الفصل السادس (6)

1635 Words
تركُض على الأرضية الباردة حافية القدمين داخل طرقات مظلمة لا يوجد بها أحد، ملابسها شبه مُمزقة، تحاول مُداراة جسدها بكفيها، والدموع تخُط خطاً رفيعاً على وجنتيها، خصلاتها القصيرة تأتي على وجهها وتعيق رؤيتها، لم تهتم لها وظلت تركُض بأسرع ما لديها هاربةً منه، تركُض وتركُض حتى تشعر بأن أنفاسها سوف تنقطع من شدة المجهود، لتقف ثواني معدودة ثم تعود وتركُض مرةً أخرى، ألتفتت للوراء بوجهها فلم تجد أحداً، ولكن الصدمة الحقيقية عندما أرتطم جسدها الغض بجسدُه الصلب أمامها، فأرتدت للخلف بذعر وهي ترى ضحكتُه الشريرة، وعيناه التي تُقطر حقداً، وكفيه المُلطخان بدماء براءتها!!! فور رؤيتها له وتذكُر ما حدث، وقعت على الأرضية بإنهيار ليس له مثيل!!!! أستفاقت من كابوسها تلتقط أنفاسها بصعوبة واضعة كفها على قلبها والعرق يتصبب من جميع أجزاء جسدها، علَت أنفاسها حتى أصبحت وكأنها تصارع الموت، لتنخرط ببكاءٍ شديد ضامة ركبتيها إلى ص*رها، فهي يومياً ما تحلم بهذا الكابوس، يومياً تحلم بأنه يلاحقها بكُل مكان، ويُذكرها بما فعل بها، يُذكرها أنه هتك عِرضها، وأنتهك براءتها، وأستحوذ على جسدها بغير حق!!!! أطلقت تآوهات بألم لا مثيل له، تُخرج شُحنة البكاء الذي كانت تكتمها طوال اليوم أمام الناس، وتظهر لهم ببرودها و شخصيتها القوية التي لا يستطيع أحد هزيمتها!!! قطع حالة البؤس التي تتلبسها صوت رنين هاتفها، فذهبت لتجلبه بجسدٍ مُنهك، فوجدت اسم صديق أبيها المتوفي، مسحت دمعاتها ونظفت حلقها من غصة البكاء التي لا تفارقها، وتحدثت بهدوء وصوتٍ ليس به حياة: - أيوا يا عمو..؟!! هتف صديق أبيها قائلاً بثبات: - ليان حبيبتي عاملة أيه؟!! ألتوى ثغرها بإبتسامة ساخرة، فمن يهتم بحالها، حتى وإن لم تكُن بخير لن يسألها أحد عما بها، هتفت بنفس النبرة: - كويسة..!!! قال الأخير بإبتسامة: - عايز أقولك على مفاجأة هتعجبك، بما أنك جيتي هنا وبتدوري على شغل ومتعرفيش أي حاجة عن أسكندرية، ف أنا قررت أشغلك سكرتيرة لأبني في الشركة، لأن سكرتيرته هتسافر قريب!! فكرت في حديثه قليلاً، ثم قالت: - تمام أقدر أستلم الشغل أمتى؟!!! - بكرة لو عايزة، بس خلي بالك يابنتي أنا أبني في الشغل ميعرفش حد أنا أيوة طبعاً هوصيه عليكي بس هو عصبي جداً فـ لو دايقك أستحمليه هو صعب شوية!!! قالت بضيق: - ياريت بلاش توصيه عليا يا عمو أنا مش طفلة صغيرة، ومتقلقش أبعتلي بس اللوكيشن في message وانا رايحة بكرة!!!! • • • • أغلقت معُه بعد مناقشات حادة، لتجلس على أريكتها أمام التلفاز، تستند برأسها على ركبتيها، وبعد قليل نهضت مقررة الخلود للنوم، ولكن قبل أن تصل لفراشها، مرت جوار مرآتها، فوقفت للحظة، متيبسة، لتلتفت لها، فوجدت ملامحها الباهتة، وروحها الخامدة داخل جسدها، عيناها العسليتان واللذان ينبع منهما حزن لا يوصف، وبشرتها البيضاء الشاحبة، حتى خصلاتها القصيرة التي لم تكُن كذلك، بل كان طول ونعومة خصلاتها تُحسد عليه، كانت روحها بريئة كالأطفال، كانت الأبتسامة لا تنزاح من على وجهها، حتى جاء هو، وسرق فرحتِها، أختطف سعادتها ومحى أبتسامتها من فوق وجهها، وقلب حياتها رأساً على عقب!!! بدأت الدموع تتساقط رويداً على وجنتيها، لتلتفت للفراش، ثم ذهبت في نومٍ عميق!!!!! • • • • فتحت عيناها التي ض*بت الشمس بهما لتستفيق الثامنة صباحاً، تبقى ساعة واحدة لتكُن في الشركة وتستقبل وظيفتها الجديدة، نهضت من فوق الفراش لتستحم ثم بدلّت ملابسها بـ بنطال جينز فضفاض قليلاً، وأرتدت فوقه كنزة باللون الوردي الرقيق بأكمام، لتدخلها داخل البنطال، وفوقها سترة جينز أيضاً، جففت خصلاتها سريعاً وعقصتهم ذ*ل حصان لأعلى، ومن ثم وضعت القليل من مستحضرات التجمبل لكي تخفي حُزنها وإرهاقها، و أنتفاخ عيناها من كثرة الدموع... عندما أنتهت أخذت حقيبتها والملف التعريفي الخاص بها، ثم خرجت من الشقة وذهبت لكي تستقل سيارة أجرة... وصلت أمام الشرِكة التي كانت تمتاز بفخامة ليس لها مثيل، تشبه ما نراها في الأفلام، دلفت فأوقفتها الموظفة قائلة بتهذيب: - مساء الخير يا فندم، اتفضلي؟!! هتفت "ليان" بجمود: - أنا كنت جاية أعمل interview مع المدير بخصوص السكرتيرة الجديدة..!!! هتفت الموظفة وهي ترفع سماعة الهاتف الأرضي: - أسم حضرتك أيه - ليان البكري..!!!! قالت بهدوء، فتحدثت الموظفة مع المدير، وبعد أن أنهت مكالمتها قالت: - تمام أتفضلي يا فندم مكتب المدير الدور الرابع..!!! تركتها وأستقلت المصعد، حتى وصلت للطابق المنشود، خرجت بثقة لتجد لافتة مُدون عليها أسمُه، ومكتب بالخارج فارغ علِمت انه يخُص مساعدته القديمة، خطت نحو الباب، ثم طرقته مرتين، فصدح صوتٍ رجولي بحت جعل قشعريرة غريبة تسير بجسدها، يسمح لها بالدخول، دلفت فزجدت مكتب واسع وفخم، وشخص جالس على مقعد جلدي مرتدياً قميص وبنطال سوداويين، ينظُر لها كالصقر بعيناه الزيتونية، فلم تهتز ثقتها، بل ظلت واقفة ثابتة في مكانها، فأعاد ظهره للخلف على ظهر المقعد يهتف بسُخرية: - أنتِ بقا ليان؟!! اللي جاية تشتغل في شركتي بالواسطة!! لم تتغير تعابير وجهها، ولكن ظهرت أبتسامة ساخرة تُماثل خاصته، تُردف بصوتٍ ليس به مشاعر: - واسطة!!! حضرتك أنا معايا تلات لُغات، متخرجة من كلية علوم وتكنولوجيا تخصص إدارة أعمال بتقدير إمتياز، يعني واحدة زيي مش محتاجة واسطة عشان تشتغل، أنا أي شركة تتمنى إني أشتغل فيها!!! لم تتغير نظراته، ولكن مُحت الأبتسامة من على شفتيه، ليقول بهدوء: - وليه خليتي أبويا يتوسطلك عشان تشتغلي هنا!!!! هتفت ببرود متناهي: - أنكل مدحت هو اللي **م أني أشتغل هنا، أنا مطلبتش منه حاجة، وتقدر حضرتك تسأله، ع العموم أنا خلاص مش عايزة أشتغل مع حضرتك بعد المقابلة دي، عن إذنك!!!!! عندما ألتفتت وكادت ان تذهب ض*ب على المكتب بكفيه بغضب شديد فتسمرت في محلها على صوته العالي به: - أستني عندك!!!!! ألتفتت له بشراسة قائلة بصدمة: - أنت بتزعقلي أنا كدا!!!! ألتفت حول المكتب متجهاً نحوها بضراوة يقول بتحذير: - لما أكون بتكلم معاكي إياكي تسيبيني وتمشي، أنا لسة مخلصتش كلامي! رفعت عيناها به بتحدٍ، ثم هتفت بهدوء شديد: - أنا مش موظفة عندك عشان تعاملني بالطريقة دي، ولو كنت أنت مخلصتش كلامك، أنا خلصت!! كادت أن تذهب للمرة الثانية فأمسك بذراعها بقسوة شديدة فحملقت به بصدمة، تنظر لكفه الغليظ الممسك بها حاولت إزاحة ذراعه ولكن لم تستطيع، حدقت به مقطبة حاجبيها بإنزعاج شديد تحاول جاهدة أن تبعد قبضته عن مرمى يدها: - أبعد عني!!! أنت أتجننت!! قطع شجارهما الذي كان في بدايته دخول أبيه الذي فور أن رآهم بتلك الحالة قال بدهشة: - أيه اللي بيحصل هنا!!! في أيه يا مراد!!! ماسك أيدها كدة ليه!!! كانت لمستُه كالنيران على جسدها، ليس لشخصُه، بل لأن لمستُه وكفه الذي يقبض على كفها يُذكرها به، بأكثر شخص تمقته بحياتها، حاول أبيه أن يفصل بينهما بينما هي في شرودٍ تام، ليردف "مدحت" بحدة يُعنف أبنه: - إياك تعامل ليان بالطريقة دي مرة تانية فاهم يا مراد! نظر له "مراد" بغضب ليقول: - وأنا مش هشغلها عندي، دي واحدة مش محترمة وقليلة الذوق وملهاش مكان هنا! رفعت نظراتها المصدومة له، لتقول بدهشة: - أنت مريض نفسي يا حرام، وانا مش هشتغل مع مدير زيك!! أحمر وجهه من شدة الغضب وكاد أن يفجر شحنة غضبه بها لولا أبيه الذي أوقفه قائلاً برجاء: - مراد أهدى خلاص ثم التفت لها يقول "مدحت" بضيق: - خلاص يا ليان، تعالي يا حبيبتي عشان أوريكي مكتبك..!!!! هتفت وهي تُعدل من حقيبتها على كتفها قائلة بكبرياء: - أنا مش هشتغل هنا يا اونكل، بعد إذنك!!!! ثم خرجت من المكتب فألتفت "مدحت" لأبنه قائلاً بتوبيخ: - ليه كدا يا مراد، أيه اللي خلاك تعاملها بالطريقة دي، ليان يتيمة يابني وملهاش حد وقاعدة لوحدها، والدنيا جاية عليها أوي مش هنبقى أحنا والدنيا عليها، روح وراها يابني يمكن تلحقها!!! تردد فيما فعلُه بعدما أستمع لكلام أبيه الذي لأول مرة يسمعه، فهو لم يتوقع أنها يتيمة بالفعل بل ظنها ثرية ودلوعة أبيها وأمها، ليمسح على وجهه بعنف وبالفعل خرج من المكتب مُسرعاً فوجد المصعد يُشير للنزول للطابق السُفلي وبالتأكيد هي بداخله، لم ينتظرُه بل نزَل على الدرج ليلحق بها، فوجدها بالطابق الأرضي تخرُج من الشركة، أبطئ خطواته لكي لا يلاحظ الموظفون وعندما خرجت تماماً أقترب من خلفها ليجذبها من ذراعها فشهقت بصدمة مُرتطمة بص*ره القوي!!! جحظت عيناها العسليتان وهي تنظر لخضرواتيه، لتُطالعه بشراسة ثم لكمتُه في ص*ره بقسوة مبتعدة عنه قائلة بصوتٍ عال: - أنت مجنون!!! أيه اللي بتعملُه دة!!! حاول تهدئة نفسُه ليقول بهدوء: - تعالي نتكلم في مكتبي شوية!! ض*ب الأرض بقدميها بأنفعال: - مش عايز أتكلم معاك أنت مبتفهمش، ياريتني ما جيت أصلاً كانت مقابلة زي الزفت!!! قبض على كفها بكفُه الغليظ ينظُر لها بتحذير: - متعليش صوتك، وأمشي قدامي مش عايز أسمع كلمة واحدة!!! وقبل أن تنطق جذبها خلفُه ليجلسا على المقاعد التي يتوسطهم طاولات في حديقة الشركة، نظرت له بحدة وخصلاتها الناعمة تطاير على وجهها: - أنت عايز مني أيه؟! خلاص قولتلك أنا مش عايزة أشتغل معاك أنا مش آآآ!!! قاطعها بنبرة حنونة: - أنا أسف!!! **تت دون حديث تُطالعه بدهشة ليُكمل برفق: - أنا عصبي شوية وأنتِ نرفزتيني لما سيبتيني ومشيتي وأنا بكلمك، وفقدت أعصابي، وقولت كلام ميصحش يتقال!!! فغرت مابين شفتيها، ثم **تت قليلاً تنظُر لكفها بتوتر، فأستشعر حيرتها، ليقول بهدوء: - تقدري تروّحي النهاردة وتيجي بكرة تبتدي الشغل، موافقة!!!! نظرت له بضيق، وكادت أن ترفض ولكنه نهض من أمامها وتركها كأنه كان سراب، لتجلس وحيدة لا تعلم ماذا تفعل، ثم نهضت بعد قليل لتستقل سيارة أجرة وتذهب لشقتها. • • • • أتجهت "حنان" لأبنها لتُخبره أنه بالفعل كان مُحق فيها قال، لتدلف لغرفته، فـ رفع "آسر" أنظاره لها قائلاً: - في حاجة يا أمي؟!! أقتربت منه لتجلس جواره ثم قال بإبتسامة مُشعة: - تصدق كان عندك حق يا حبيبي لما قولتلي أني هحبها لما أتكلم معاها، حسيت أختك اللي بتتكلم يا آسر!!!! نفس الطيبة والبرائة، أنت عارف بتقولي أنا مستعدة أنام في الشارع بس عشان متضايقنيش!!!! دة انا كنت هعيط عليها وهي بتتكلم!!!! صُدم "آسر" من حديثها، فتأثيرها طاغي على الكُل، كيف لها أن تسرق القلوب بكلماتها، ونظراتها بتلك السهولة!!!! أكملت "حنان" حديثها بحماس: - أنا مستعدة أنها تفضل معانا لباقي حياتنا!!! نظر لها بشرود، هل بالفعل ستظل جواره لبقية الحياة، هل سيكون من الصعب الأبتعاد عنها، لا، لن يحدث وسيجد أهلها بأسرع وقت ويتحرى عنهم ليفهم كل شئ، ومن ثم يأخذونها، فهو لن يتحمل وجودها أمامه كُل صباح، لتسرق أنظاره بعيناها وضحكتها، وتأسره ببرائتها!! هي خطر على قلبُه!!!! هتف لوالدته بإبتسامة زائفة: - مش قولتلك يا أمي!!! أبتسمت له ثم قالت بعد أن نهضت من فوق الفراش: - يلا يا حبيبي غيّر هدومك وبعدين تعالى عشان نتغدى كلنا سوا!!! تسائل مُسرعاً: - هي هتاكل معانا؟! -طبعاً هتف بضيق طفيف: - خليها تاكل في أوضتها يا أمي!!! أستغربت طلبه لتقول: - ليه يا آسر، دي ضيفة عندنا أزاي نخليها تتحبس في أوضتها وتاكل!!! أعاد خصلاته الناعمة للخلف قائلاً: - خلاص تمام.. • • • •
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD