القصة الاولي #لقاؤها يعني الحياه
#لقاؤها_يعني_الحياة
#كاملة
طيلة عمرى لا أقبل بنظرات العطف فى العيون الناظرة لعينى ، و ما ارتضيت الإقامة فى مكان أشعر فيه بالغربة إلا لأنى استشعرت وجودها فيه ، فتحول إحساسى به ، و ظننت أن فيه الوطن .. و بحثت فى كل الوجوه المحيطة عن وجه تألفه النفس فما وجدت ، حتى وجهها حكم القدر حكما صارما بغربتى عنه ، ملأنى الرعب من كل وجه أو عين نظرت فى عينى .. و أصبحت تائها حائرا لا يعلم إلى أين يذهب ، ينظر فى كل ناصية و كل اتجاه لعله يجد علامة ترشده ، و لكنه لا يجد إلا الظلام الحالك يحيط به ، فأعود أجلس فى منتصف الطريق ، نعم فى منتصف الطريق ، حتى لو مر عابر سبيل يأخذ بيدى إلى حيث البداية ، و قد تكون نهايتى وقت الفرار ، لكننى مع الضيق المتنامى تمنيت أن أخرج من ذلك العذاب حتى و إن ازدادت غربتى و اختنق ص*رى من جديد ، حتى و إن كان القادم يحوى ما سوف يقودنى إلى ما هو أظلم من هذا ، و لكنها هى النتيجة .. نتيجة العشق الذى لا يجعل صاحبه يفكر و لو قليلا فى الزمان و لا المكان ، كل ما يفكر فيه هو الحب نفسه حتى لو قاده إلى مهلك .. ما ظننت أن تتبنى الليالى تلك العذابات و الجراح المتوالية ، لتطيح بعشقى و تطيح بتوازنى معا ، لا الأرض كما تعودتها ، و لا الليل كما عاهدنى ، و لا النهار له شموس ، و لا القمر يوحى إلى قلبى بشئ .. تجمدت كل الأفكار ، و تبلدت كل المشاعر فى ليل بعد ليل و ظلام بعد ظلام ، و صار طعم الحلو لا يجذبنى ، و لا طعم المر يؤلمنى ، واقف فى مكانى و كل شئ من حولى و بداخلى قد توقف .. فهل من عودة ! أين من تحدثوا عن الحب و عذوبته و أفراحه ! ما رأيت منه إلا الأطراح .. فليأتوا ليعيشوا فى مثل موقفى هذا و ليخبرونى ..
قالوا عن الحب ، و استطالت أقلامهم بكل ما استطاعوا كتابته ، لكن مع كل ذلك ، لا زلت أرى العجز يصيب الأقلام عن وصفه و التعبير عنه ، فبعد البحث فى كل كتاب عن الحب ، و كل دواوين الشعر ، لم أصادف ما يعبر عنى ، و لا عن ما شعرت به و لا زلت أشعر .. تلك النبضات المتتابعة ، المتغيرة ، المتغايرة ، المتلونة ، ماذا عنها ؟ تارة أرى القلب يرضى عن الواقع و يصدقه عنوة فلا حيلة فى تغييره ، و تارة يسخط حزينا مهموما يلعن الواقع و الظروف و المعطيات التى تجعلنى لا أقوى على ترك مكانى هذا ، و تارة يستقر فى بؤرة رمادية محايدة ، دون سابق إنذار و قد أرهقه العناء .. و تلك الأعين الساهرة ، الناعسة ، المتألمة ، تارة أراها تبحث فى شغف ، و تارة أراها تهدأ و تستكين مستسلمة للنوم لعلها تجد فى عالم الاحلام تعويضا عما أسفر عنه الواقع و أفضى بى إلى عذاب بعد عذاب ، لكنها لحظات سرعان ما تتبدد باليقظة على الألم من جديد .. و تلك الأنامل المنطلقة ، النشيطة ال**ولة ، تارة أراها تتدفق بالحروف لتعبر عن ما فى القلب ، و تارة تسكن دون حراك .. ذلك الشوق المتنامى ، المنبعث من بؤرة الحرمان من اللقاء ، الصابر على البعد ، الحاقد على كل الظروف ، تارة تعلو موجاته ، و تارة تخفت بلا أنين .. و ذلك الليل الصديق ، العدو اللدود ، القريب البعيد ، تارة يصاحبنى فيملأ قلبى بهجة و ضياء مع ذكرى ابتسامة من عينيها أو همسة واعدتنى بها الدنيا من شفتيها ، و تارة يهجرنى و لا يترك لى إلا ظلامهحينما أذكر أن النهاية تناقض البداية أيما تناقض ، كل شئ و نقيضه ، يجتمع داخل هذا القلب .. قلبى ، فهل وجدتم تفسيرا له فى أعرافكم ، أم أنه دلالة واضحة على الجنون و الهروب بلا قرار لعالم معتم قاعه سحيق و ظلماته لا تتيح للعين رؤية حتى بعد الخروج منها ، يقبع فيه كل أولئك الأش*ياء الذين عاندتهم الدنيا فمنعتهم الحياة و لم تعترف بما وجدوه فى قلوبهم .. أين تلك الليالى التى تغنى بها الشعراء عن لقاء الحبيب و ما يبعثه فى النفس من إشراقة تزيل كل حجاب بين القلب و بين سعادته .. و أين أغانى العشق و قصائده حتى أتغنى بها كما تغنى بها من سبقونى ، أين أنا بين كل ذلك ؟ على قارعة الطريق حزمت امتعتى و قررت الارتحال .. فإلى أين سأرتحل ؟ و إذا قررت العودة ، فإلى أى مقام سأتوجه ؟ فليخبرنى من اطلع على مثل حالى - إن كان موجودا - حتى أستلهم النصيحة من كلماته ، فيرشدنى و يوجهنى و يأخذ بيدى من هذه الدائرة .. أين اليد التى ستمتد نحوى كيد من خلال الموج مُدّت لغريق ؟ أين البريق الذى يظمأ السارى له حتى أركض بكل عزم نحو ذياك البريق ..كانت عيناك يا حبيبة القلب هى المأوى لى من كل جرح ألمّ بالقلب أو اعترى الروح ، و الآن بعد حكم الدنيا ، أنى لقلبى أن يقر فى مكان ، أو لروحى أن تستقر مستوعبة أحداث الزمان !
نسمة ، و آه يا نسمة فى حبك أنا الجانى و المجنى عليه معا ، نسمة ، ذلك الاسم الذى طبع على صاحبته كل معانيه ، لا أدرى هل أحببتها بعد ميلادى أم أننى خُلِقت به فكل ما أعرفه أننى منذ الصبا و حتى اليوم و أنا أذوب فيها عشقا ، متيم أنا بسحرها الأخاذ الذى يوما بعد يوم كان يتعالى فى النفس صداه و يسافر بى عبر حدود قد لا يكون لى الحق فى اختراقها لكننى لم أكن لأقوى على المقاومة .. أحببتها حتى قبل أن أعرف أن ما أشعر به تجاهها هو الحب ، جمعتنا صفوف الدراسة فى كافة مراحلها إلا المرحلة الجامعية ، كنا أبناء منطقة واحدة ، فى محافظة الأسكندرية ، تشابهنا فى الكثير من الظروف الاجتماعية و المادية كذلك ، بينما كانت هى الكبرى بين أختيها ، أما أنا - يوسف - فكنت الأصغر يكبرنى أخ و أخت ، و قد تزوجا و انتقل كل منهما إلى بيته المستقل بينما بقيت وحدى مع أبى و أمى و قد جاوزا الستين بقليل ، أقعدهما المرض و الكبَر فتراجعت حركاتهما داخل البيت ينتظران النهاية ، كان أبى دوما يردد بأن رسالته فى الحياة قد اقتربت من نهايتها و ما تبقى إلا أن يسلمنى - كما كان يردد - لزوجتى المستقبلية ، و التى كنت أراها فى خيالى دائما نسمة ، ما تخيلت نفسى مع غيرها يوما ..
لم نفترق أنا و هى يوما حينما كانت تضمنا صفوف الدراسة حتى الثانوية ، كنا دائما نلتقى و الشوق يصحبنا و الحب يملأ قلبينا ، لكن دون تص**ح ، أحببتها بينى و بين نفسى ، و كتمت هى الحب عنى حتى حان وقت التص**ح فى يوم منت علينا به الدنيا و جادت يدها على غير انتظار لتبدأ مراسم القرب فى ذلك الحب الذى كبر و شب و استوى عوده مع كل يوم مر بنا فى العمر ، كان الكل حولنا لا يعرف قصتنا و كنا دائما نحافظ على الخصوصية و سرية علاقتنا حتى لا تصيبنا سهام النقد أو التجريح فى مجتمع يعتبر الحب إثما بل و يحاربه أحيانا تحت مظلة التقاليد و كأن الحب خروج عن النص أو تطاول على الفضيلة ، كان الحب داعيا لنا دائما على التفوق و الظهور فى أبهى صورة ، حتى فى لقاءاتنا التى كانت تتم فى سرية تامة عند إحدى الصديقات - هناء - التى تبنت قصتنا و جعلت من بيتها مأوى للقاء العشيقين ، كان التص**ح بالمشاعر فى بيت هناء حينما كنا فى المرحلة الثانوية ، يوم أن لاحظت فى عيونى و عيونها ما نشعر به فسألتها و سألتنى و لما رأت ما يغشانا من شعور يملأ قلبى و قلبها قررت أن تكون البداية عندها لحبها البالغ لى و لها ، فرتبت لذلك اللقاء و ساعدتنا الظروف بها كثيرا فهى وحيدة لوالديها وقد اوهمتهم أن لقاءنا للاستذكار فى غرفة الصالون ، و كانت دائما هى و زوارها محل ثقة من والديها أو فلتقل أن الأب و الأم كانا دائما منشغلين بما لديهما من أعمال و تجارة فكان اللقاء دوما يحمل طابع الخصوصية الشديدة ، بينما كانت هناء لا تجلس معنا أصلا فقد كانت تدخل تلك الشرفة التى ليس لها ممر إلا نفس الغرفة التى نجلس فيها ثم تتركنا لنتجاذب أطراف الحديث ، و فى ذلك اليوم الذى لن أنساه بدات نسمة بالحديث بالتعجب من كوننا جيرانا و زملاء دراسة و مع ذلك لم نجلس معا فى أى وقت مضى ، و بعد الحديث عن قيود مجتمعنا كان الحديث عن المشاعر المقيدة كذلك و كيف يمكن أن تخرج بينما يخشى عليها العاشق عوامل الصدود أو النفور، و هنا كانت نسمة هى المحرر لتلك المشاعر من كل قيد حينما أرادت لى التص**ح بما أشعر لأرى هل حقا خوفى على عاطفتى من الصد فى محله أم لا ، و كان النطق حينها بكلمة الحب ، و ما كنت أدرى أن السعادة فى الحب تكون وقت التعبير عنه لمن نحب ، حينها ابتسمت نسمة ابتسامة تملؤها آلاف المشاعر ما بين سكون و حياء ، ما بين أمل و رجاء ، و ما بين حلم و حقيقة ، لمحت فى عينى انتظار كلماتها أو ردها بالأحرى ، و ترددت قليلا ثم قالتها بإحساس نادر يخترق القلب مقتحما كل حصن ، و ما أشهى تلك العبارة حينما يسمعها العاشق من معشوقته ، هو إحساس لا يبقيك على سطح الأرض ، فإن كنت تريد الطيران و التحليق فى مدارات الأفق على امتداد البصر فانصت بقلبك لصوت حبيبك حينما يتلو عليك عبارات الشوق لك ، طافت كلماتها بقلبى و بروحى فى عوالم أخرى لا تتسع إلا لعاشق ، و فى منتصف الحديث سكتت الألسنة و تحدثت القلوب وحدها و كانت العين للعين لغة أخرى تروى آلاف العبارات فى لمحة فقط ، ما كنت أعرف قبلها ان لغة العيون الأم هى لغة الحب ، و لا كنت أعرف قبلها أن القلوب حينما تنطق تتنحى الألسنة فلا تجد دورا لها فى تلك اللغات ..
و توالت اللقاءات فى بيت صديقتنا مرة او مرتين فى الأسبوع ، صرنا أقرب و أقرب يوما بعد يوم ، ما عاد بيننا أسرار نخفيها ، كانت تروى لى كل شئ عنها و كانت تعرف عن حياتى كل تفصيلة ، و ما كان بيننا فى تلك الأيام إلا لمسة اليد لمسة خاطفة لا تتعدى الثوانى ، حتى اختارت لنا تلك الصديقة يوما كان البيت فيه خاويا من والديها ، يومها ذهبنا معها بعد انتهاء درس خاص إلى البيت بدعوة منها و نحن لا ندرى أن والديها قد غادرا منذ الظهيرة لموعد الطبيب الذى يعالج والدتها ، و هنا أدخلتنا - هناء - إلى الصالون ثم خرجت و لم تدخل الشرفة كما عودتنا و هى تقول أنها ستجلس فى غرفتها حتى يقترب موعد وصول أهلها من الخارج ، و لست أدرى لماذا تهللت و انف*جت أساريرى أكثر ما كانت منف*جة ، و جلست إلى جوار نسمة و أنا أبتسم ابتسامة الفرحة لشعورى بالأمان هذه المرة بشكل أكبر ، و أخذنا الحديث الهائم عن ما نجد فى قلوبنا و انطلق ا****ن بما يعجز عنة البيان و طالت لمسة اليد حتى تحولت إلى اشتباك الأصابع و كأنها فى معركة احتضان ، ثم رفعت يدها إلى فمى و قبلتها فى كل أنحائها و كأننى كنت أراها واحة بما حملته رسماتها من وديان خصبة ع**ت ملامحها على أصابعها و راحة كفها ، نظرت فى عينيها و أطلت النظر حتى اقتربت و اقتربت و هى تتابعنى فى ترقب و اشتياق رفع حرارة أنفاسها و زاد من سرعتها حتى شعرت بشفاهها تناجينى و تطلب القرب من شفتى لكن شجاعتى خانتنى ، خشيت عليها و خشيت على نفسى من لحظة نترك فيها الأرض و نرحل حيث اللاعودة ، و كيف لمن استبد به الظمأ أن لا ينزل بجسده فى نهر ماء عذب صفا أمام عينيه و بلغت عذوبته أقصاها ، ضممتها لص*رى فضمتنى ضمة الأم لوليدها بحنان جعلنى أشعر فيه باستجابة من شعر رأسى حتى قدمى ، زادت الضمة و تمنيت لو أننى أعتصرها حتى تذوب بداخل جسدى فلا تفارقنى بعدها ، و هى تردد همهمات لم تسمعها أذنى و لكن استقبلها قلبى و تولى عملية تحويلها لحروف و كلمات جعلتنى أمرر يدى فوق رأسها لكن حجبنى غطاء رأسها عن بلوغ أصابعى لشعرها و كان أول ما طلبته منها حينها هو أن أرى شعرها دونما حاجب ، و آه من تلك اللحظة حينما ابتسمت مستجيبة و هى تخلع عنها غطاءها و تفرد شعرها بيديها لينسدل على كتفيها بتحرر و كأنه كان يريد ذلك ، و هنا اكتملت اللوحة الفنية لذلك الجمال و رأيته بوضوح و بعين لم تشاهده من قبل ، عيناها العسليتان كبحرين عميقين بين شاطئين فى غاية الرحابة و الاتساع ، لا يخوضهما إلا بحار ماهر متمرس طاف بسفنه آلاف الرحلات حتى نال من خبرة الأمواج ما ينقذه من الغرق ، أجفانها و أهدابها تحكى عن السحر الحلال حكاية من أسره السهد بينهما ، جبينها الذى جعلنى أرى فيه الأفق وقت شروق الشمس ، أنفها الأقنى الذى ما شهدت مثله لا من قبل و لا من بعد ، أما بعد .. خدها الذى تلون بلون النبيذ و حمل صفاته فى جعلى أترنح كمن شرب الخمر حتى الثمالة ، شفاهها نهران تعانقا و تكاملا فى العذوبة و الرقة و الألوان الزاهية البهية ، و عنقها الذى فى خفة التفاتته كعنق الظبى المترقب يتحرك كما يحلو له ببطء و برشاقة ، بدقة و بعشوائية ، و هل مثلى من يقوى على تحمل هذا الجمال ! و آه من شعرها المسدول فوق كتفيها بنعومة و نضارة تجعلها كفيلة بنيل جائزة فى جمال الشعر و نعومته و سواده الحالك الذى ينير مع ظلمته وجهها الأبيض ، يا لجرأته حينما ينزل بجسارة على ظهرها فيغطيه ليوارى ما ترتديه فلا أراه إلا إذا انحسر عن ثوبها أو ناجاها أن يمر على ص*رها فارتحلت هى به لتع** اتجاهاته ، قصيرة هى بعض الشئ لكنها ملفوفة القوام ، جسدها قد استدار و استنار بما حواه من معالم الأ***ة ، بضُّ جسدها حينما تخطو فتراه كموج البحر انسيابية و هدوءا أو مدا و جزرا أحيانا ..
كان عبيرها و هى نائمة على كتفي متدفق إلى قلبى الذى استقبله بفرحة ليحفر وسمه على جدرانه فما فارقنى بعدها و لا استطاعت أن تستتر عنى فى مكان ، كنت أشعر بذلك العبير و يخفق له القلب بشكل متتابع حينما يستشعر وجودها ، قبلت رأسها و جبينها و أنا أقدم لها كل الوعود بأن يبقى ما فى القلب على حاله هذا حتى لو بلغنا نهاية العمر ، و عاد الشوق يناجينى للارتواء من كأس الخمر العتيق الممتلئ برحيق نسمة الفجر الربيعى ، ذلك النبع المتدفق فى شفتيها لم يترك فى عقلى و لو نقطة من بحره ، جفت ينابيع ال*قل و حلت محله صحراء قاحلة تناشدنى أن أحيلها مرة أخرى مروجا و أنهارا و أرضا خصبة تنبت الزرع و الثمر ، و لبيت النداء و استجبت للمناشدة و اقتربت حتى بلغت شفتيها بشفتى ، و آه من تلك اللحظة التى لا زلت حتى اليوم أستشعر نبضاتها فى القلب و طعمها الذى جعل الدماء فى عروقى تتدفق تدفق السيل منحدرا من جبال شاهقة الارتفاع ، و يا لروعة الاحساس بارتواء القلب مع الأوردة من عذوبة شفتيها ، لا تحتاج القبلة لخبير حتى يستشعر حلاوتها و ما انطوت عليه من جمال و خيال ، فقط اغمض عينيك و اقترب بشفاهك من شفاه الحبيبة و اترك نفسك تتنعم حتى تشبع ، و من أين يأتى الشبع ! و هل للقبلة نهاية ! لو قضيت العمر أنهل من تلك الشفاه ما تراجعت حتى يمر الصيف فلا تش*ينى حرارته و حتى يجئ الشتاء فلا يطاردنى ببرودته ، و ما الدنيا بين أحضانها إلا نسمة ، نسمة ربيع لم يخالف قواعد اسمه ، كنت أشعر مع كل ضمة لها بأن الكون يحتفل معى ، ازدادت تغريدات الطير رنينا و زاد حفيف ورق الشجر نعومة ، و لربما صفا الجو و انتفت منه الأتربة و الغبار و الدخان ، ما هذه الدنيا كما تعودتها قبل ذلك اليوم ، زادت القبلات اشتعالا ، و أضاءت الأحضان ص*رى فشعرت بمراسم تبادل القلوب ما بين ص*رى و ص*رها ، و كأنهما قد التحما فصارا واحدا ، و ما كنت أعرف أن الحب و هو فى تلك اللحظات يحرر الدمع فيتساقط مطرا على الوجنات ، من بكى قبل الآخر ! أنا أم هى ، لست أدرى ، من مد يده قبل الآخر ليمسح دموع حبيبه ! لا أعلم ، كل ما أعلمه أن حروف اللغة بأكملها قد فرت و لم يبق منها إلا الحاء و الباء و بنفس هذا الترتيب المخالف لقواعد الأبجدية ، لكن شريعة الحب لها سطوة تقهر كل القوانين و لا تعترف إلا بقوانينها هى ..
لا أذكر كيف انتهى اللقاء يومها لكن ما أعرفه اننى تمنيت ألا ينتهى و لو كان بيدى لجعلت الأرض تتوقف عن الدوران فلا شمس تغيب و لا ليل يأتى ، و مرت الأيام لكننا لم ننعم مرة أخرى بلقاء كهذا حتى كان تخرجنا من الثانوية و التحقت أنا بكلية الهندسة بينما التحقت نسمة بكلية العلوم ، و حينما التحقت بالكلية فى أول أسبوع كان لنا لقاء جديد بدعوة من هناء التى التحقت بإحدى الجامعات الخاصة لتدرس العلوم الإدارية ، و كان ذلك اليوم هو يوم الميثاق بينى و بينها بأن نبقى مدى الحياة معا لا يفرقنا أى شئ مهما كانت قوته ، يومها وجدت حبيبتى تردد العهد و تمليه علىّ حتى أردده وراءها ، و هل نحتاج لعهد بالألسنة يا منية النفس ! لقد تعاهدت القلوب فما عاد هنالك قوة تنقض ما تعاهدت عليه ، فقدنا السلطان عليها و تحررت من كل القيود ، و ما تريد النفس أن تخلفه و لا الروح ترضى عن الحياة اذا انتقض ..
و كانت الجامعة فيما بعد هى مكان اللقاء اليومى بيننا ، كنت أحيا حياة فوق الحياة ، فى سعادة ما لها من وصف ، كنت أقول بينى و بين نفسى لو كان هنالك عاشق نال السعادة الكاملة فى عشقه من قرب و وصال و وئام و سلام و تصالح مع النفس و مع الحب لكنت أنا ، و من توافيه الدنيا بقرب الحبيب فلا يسأل بعدها أبدا عن سوء الحظ ، لكن جمال الحياة لا يدوم ، و لحظات السعادة لا بد أن تفسح لمشاعر أخرى المجال حتى تستمر دورة الكون و تقلب الأحوال ، كانت نسمة فى السنة النهائية عندما تقدم لخطبتها شاب فرحت به أسرتها كثيرا ، و قرروا أن يمنحوه ردهم بعد يومين ، و هنا كان لا بد من اللقاء لدى هناء و التى رتبت له كما كانت ترتب دوما فى السابق فانطلقت فى الموعد لأجد حبيبتى فى انتظارى لديها ، و من ثم تركتنا و دخلت إلى حيث تجلس لتفسح لنا المجال للنقاش ، و ما كان نقاشا يومها ، كان الحضن هو أول كلام بعده الدمع الذى كان يشبه الأمطار الصيفية التى تفاجئ الأبدان بسقوطها فوقها لتخفف من وطأة الحر ، غير أن هذا الدمع لم يخفف من وطأة الحزن ، بل جعل رؤية الغد بعين الأمس أمرا مستحيلا ، و برغم كونها تعلم أن فراقنا قد اقترب إلا أنها لم تحملنى أبدا فوق طاقتى أو تطلب منى أن أظهر فى الصورة أمام أهلها لخوفها على شعورى حينما ينفجر أبوها فى وجهى مقارنا بينى و بين - طارق - ذلك الشاب الجاهز كما يحلو للجميع أن يقولوا ، نعم قد أتم استعداده للزواج بعد التخرج مباشرة ، و حينما تتخرج هى يتبقى لى أنا عام فى الجامعة و عام آخر فى الجندية لو لم يكن أكثر ثم بعدها أبدأ فى شق طريقى نحو بناء المستقبل ، و لا علم لدىّ و لا لديها كم سيستغرق ذلك من وقت ينخر فى عظمى قبل لحمى حتى أكون أهلا للمثول أمام والدها أطلب يدها ، ربتت على كتفى بيديها و هى تقول ، لا تحزن و لا تئن بما تحمله فى قلبك ، أشعر بك يا أمل الحاضر و المستقبل ، لا تترك شعور السخط أو النقمة على ما وجدناه من دنيانا ، فلا ذنب لظروفك فيه و لا ذنب لى إلا أننا أحببنا فعاندتنا الدنيا ، لكن لو عاندتنى سأعاندها و بنفس الصلف و الجحود ، لن أترك دنياى تصيب قلبينا بالفراق و لو كان بينى و بينك ألف سد لهدمتهم ، لقد حاولت كثيرا ان أظهر لهم عدم رغبتى فى الارتباط به أو بغيره فعاندونى ، بكيت و استرحمتهم فما استمعوا لبكائى و لا رأوا دموعى ، بل ما رأوا غير إرادتهم و هى تسحق إرادتى و أحلامى تحت وطأة التسلط و السيطرة ، فليكن من أمرهم ما أرادوا و ليكن لنا ما نريد ، لن تنتهى قصتنا كما اعتادت أقلام الكتاب أن تنهيها حينما أرتدى ثياب العرس و أذهب مع زوجى لتجلس أنت وحدك سجين حزنك تتجرع مرارة الأيام لتلقانى فى طريق مصادفة تنظر عيناك إلى عينى و بهما من الحسرة و آلام الذكرى ما يكدر صفو عيشك ، لا عشت يوما فى دنياى إن تركتك لهذا الحال ، بل سيمضى كل شئ كما هو و لتكن الخطبة كما أرادوا و لتبق قلوبنا على عهدها ..
.......