدرك أنك ستهتمين لغيابى لأخبرتك ، أجبته و أنا مندفعة و كيف تصورت ان الأمر لا يهمنى ، ابتسم و قال أعلم أنك قد وقفتى يومها و لم تجلسى ، تجهم وجهى و نظرت إليه بغضب و قلت بلهجة حادة : لا تتصور أن اهتمامى لأمر غيابك كان بسبب جلوسى أو قيامى ، إنما كان ذلك قلقا عليك و انت قد أكدت على حضورك ، فكيف لى ان أتصور سبب غيابك ، لقد تصورت أمرا سيئا قد حدث و دارت الظنون فى رأسى ، حينها وجدت ملامحه فى حالة ثبات و عيناه متسعتان كأنه قد فوجئ بأمرى ، و حينها قطعت كلامى و أعرضت بوجهى عنه و انا ألوم نفسى على كلامى قبل قليل ، و ظللت فى **ت تام حتى وصلنا رغم محاولاته بفتح أى مجال للحديث ، لكن **تى كان يشبه الحالة المرضية لا أعرف كيف فسر قلقى عليه ، لكنه احترم **تى و سكت حتى نزلنا من الاتوبيس و انطلقت فى عجلة إلى مقر الشركة ، و لكننى امام السلم توقفت أنتظره من جديد .
ويلى من نفسى ، ماذا أصابنى ! ماذا أريد أن أقول له ، توقف أمامى لحظة ثم تابع قائلا : أعتذر إن كنتى قد تصورتى أن فى كلماتى إهانة لك او لمشاعرك الطيبة بالقلق علىّ و لكن لى العذر يا سيدتى ، فكيف لشاب مثلى أن يتصور أبدا أن فتاة مثلك قد احتوت من الجمال و الانوثة و الرقة و الدلال ما لم أراه يوما بعينى ، فتاة فى كامل رونقها و رقتها و جمالها قد تنشغل بغيابى أنا ! كيف لى ان أتوهم أن قمرا لا يعرف المغيب فى أيام الشهر كلها قد يلحظنى بين البشر و يشعر بغيابى و انا أقصى امنياتى ان أقف بين خيوط ضيائه و لو للحظات ! و كيف لى أن أعتقد مجرد اعتقاد أن حضورى و غيابى ليسوا بسواء ! تعجز الكلمات على ل**نى و تقف العبارات فى حلقى إن حاولت ان أصف لك كيف أراك بعينى ، بل تعجز عينى حتى عن إطالة النظر لملامحك الرقيقة ، و نظرات عينيك الحانية الدافئة ، ما لا يمكن لبشر أن يتصوره هو أننى أعيش أجمل لحظات السعادة فى ذلك الاتوبيس عندما أكون معك يحتوينا مكان واحد ، عندما اكون إلى جوارك ، بينى و بينك سنتيمترات قليلة ، لو نطقت بما أشعر به سيدتى لعجز ا****ن عن النطق بعدها ، و لكانت حياتى بعدها فى **ت مطبق لست اختاره أنا ، بل سيختاره لى القدر .. ألقى عباراته على مسامعى ثم انصرف و تركنى .
كنت أسمع كثيرا و أقرأ كذلك عن دوران الأرض حول نفسها و لكن هذه هى المرة الاولى التى أشعر فيها بدورانها ، توقفى أيتها الأرض فلم اعد أحتمل الوقوف على قدمىّ ، أين أقف ، و من ذاك الذى كان امامى منذ قليل، و ماذا قال قبل أن يغادر ؟ هل كان هنا أحد من الأساس ، أم أننى فى حالة إعياء و اتصور أشياء غريبة ، ماذا يجرى بحق السماء ! قلبى يرتجف ، و عينى لا تقوى على رؤية الضياء ، و جسدى يترنح و الأرض تدور مسرعة على غير قانونها ... لا ليست الأرض هى التى تدور ، إنما الدوار قد أصابنى .. هرولت لأول مقعد صادفنى و جلست لأستريح مما أعانيه ، مر اليوم فى سرعة رهيبة و انا خائفة من الخروج إلى المحطة ، و قلبى يرتجف و يرتعد لمجرد تصورى اننى سأراه واقفا ينتظر ، و كان ما كنت اخشاه وظل ينظر لوجهى دون ان ينطق ، حاولت ان ألقى عليه التحية فلم أستطع ، لا أعرف هل تحرجت أم انتظرته ليبدأ ، صعد إلى الاتوبيس و وقف فى نفس المكان إلى جوار الرجلين ثم نظر نحوى ، و دون استدعاء منه ذهبت لأقف إلى جواره ، ابتسم أخيرا و نظر لوجهى و لم ينطق فابتسمت و انا اوارى خجلى بالنظر إلى الأرض ، فبادرنى بالحديث و قال : لقد بدأتى تحفظين الوجوه مثلى ، ضحكت و أنا لا زلت اوارى خجلى فلم يعرف هو بعد اننى قصدت الوقوف إلى جواره لا إلى جوار المقعد الذى سيخلو بعد قليل ، نزل الرجلان فأجلسنى أولا ثم جلس إلى جوارى و انطلق ل**نه .
سألنى : أما زلتى غاضبة منى ؟ فأجبته : لم يكن غضبى منك ، بل كان مما تصورته أنت ، فتابع السؤال التالى : هل أغضبك كلامى فى الصباح امام السلم ؟ هنا تذكرت حالتى وقتها و عادت إلى نفسى و قلبى تلك المشاعر الخاطفة و سكتت و أنا انظر فى الأرض بينما هو لم ينتظر الإجابة و سألنى عن رقم هاتفى المحمول ، و بدون تردد منحته إياه فسجله على هاتفه ثم طلبنى فنظرت الى رقمه و سجلته كذلك ، فسألنى من جديد : هل هناك مانع لو اتصلت بك ؟ فأجبته و انا ابتسم فى عتاب : لا مانع أبدا ، على الأقل لأعلم متى ستغيب ، و أتدبر حالى فى البحث عن وسيلة أخرى للمواصلات ، فابتسم و قال : لا تحفظيها لى ، كانت كلمات ، مجرد كلمات فقط ، فسألته : هل كان كل ما قلته اليوم مجرد كلمات ؟ لكنه رد فى عجلة و قال : لا ، كانت أصدق كلماتى ما قلته لك أمام سلم الشركة اليوم ، و لو كان الوقت متسعا لقلت المزيد و المزيد و كل ما كنت سأقوله كان الصدق بعينه ، لكننى كذلك أرجو مسامحتى إن كنت قد تطاولت او اسأت الأدب .. ابتسمت و قلت له فى ثقة : كلا لم تسئ و لم تتجاوز يا مصطفى لكن ربما أنك كنت تريد الاعتذار على سوء ظنك فبالغت كثيرا ، فأقسم أنه لم يبالغ و أننى كما وصفنى بل و أكثر روعة من وصف حروفه ، و حينها أصابتنى حمرة الخجل حتى شعرت بحرارة تجتاح وجهى و تصيب وجنتىّ بتدفق الدم بغزارة إليهما ، و لم يتراجع مصطفى بل إنه قال فى صوت هامس : ما أجملك فى كل حال ، حتى فى غضبك ، فى **تك و فى نطقك ، فى خجلك أشعر بوجهك يحمل وردتين يانعتين على جانبيه ، ما أروع الجمال الممتزج بالحياء مع ابتسامة رقيقة ، آآآه و كأنى أشاهد لحظة تستحق أن يسرع كل رسام بلوحاته و ادواته ليرسمها ، و ما أخجل الورد الأحمر حين يرى خد*ك الآن ، سيلملم حاجياته و ينسحب ليقينه ان هناك ما هو اجمل منه و من ألوانه ، يا ليتنى كنت شاعرا ، أقسم أننى كنت سأغزل الآن قصيدة بديعة النسق و المعانى فى وصف ابتسامتك هذه وحدها ، و لكنت سأقضى أعواما أنجز قصيدة فى وصف عينيك و اكتب كل يوم فيها عشرة أبيات لتوضع فى مقدمة الشعر الغزلى .. و لو كنا فى مكان آخر لغنيت لك بصوتى أروع ما غنى المغرمون .
كفى ، أرجوك كفى لا تزيد على كلامك هذا حرفا ، قلتها بينى و بين نفسى و أنا أعجز عن النطق با****ن ، بماذا تجيب الفتيات فى تلك اللحظات ؟ لا أدرى ، هل أغير الموضوع ، هل أقوم من مكانى هذا ؟ إننى حتى لا أقوى على التفكير فيما سأفعل ، أريد دفعة اكبر و اقوى من الا**جين ، أشعر ان قلبى المسكين يحتاج للمزيد منه الآن حتى يقوى على تحمل نبضاته المتسارعة ، فتحت الشباك و نظرت بالخارج لأراه يقاطع نظراتى و هو يقول : لا زال أمامى وقت حتى أخبرك بشئ فى نفسى ، دينا ! قد يشعر الانسان بالسعادة بين عشية و ضحاها ، لكن السعيد بحق هو من يحافظ على بقائه فيها ، فهل تأذنى لى بالبقاء ؟ تعجبت من كلامه و من سؤاله و قلت و انا بالكاد يخرج صوتى : لا أفهم ، أين تريد البقاء ؟ و لم تستأذننى انا ؟ فأجابنى و هو متردد يحاول جمع شمل الحروف و قال : استأذنك لأنك صاحبة الاذن فعلا ، و أريد البقاء فى ظل واحتك ، لا اريد يوما ان أشعر باننى غريب عنك ، لا أريد أن أرى غضبك منى فى يوم من الأيام ، اجعلينى قريبا منك ، فأجبته و انا قد اعتدت كلماته الرقيقة : القرب لا استئذان فيه ، و لا إذن له ، هو وجدانى لا سلطان لأحد عليه ، لو كان القرب مدينة لسكنها كل الناس ، إنما هو إحساس .. نظر إلىّ و عيناه تلمعان يملؤهما بريق استنفد كل طاقاتى و قواى ، و كانت ابتسامته تتأرجح على شفتيه و كاد ان ينطق بكلمات اخريات ما منعه عنها إلا توقف الاتوبيس ، نهض من مكانه و انتظر حتى وقفت ثم نزل أمامى و انا خلفه ، كنت أستند إلى الباب فى الصعود و النزول ، لكننى اليوم رأيته يمد يده لى ، نظرت – و الدهشة و المفاجاة تعترينى – إلى وجهه و يده فأومأ برأسه لكننى ما لبيت و استندت للباب كما أفعل كل مرة ، لكنه لم يغضب و كرر محاولته من جديد و هو يمد يده لمصافحتى هذه المرة ، مددت له يدى و أنا أظن انه سيكتفى بلمسها فقط ، لكن يده احتضنت يدى و كانت يدى مستسلمة فى حضن يده ، يالها من لحظة لم تغادر ذاكرتى أبدا ، هل هذه مصافحة ؟ لا ، إن ما شعرت به وقتها من حنان و سعادة و حنين و خفقان قلب لا يعبر عن مصافحة يد ليد ، بل انها مصافحة قلب لقلب ، ابتسم فى هدوء و هو ينظر إلى يدى و عيناه فى عينى للمرة الأولى ، طالت النظرات حتى انتبهنا اننا فى وسط الطريق ، نزعت يدى من يده و انا أنظر فى عينيه مبتسمة بينما هو ينظر فى **ت و كأن قلبه يحدث قلبى ، قاطعت حديث قلبه و قلت له : غدا فى نفس الموعد ؟ ليجيبنى و هو يقول سأكون هنا قبل الموعد بساعة كاملة ما عدت أسمح لأحد أن يخرجنى من السعادة و أفنانها ، فابتسمت و انا أسير فى ع** اتجاه سيرى كل مرة ، أين ال*قل الذى سيستوعب كل ما دار اليوم ، لقد تعبت كثيرا ، تعبت روحى و ما عاد فى عقلى ثبات ، اليوم غير كل أيامى ، كل الموازين تختل ، حتى توازنى قد اختل .
...