جلس الرئيس والوزير وراء الطاولة التي رُفع عنها الطعام ، ونظرا إلى الرجل الذي يقف قبالتهما مؤطراً بالباب المفتوح الذي دخل منه ، ممسكاً بيد ابن أخته مثل شخص يدخل للمرة الأولى أحد أقربائه إلى متحف متروبوليتان للشموع . راحا يتأملان الرجل الناعم السمين الواقف أمامها بوجهه الناعم الرقيق الجامد ، وأنفه الطويل الشبيه بأنف راهب ، وأطرافه الضخمة ، أخدان المتهدلان ، بلون الشوكولا بالحليب ، فوق وشاح متسخ بطل طرازه منذ خمسين عاماً؛ وكان فمه سميناً صغيراً ، وشديد الحُمرة . بيد أنه في مكان ما وراء تعبيرات وجهه التي تنم عن يقينية ما ، كما وراء صوته الفاتر ومظهره شبه الأنثوي ، كان يكمن شيء آخر : شيء ينم عن العزم والحدة والمباغتة والطغيان . وقفت وراءه مجموعة الخدم الصامتين الرصينين ، قاتمي البشرات بقبعات فرو وعباءات وجوارب صوف ، وكل واحد منهم يحمل سرواله مطوياً تحت إبطه .
ظل صامتاً لبرهة ، منقلاً بصره بين الوجوه حتى رأى الرئيس . وقال بصوت ناعم :
- " هذا ليس بيتك ؟ " .
أجابه الرئيس :
- " لا ، إنه منزل هذا الزعيم الذي عينته بنفسي وزيراً للعدل لكي يحكم بيني وبين شعبي الهندي . وسوف يحقق العدل لكم " .
انحنى الرجل قليلاً :
- " هذا مل ما نرجوه " .
- " حسن " ، قال الرئيس . كانت على الطاولة أمامه محبرة وريشة كتابة ومرملة ، والكثير من الأوراق مع أشرطة وأختام ذهبية ، وإن لم يكن باستطاعة أحد أن يقول ما إذ كانت نظراته الطويلة الحادة قد لاحظت وجودها أم لا . نظر الرئيس إلى ابن الأخت . شاب ، نحيل وقف ممسكاً بيده اليمنى يد خاله السمينة المليئة بالقماش وراح ينظر بصمت إلى الرئيس ، بهدوء عميق ومتنبه .
غمس الرئيس الريشة في الحبر .
- " هل هذا هو الرجل الذي . . . " .
قاطعه الرجل بحماسة :
- " الذي ارتكب هذه الجريمة ؟ هذا ما قمنا بهذه الرحلة الشتوية الطويلة من أجل اكتشافه . إذا كان قد ارتكبها ، إذا لم يكن الرجل الأبيض قد سقط فعلاً عن صهوة حصانه وارتطم رأسه بحجر ، فعندئذ ابن أختي هذا يجب أن ينال جزاءه . لا نظن أنه من الصائب قتل رجل أبيض كأنه من الشيروكي أو الكريك " .
* * * * *
أخذ يحملق بالشخصين المهمين اللذين راحا يزعمان الكتابة على الأوراق الخرقاء أمامهما؛ لبرهة التفت عينا الرئيس بعينيه الناعستين فأشاح عنه . لكن الوزير رفع حاجبيه عالياً وراح يحملق في الخال .
- " كان يجدر بك أن تجري سباق الخيول هذا في معبر النهر نفسه . فالمياه ما كانت لتخلف مثل ذاك الجرح الغائر في جمجمة الرجل الأبيض " .
رفع الرئيس رأسه بسرعة ناظراً إلى الوجه الثقيل ، السري ، متفرساً في الوزير بترقب قاتم . لكن مباشرة تقريباً تكلم الخال .
- " كان يمكن هذا . لكن ذلك الرجل الأبيض كان بكل تأكيد سيطلب مالاً من ابن أختي لكي يسمح له بعبور بوابته " .
ثم ضحك ضحكة بهيجة ، سارة ، ومحتشمة ، " ربما كان من الأفضل لهذا الرجل الأبيض لو أنه سمح لابن أختي بالعبور مجاناً . لكن هذا لم يعد موضوعنا الآن " .
- " لا " ، قال الرئيس ، بنبرة تكاد تتسم بالحدة ، فنظروا إليه ثانية . حمل الريشة فوق الورقة . " ما الاسم الصحيح ؟ ويديل أم فيدال ؟ " .
مجدداً جاء الصوت المرح ، ذي النبرة الثابتة ، " ويديل أو فيدال . ما يهم بأي اسم ينادينا الزعيم الأبيض ؟ لسنا إلا هنوداً ، نذكر بالأمس وننسى غداً " .
* * * * *
كتب الرئيس على الورقة فأص*رت الريشة صريراً ترافق مع صوت آخر : صوت خافت ، ثابت ، مكتوم ، بدا يص*ر من المجموعة الصامتة القاتمة وراء الخال وابن الأخت . رمل الرئيس الورقة وطواها ونهض لبرهة راحوا خلالها ينظرون إليه - الجندي الذي يقود الرجال في مناسبات أهم من هذه .
- " ابن أختك ليس مذنباً بهذه الجريمة . إن الزعيم الذي عينته لكي يقيم العدل بيننا يطلب منه العودة إلى دياره وألا يفعل هذا ثانية البتة ، لأنه في المرة القادمة لن يكون مسروراً " .
تبدد صوته في صمت مفاجئ؛ حتى خلال تلك اللحظة تحركت الجفون بتثاقل نعسان ، بينما من الكتلة القاتمة خلفه ص*ر ذلك الصوت الخافت ، الدائم ، صوت الاحتكاك الصامت للصوف ، مثل موج يتحرك ببطء ، ثم توقفت هذه الحركة لوهلة . تكلم الخال بنبرة تنم عن الصدمة وعدم التصديق :
- " ابن أختي حر ؟ " .
- " إنه حر ؟ " ، أجاب الرئيس . جالت نظرات الخال المشدوهة في أرجاء الغرفة .
- " بهذه السرعة ؟ وهنا ؟ في هذا البيت ؟ حسبت أنه . . . لكن غير مهم " .
راحوا ينظرون إليه مجدداً . وجهه ناعم ملغز ، " لسنا إلا هنوداً بالتأكيد هؤلاء البيض المشغولون ليس لديهم إلا القليل من الوقت للمسائل الصغيرة . ربما قد سببنا لهم ما يكفي من الإزعاج " .
سارع الرئيس إلى القول :
- " لا ،لا ، بالنسبة إلي لا فرق بين شعبي الهندي وشعبي الأبيض " .
لكن من جديد طافت نظرات الخال بصمت في أرجاء الغرفة؛ واقفين جنباً إلى جنب ، داهم الرئيس والوزير الشعور بالخطر نفسه . بعد برهة قال الرئيس :
- " أين كنت تتوقع عقد هذه الجلسة ؟ " .
نظر إليه الخال ، " سيضحكك ذلك . في جهلي اعتقدت أنه حتى مسألتنا الصغيرة هذه ستنتهي في . . . لكن بلا يهم " .
قال الرئيس : " أين ؟ " .
نظر الوجه الثقيل الساكن مجدداً إلى الرئيس ، " سوف يضحكك الأمر ، رغم ذلك سأجيبك . في المنزل الأبيض الكبير تحت النسر الذهبي " .
صاح الوزير :
- " ماذا ؟ في الــــــــــ . . . . " .
أشاح الخال نظره
- " قلت إن هذا سيضحكك . لكن لا يهم . سيكون علينا الانتظار على أي حال " .
قال الرئيس :
- " الانتظار ؟ انتظار ماذا ؟ " .
- " هذا مضحك حقاً " ، قال الخال . وضحك مجدداً ، بصوته الساكن البارد ، " المزيد من قومي على وشك القدوم . يمكننا انتظارهم ، ما داموا سيرغبون أيضاً في رؤية هذا وسماعه " . لم تنم عن أحد تنهيدة تعجب ، ولا حتى الوزير . فقط حدقوا به بينما قال بصوته الساكن : " يبدوا أن بعضهم أخطأ في المنطقة . لقد سمعوا اسم عاصمة الزعيم الأبيض ، لكن قد تكون هناك بلدة أخرى في بلادنا تحمل الاسم عينه ، وحين استعلم بعض القوم عن الطريق ، تم توجيههم خطأ وذهبوا إلى مكان آخر . الجنود الجهلة المساكين " . ضحك بتسامح مرح وراء وجهه الناعس الملغز . " لكن جاء رسوا وأبلغنا أنهم سيصلون في غضون هذا الأسبوع . ثم سنرى بشأن معاقبة هذا الفتى العنيد " . وهز ذراع الفتى هزة خفيفة . ولولا هذه الحركة ما كان الفتى ليتحرك ، وهو يحملق في الرئيس بعينيه الحادتين اللتين لا ترمشان " .
* * * * *
للحظة طويلة ساد صمت لا يقطعه سوى صوت الاحتكاك الخافت الثابت الناجم عن مجموعة الهنود . ثم شرع الوزير بالكلام ، بأناة ، كأنه يخاطب طفلاً " اسمع ، إن ابن أختك حر طليق . هذه الورقة تفيد بأنه لم يقتل ذلك الرجل الأبيض ، وأن أحداً لم يحق له باتهامه ثانية ، وإلا فسنغضب أنا والزعيم الأكبر هنا . يمكنه العودة إلى الديار الآن على الفور . فلتعودوا جميعاً إلى الديار فوراً . ألا يقال إن قبور أسلاف رجل ما لا تهدأ إطلاقاً في غيابه ؟ " .
مجدداً ساد الصمت . ثم قال الرئيس :
- " إلى ذلك فإن البيت الأبيض تحت النسر الذهبي مشغول حالياً بمجلس من الزعماء ممن هم أقوى مني " .
ارتفعت يد الخال الغارقة في القماش المتسخ ، وراحت سبابته تهتز باعتراض لائم " لا تتوقع حتى من هندي جاهل أن يصدق هذا " ، ثم أضاف من دون أي تغيير في نبرة صوته ، ولم يعرف الوزير إلا لاحقاً حين أخبره الرئيس أن الخال لم يكن كلامه إليه ، " وأولئك الزعماء سيحتلون بلا شك ذلك البيت الأبيض لمدة على ما أفترض " .
قال الوزير : " أجل ، حتى تذوب آخر ثلوج الشتاء بين الأزهار والعشب الأخضر " .
قال الخال : " حسناً ، سننتظر إذن . وعندها يكون هناك متسع من الوقت لكي يصل بقية القوم " .
وهكذا حدث أنه على تلك الجادة التي ستكون عظيمة الشأن مستقبلاً ، سار موكب العربات تحت الثلج الهاطل ببطء ، تتقدمه العربة التي تضم الرئيس والخال وابن الأخت ، ويد الخال المليئة بالخواتم على ركبة ابن الأخت ، تتبعها عربة أخرى تضم الوزير ومساعده ، ويتبع هذه العربة صفان من الجنود ، يسيرون بين الكتلة الرصينة القاتمة من الرجال والنساء والأطفال المحمولين على الأيدي أو الماشين على أقدامهم . وهكذا حدث أنه وراء مكتب المجلس التشريعي في تلك الحجرة التي احتضنت حلم المصير العظيم الذي يعلو على ظلم الأحداث وحماقات البشر ، وقف الرئيس والوزير ، بينما في الأسفل محاطين بالمتلاعبين الأحياء بالقدر ، الذين انتشرت بينهم الأشباح المهيبة للذين حلموا بهذا القدر ، وقف الخال وابن الأخت ، وخلفهم الكتلة القاتمة من الأنسباء والأصدقاء والمعارف الذين من بينهم نشأ ذلك الخفيف الخافت الناشئ عن احتكاك الصوف بالجلد . مال الرئيس على الوزير . وهمس في أذنه : " هل المدفع جاهز ؟ هل أنت واثق من أنهم يستطيعون رؤية ذراعي من الباب ؟ وافترض أن تلك الأسلحة اللعينة انفجرت ، فهي لم تُستعمل منذ استعملها واشنطن ضد كورنواليس : هل سيعزلونني ؟ " .
قال الوزير : " أجل " .
قال الرئيس : " فليكن الله في عوننا إذن . أعطني الكتاب " .
ناوله الوزير الكتاب : " سونيتات بترارك " ، الذي اختطفه الوزير عن طاولته أثناء مروره .
- " فلنأمل أن أتذكر ما يكفي من اللاتينية بحيث لا يبدو إنكليزياً ولا تشيكوسو " ، قال الرئيس . فتح الكتاب ، ثم مجدداً انتصب الرئيس ، غازي البشر ، المنتصر في المعارك الدبلوماسية والقانونية والعسكرية ، وتفرس في الوجوه القاتمة الثابتة المصممة المنتظرة؛ حين تكلم كان صوته هو صوت الرجل الذي جعل الرجال قبل ذلك يصمتون ويطيعون : " فرانسيس ويديل ، زعيم شعب التشيكوسو ، وأنت ، يا ابن أخت فرانسيس ويديل والذي سيصبح ذات يوم زعيماً ، اسمعا كلماتي " .
ثم بدأ يقرأ . جاء صوته عالياً ، قوياً ، فوق الوجوه القاتمة ، يتردد صداه في مقاطع صوتية عميقة وجادة . قرأ عشر سونيتات . ثم أنهى كلامه رافعاً يده ، وتبدد صوته ثم أنزل ذراعه . بعد برهة ، من خارج المبنى ، جاء صوت المدفعيات . وللمرة الأولى تركت الكتلة البشرية ، مدمدمة بنوع من الذهول الراضي .
تكلم الرئيس ثانية :
- " يا ابن أخت فرانسيس ويديل ، أنت حر ، عد إلى ديارك " .
ثم تكلم الخال ، هازاٌ سبابته خارج القماش المخرم الذي يحيط بيده .
- " أيها الفتى العنيد ، فكر في المتاعب التي تسبب بها لهؤلاء الرجال المشغولين " .