قال الرئيس : " أجل ، أريد أن أقول شيئاً حيال هذا . لقد صادفت زمرة منهم في طريقي إلى هنا . كان معهم ستة غزلان . أظن أنني أص*رت أوامر صارمة بعدم السماح لهم بحمل البنادق " .
مجدداً تكلم الجندي : " إنهم لا يستعملون البنادق " .
فقال الرئيس : " ماذا ؟ لكنني رأيت نفسي . . . " .
- " لا يا سيدي ، إنهم يستعملون السكاكين . يقومون بتعقب الغزال ثم ينقضون عليه ويجزٌون رقبته " .
- " ماذا ؟ " .
- " لقد رأيت أحد الغزلان التي اصطادوها يا سيدي ، ولم يكن مصاباً بأي عيار ناري سوى أن عنقه قد جُز بالسكين بضربة واحدة " .
مجدداً قال الرئيس : " ا****ة! ا****ة! ا****ة! " .
ثم صمت . وراح الجندي يسُب . بينما راح الآخرون يصغون بتجهم وقد طأطأوا رؤوسهم ، ما عدا الوزير الذي حمل صحيفة أخرى . وقال الرئيس :
- " لو أنك تقنعهم فحسب بارتداء بناطيلهم ، على الأقل في أفنية البيت الأبيض " .
نظر إليه الوزير وشعره منفوش مثل ببغاء ككتوه أخضر :
- " أنا يا سيدي ؟ أنا أقنعهم ؟ " .
- " لم لا ؟ أوليسوا تابعين لوزارتك ؟ أنا لست إلا الرئيس . لقد وصل الأمر إلى درجة أن زوجتي لم تعد تجرؤ على الخروج من غرفة النوم ، ناهيك عن استقبال صديقاتها . كيف أشرح الأمر للسفير الفرنسي على سبيل المثال ، لماذا لم تعد زوجته تتجرأ أن تزور زوجتي ؟ لأن أروقة البيت ومداخله مليئة بهنود التشيكوسو أنصاف العُراة ، النائمين على الأرض ، أو المنشغلين بقضم نصف ضلع من اللحم ؟ حتى أنا مضطر للفرار من مكتبي واستجداء الإفطار ، بينما الممثل الرسمي للحكومة ليس لديه ما يفعله سوى . . . " .
صاح الوزير بحنق :
- " . . . أن يشرح كل صباح لوزارة الخزانة لماذا يجب أن يحصل مزارع هولندي آخر في بنسلفانيا أو نيويورك علي ثلاثمائة دولار ذهباً تعويضاً عن دمار مزرعته وماشيته ، وأن يشرح لوزارة الخارجية أن العاصمة ليست محاصرة من قبل شياطين آتين مباشرة من الجحيم ، وأن يشرح لوزير الدفاع لماذا تم تخريب عشر خيم عسكرية جديدة بالسكاكين بغرض تهوئتها . . . . . "
قال الرئيس بصوت معتدل :
- " لاحظت هذا أيضاً ، لقد نسيت ذلك " .
- " ها . لقد لاحظت سعادتك " ، قال الوزير بحنق ، سعادتك رأيت ذلك ثم نسيته . أنا لم أره ولم يُسمح لي بنسيانه . والآن تتساءل سعادتك لماذا لا أقنعهم بارتداء البناطيل " .
قال الرئيس مرتابا :
- " يبدو أنهم قد يرضون بذلك ، يبدو أن الملابس التي قدمناها لهم نالت رضاهم . لكن لا حسبان للذوق " .
استأنف الأكل . ثم نظر إليه الوزير ، وهمٌ بالكلام ، لكنه اكتفى بالصمت ، ناظراً إلى الرئيس المُنشغل بالأكل وقد ارتسم على وجهه ملمح غريب ، واسترخى وجهه الحانق كما لو أنه فرٌغ نفسه من الهواء . ثم تكلم بنبرة فاترة ورائقة ، وشخص الآخرون بفضول نحو الرئيس . * * * * *
قال الوزير :
- " أجل ، لا اعتبار للذوق . فالمعلوم أنه حين تقدم لشخص ما زياً ما من باب التقدير والشرف ، دعك عن مسألة الذوق ومن قبل زعيم قبيلة معروفة ، فمن واجبه أن . . . . " .
قال الرئيس ببراءة :
- " هذا ما فكرت به ؟ " ، ثم توقف عن مضغ الطعام وقال بحدة : " ماذا ؟ " ، رافعاً رأسه . أشاح الثلاثة الأقل رتبة نظرهم سريعاً ، أما الوزير فاستمر بالنظر إلى الرئيس من دون أن يفارق وجهه ذلك الفتور السري : " ماذا تقصد بحق الجحيم ؟ " .
كان يدرك مقصد الوزير مثلما أدركه الثلاثة الآخرون . بعد يوم أو يومين من وصول ضيفه المباغت ، وبعد أن زالت إلى حد ما الصدمة الأولى ، أص*ر الرئيس مرسوماً بتخصيص الملابس الجديدة لهم . أص*ر أمراً لصناع الملابس والقبعات مثلما يأمر صناع الأسلحة والرصاص في الطوارئ الحربية ، وتكل بدفع التكاليف من جيبه الخاص . وقد تمكن من تقدير عددهم ، الرجال على الأقل ، وبغضون ثمانٍ وأربعين ساعة ، حول مظهر ضيوفه الجدي الهجين إلى مظهر لائق على الأقل . بعد يومين ، قام الضيف - وهو نصف تشيكوسو ونصف فرنسي ، رجل مربوع سمين له ملامح رجل عصابات جاسكوني وسلوك غلام مدلل ، يضع سواراً قذراً حول معصمه وآخر حول رقبته ، يطارده منذ ثلاثة أسابيع في صحوه ونومه ، ولا يستطيع فكاكا منه - بزيارة رسمية له ، وهو ما يزال مع زوجته في الفراش عند الخامسة فجراً ، وكان اثنان من خدمه يحملان صرة ، يتبعهما ما بدا للرئيس علي الأقل مائة شخص من رجال وأطفال ونساء ، احتشدوا بصمت في غرفة النوم ،
بهدف واضح وهو أن يشاهدوه وهو يرتدي الزي ، ذلك أنه كان زياً - حتى في خضم إحساسه بالرعب الناشئ عن الصدمة ، وجد الرئيس نفسه يتساءل بشدة في أي مكان من العاصمة عثر فيدال أو ويديل على هذا الزي الذي ليس سوى كتلة ، شبكة ، من الشرائط الذهبية - ضفادع ، شرائط زينة ، وشاح ، وسيف - علقت بشكل مهلهل على قطعة قماش خضراء فاتحة ، هي بمثابة رد الجميل على هديته السابقة . هذا ما عناه الوزير ، الذي راح الرئيس يحملق فيه ، بينما أشاح الرجال الثلاثة بأنظارهم نحو المدفأة .
- " فلتقل دعاباتك " ، قال الرئيس ، " قلها سريعاً . هل انتهيت من الضحك الآن ؟ " .
قال الوزير :
- " أنا أضحك ؟ علام ؟ " .
- " جيد " ، قال الرئيس . وأبعد الأطباق عنه ، " إذن يمكننا التكلم في المسائل المهمة ؟ هل لد*ك الوثائق التي قد تحتاج إلى الرجوع إليها ؟ " .
اقترب سكرتير الوزير :
- " هل أُحضر الأوراق الأخرى يا سيدي ؟ " .
- " الأوراق ؟ " ، قال الوزير؛ مرة أخرى بدأ ينفش شعره ، " بحق الجحيم ، ما حاجتي إلى الورق ؟ وهل كان لي من شغل سواها منذ ثلاثة أسابيع ؟ " .
قال الرئيس :
- " جيٌد جيٌد ، أفترض أنك راجعت المسألة بإيجاز في حال كنت نسيت شيئاً آخر "
قال الوزير :
- " سعادتك محظوظ بحق ، إذا تمكنت من النسيان " .
وأخرج من جيب منامته نظارة معدنية . لكنه بالكاد استعملها لينظر ثانية إلى الرئيس بحنق " هذا الرجل ، ويديل ، أو فيدال أو أيٌا يكن اسمه - هو وعائلته أو عشيرته أو أيٌا تكن - يدُعي امتلاك كل ذلك الجانب من المسيسبي الذي يقع إلى الطرف الغربي من النهر موضوع المشكلة . أوه ، وهو يملك صك الملكية : فقد حرص والده ذلك من نيو أولينز على ذلك - حسناً ، حدث أنه في مقابل منزله أو مزرعته ، يقع المعبر النهري الوحيد على امتداد نحو ثلاثمائة ميل " . * * * * *
قال الرئيس بنفاد صبر :
- " أعرف هذا كله ، بطبيعة الحال يؤسفني الآن أنه ما من وسيلة لعبور النهر أساساً . لكن عدا ذلك لا أرى أيٌ . . . . " .
قال الوزير : " ولا هم كانت لديهم مشكلة ، حتى جاء الرجل الأبيض " .
قال الرئيس : " آه ، الرجل الذي كان . . . " .
رفع الوزير يده .
- " اسمع . لقد بقي نحو شهر معهم ، متظاهراً بالصيد ، متغيباً عن الأنظار طوال اليوم ، لكن من الواضح أن ما كان يفعله هو التأكد من أنه ليس من نعبر نهري آخر قريب . لم يكن يجلب أي صيد معه؛ وأتخيل أنهم ضحكوا عليه كثيراً على طريقتهم الخاصة " .
قال الرئيس : " أجل ، لا بد من أن ويديل وجد هذا مسلياً جداً " .
" . . . أو فيدال - أيٌا كان اسمه " ، قال الوزير بتوتر " لا يبدو أنه يعرف أو يهتم شخصياً باسمه " .
قال الرئيس : " أكمل ، كنت تتكلم عن المعبر النهري " .
- " أجل . ثم ذات يوم ، بعد شهر من مجيئه ، عرض الرجل الأبيض شراء بعض أرض ويديل ، فيدال ، ويديل ، ا****ة . . . " .
- " سمّه ويديل " ، قال الرئيس .
- " . . . عرض الرجل الأبيض شراء قطعة أرض من ويديل . لم تكن بالكبيرة ، بالكاد توازي حجم غرفة ، قبض منه فيدال أو ويديل عشرة أضعاف سعرها . ليس رغبة في ال**ب كما تعرف ، فكان يمكن أن يعطي الرجل الأرض كهدية أو يخسرها معه في مباراة ما ، إذ لم يخطر لأي منهما أن الأرض الصغيرة التي أرادها الرجل احتوت على المعبر الوحيد المتوافر للدخول إلى النهر أو الخروج منه . لا ريب في أن المساومة على السعر امتدت أياماً أو ربما أسابيع ، كنوع من اللعبة لتمضية العصريات والأمسيات المتبطلة ، بينما الجميع يضحكون ملء قلوبهم في المشهد البهيج ، لا بد أنهم ضحكوا كثيراً ، لا سيما حين دفع الرجل السعر لويديل ، لا بد أنهم ضحكوا كثيراً في ما بعد حين رأوا الرجل الأبيض يبني تحت الشمس سياجاً حول أرضه ، وبالتأكيد لم يخطر لهم البتة أن ما فعله الرجل الأبيض هو أنه وضع سياجاً حول المعبر الوحيد إلى النهر " .
قال الرئيس مجدداً بنفاد صبر :
- " أجل ، لكنني لم أفهم بعد . . . . " .
مجدداً رفع الوزير يده ، على نحو تفخيمي :
- " ولا هم فهموا؛ ليس قبل مجيء المسافر الأول وعبوره النهر . كان الرجل الأبيض قد أنشأ هناك بوابة " .
قال الرئيس : " أوه " .
- " أجل . والآن لابد من أنهم تسلوا بمشاهدة الرجل الأبيض جالساً الآن تحت السقيفة - كان قد رفع جيباً من جلد الغزال على سارية لكي يلقي ال**برون فيها أموالهم ، والبوابة نفسها صُنعت بشكل يتيح له فتحها وإقفالها مستعيناً بالحبل وهو جالس على شرفة بيته المكون من حجرة واحدة من دون أن يضطر حتى إلى القيام عن مقعده - والبدء بتوسيع أملاكه ، بما في ذلك شراء حصان " .
قال الرئيس :
- " آه ، الآن بدأت الصورة تتضح " .
- " أجل . وتسارعت الأحداث بعدئذ . وحصل سباق بين جواد الرجل الأبيض وجواد ابن أخي الزعيم : البوابة مقابل ألف فدان من الأرض . وقد خسر جواد ابن الأخت . وتلك الليلة . . . " .
قاطعه الرئيس :
- " آه ، فهمت ، تلك الليلة الرجل الأبيض قُتــــــــــــــــــــ . . . . . " .
- " فلنقل إنه مات ، هذا جاء الوصف في تقرير مفوض الحكومة . رغم أنه أضاف مفسراً أنه يبدو أن موت الرجل الأبيض نجم عن فلق في الجمجمة ، لكن هذا الأمر ليس موضوعنا " . * * * * *
قال الرئيس :
- " لا ، موضوعنا هو احتشادهم هناك في البيت منذ ثلاثة أسابيع " .
رجال ونساء وأطفال ومعهم عبيد من الز**ج ، توافدوا على العربات منذ ذلك اليوم في نهاية الخريف ، منذ اليوم الذي ظهر فيه مفوض الحكومة في منطقة قبيلة التشيكوسو لكي يستعلم عن موت الرجل الأبيض . قطعوا ألفاً وخمسمائة ميل ، عبر مستنقعات الشتاء والأنهر ، عبر التضاريس الشرقية للقارة ، يقودهم طاغية بطريرك سمين ومتبلد في عربة ، نائماً ، وابن أخته بجانبه ، وهو يضع يده السمينة التي تعج بالخواتم على ركبة ابن الأخت لإبقائه ممسكاً بالزمام . سأله الرئيس :
- " لماذا لم يوقفه المفوض ؟ " .
صاح الوزير :
- " يوقفه ؟ أخيراً ساومهم المفوض إلى حد أن يسمح بمحاكمة ابن الأخت فوراً ، من قبل الهنود أنفسهم ، ناوياً أن يدمر البوابة ، ما دام أحد لم يكن يعرف الرجل الأبيض على أي حال . لكن لا . يتوجب إحضار ابن الأخت لكي يمثل أمامك ، لكي تتم تبرئته أو إدانته وسجنه " .
- " لكن لمٌ لم يمنع العميل بقيتهم من المجئ ؟ لمٌ لم يبق البقية . . . . . " .
صاح الوزير مجدداً :
- " يمنعهم ؟ اسمع . لقد انتقل إلى هناك وعاش بين ظهرانيهم ، لكن ويديل أو فيدال ، ا****ة! أين كنت . . . أجل ، طلب إليه ويديل أن يعتبر البيت بيته؛ وسرعان ما صار كذلك . إذ أنٌى له أن يعرف أن أعداد الناس في المزرعة تقل صبيحة كل يوم ؟ هل كنت لتعرف ؟ هل كنت لتعرف الآن ؟ " .
قال الرئيس :
- " ما كنت لأحاول ، كنت أعلنت فحسب يوم عيد شكر وطني . فإذن تسللوا ليلاً " .
- " أجل . ويديل والعربة وبضع عربات علف مضت أولاً؛ كان قد مضي على رحيلهم شهر قبل أن يدرك العميل أنه صبيحة كل يوم يقل العدد الباقي بطريقة ما . كانوا ينسلون ليلاً على العربات ، عائلات بأكملها ، أجداد وآباء وأطفال وعبيد وكلاب وأغراض ، وكل شيء . ولم لا ؟ لمٌ يحرمون أنفسهم من هذه العطلة على حساب الحكومة ؟ لم يفوتون على أنفسهم ، بمجرد كلفة بسيطة هي قطع 1500 ميل عبر بلاد مجهولة في عز الشتاء ، امتياز ومتعة تمضية بضعة أسابيع أو ربما شهر بقبعات فرو جديدة ومعاطف وثياب تحتية ، في بيت الأب الأبيض العطوف ؟ " .
قال الرئيس :
- " أجل ، وهل قلت له أننا لم نوجه أي تُهمة ضد ابن أخته ؟ " .
- " أجل . وكذلك إذا عادوا إلى ديارهم ، فالمفوض نفسه سيعلن براءة ابن الأخت على الملأ ، ضمن أي طقس يعتبرونه مناسباً . وأجابه ويديل قائلاً . . . كيف صاغ كلماته ؟ " .
راح الوزير يتكلم بنبرة بهيجة شبه مرحة ، في محاكاة شبه حرفية للرجل الذي يكرر كلامه :
- " كل ما نريده هو العدالة . إذا كان الفتى المغفل قد قتل رجلاً فأظن أن علينا معرفة ذلك " .
قال الرئيس :
- " اللّعنة . اللّعنة . اللّعنة ، حسناً سنوقف التحقيق . أحضرهم إلى هنا ولننه الأمر معهم " .
أجاب الوزير :
- " إلى هنا ؟ إلى المنزل ؟ " .
- " لم لا ؟ لقد استضفتهم لثلاثة أسابيع؛ تستطيع على الأقل استضافتهم ساعة " ، التفت نحو مرافقه ، " أسرع . أخبرهم أننا ننتظرهم هنا حتى نحاكم ابن الأخت " .
جلس الرئيس والوزير وراء الطاولة التي رُفع عنها الطعام ، ونظرا إلى الرجل الذي يقف قبالتهما مؤطراً بالباب المفتوح الذي دخل منه ، ممسكاً بيد ابن أخته مثل شخص يدخل للمرة الأولى أحد أقربائه إلى متحف متروبوليتان للشموع . راحا يتأملان الرجل الناعم السمين الواقف أمامها بوجهه الناعم الرقيق الجامد ، وأنفه الطويل الشبيه بأنف راهب ، وأطرافه الضخمة ، أخدان المتهدلان ، بلون الشوكولا بالحليب ، فوق وشاح متسخ بطل طرازه منذ خمسين عاماً؛ وكان فمه سميناً صغيراً ، وشديد الحُمرة .