12

2779 Words
يتقدم الجنود ، متحاشين حاجز القصف المدفعي الكثيف الذي يمتد بلا نهاية في الأرض الواسعة الغامضة ، هابطين في حفر غائرة وماكرة أحدثها القصف ، ثم خارجين منها ثانية ، اثنان منهم يجرجران واحداً من رفاقهما ، بينما يحمل آخران البنادق الثلاث . ساقا الجندي الجريح الذي عصب رأسه بخرقة ملوثة بدمائه ، تنسحبان شبه مشلولتين على الأرض ، ورأسه يترنح ، بينما ينساب عرقه بطيئاً على وجهه المتسخ بالدم المتجلط والهباب . وبين لحظة وأخرى تهب ريح خفيفة من لا مكان ، فتفرق الدخان الرمادي فوق أجمات الحور المقصوفة . تجتاز الفرقة حقلاً زرع بالقمح قبل نحو شهر وظلت براعمه متشبثة بعناد في التربة بين قطع الحديد المتناثرة والخرق الرطبة . * * * * * تجتاز الفرقة الحقل وتصل إلى قناة تحدها الأشجار التي ترتفع في حد واحد على علو خمس أقدام . يرتمي الجنود في القناة يشربون المياه الفاسدة ثم يملأون الزمزميات . يترك الجنديان رفيقهما المصاب فيرتمي على ضفة القناة مغطساً يده ورأسه في الماء ، لكنه لا يستطيع أن يشرب بمفرده . فيسنده أحدهما بينما يقرب الثاني حافة الخوذة من فيه ، ثم يعاود ملء الخوذة ويسكبها على رأس الجريح ، مبللاً الخرقة الدموية . ثم يجفف وجه الرجل بقطعة قماش وسخة أخرجها من جيبه . عند نهاية القناة تبدأ الأرض بالارتفاع تدريجياً ، ويقف الكابتن والملازم والرقيب محملقين في خريطة مهترئة . ويكشف جانبها عن طبقات جيرية من الأرض . يضع الكابتن الخريطة جانباً يأمر الرقيب الجنود بالوقف ، ليس بصوت عال . يرفع الجنديان رفيقهما الجريح المنهوك مع الآخرين ضفة القناة ، وصولاً إلى جسر قوامه قارب طرح بالعرض بين الضفتين . عندئذ يقفون مجدداً ، بينما ينهمك الكابتن والملازم في قراءة الخريطة مرة ثانية . فيما هم يمضون قدما ، راحت التربة الجيرية تبرز تدريجياً تحت أقدامهم . وإلى مسامعهم تتناهى رشفات النيران في تلك الظهيرة الربيعية القاتمة كوابل من مطر ثقيل وسخ على سقف معدني لانهائي . الأرض جافة صلبة ومع ذلك يشق السير على الجنديين اللذين يجران رفيقهما الجريح . لكن حين يتوقفان يكافح الجريح ويخلص نفسه منهما ويمشي مترنحاً بمفرده ، واضعاً يديه على رأسه ، لكنه يتعثر ويهوي أرضاً . فيساعده الجنديان على النهوض ويعاودان الإمساك به من ذراعيه وهو يتمتم : - " . . . القبعة . . . " ، ويحرر يديه ليتحسس مجدداً رأسه . ينتقل الاضطراب إلى الأمام . ينظر الكابتن إلى الخلف ويتوقف عن السير ، ومثله الجنود الذين يخفضون بنادقهم . يقول أحد الجنديين : - " إنه يتحسس رأسه يا سيدي " . يساعدان الجريح على الجلوس ، ينحني الكابتن بجانبه . يغمغم الجندي : - " . . . القبعة . . . القبعة " . * * * * * يفك الكابتن الخرقة . يمد الرقيب جعبته ويبلل الكابتن الخرقة ويجس جبين الجندي . يقف الجنود الآخرون بنوع من الفتور . ينهض الكابتن . يرفع الرجلان الجريح مجدداً . يأمرهما الرقيب بالتقدم حتى يصلان إلى قمة السفح الذي ينحدر بعدئذ نحو الغرب قليلا عند نجد منبسط بعض الشيء . إلى جهة الجنوب يستمر حاجز القصف المدفعي مدوياً ، وترتفع أعمدة الدخان إلى جهة الغرب والشمال فوق الأشجار في السهل المجدب . لكنه دخان حرائق ، دخان أشجار تحترق ، لا دخان قصف مدفعي . يحدق الضابطان في البعيد ، ويتوقف الجنود ثانية عن المسير من دون أن يتلقوا الأمر بذلك ويخفضون بنادقهم . يهتف الملازم فجأة : - " يا الله يا سيدي ، إنها بيوت تحترق! إنهم ينسحبون! الوحوش! الوحوش! " . - " هذا وارد ، " يقول الكابتن ، واضعاً يده فوق عينيه ، ناظراً إلى المسافة أيضاً . " يمكننا الذهاب باتجاه ذلك الحاجز اللعين . ينبغي أن نجد طريقاً هناك " . ويستأنف سيره . يقول الرقيب : " تقدموا " ، بذلك الصوت المعتدل . يرفع الجنود بنادقهم مجدداً بطاعة تامة . قمة السفح م**وة بعشب قاسٍ تمرح فيه الهوام والحشرات ، مندفعة من تحت أقدامهم قبل أن تسقط الظهيرة المتلألئة . الجريح يهذي ثانية . من وقت لأخر يتوقفان ويناولانه الماء ويبللان ضمادته مجدداً ، ثم يتولى جنديان آخران المهمة عنهما . ويقف الكابتن فجأة . ويتبعه رتل الجنود ، مرتطمين بعضهم ببعض مثل عربات قطار شحن . عند قدمي الكابتن رقعة منخفضة من الأرض ينمو فيها عشب كثيف تبرز أنصاله من الأرض كالحراب . تبدو الرقعة أكبر من أن تكون قد أحدثتها قذيفة صغيرة ، وأصغر من أن تكون قد أحدثتها قذيفة كبيرة . وليس فيها ما يدل على سبب نشوئها . يتأملونها بصمت ، ويقول الملازم : - " غريب ، ما الذي قد يكون أحدثها ؟ " . الكابتن لا يرد . يلتفت . يحيط الجنود بالرقعة المنخفضة ، ويرمقونها بوجوم فيما يعبرونها . لكن ما إن يتجاوزونها حتى يصلوا إلى واحدة أخرى ، ربما لم تكن بذات الحجم . يقول الملازم : - " لم أكن أعرف أن لديهم سلاحاً قد يتسبب بهذا " . من جديد لا يرد الكابتن . يسيرون على حافة هذه أيضاً . من جهة تنحدر قمة السفح حادة ، طبقة إثر طبقة من الجير الجاف المنحوت . يعترض طريقهم وهد . يبدل الكابتن اتجاهه ويسير بموازاته ، حتى بعدها بفترة قصيرة ينعطف الوهد في زاوية مستقيمة ويعترض طريقهم مجدداً . قاع الوهد معتم؛ يتقدم الكابتن الطريق منحدراً على مهل إلى الوهد . ويساعد الجنديان رفيقهم الجريح على الهبوط ثم يمضون قدماً . * * * * * بعد فترة يصبح الوهد مكشوفاً . فيجدون أنهم قد دخلوا إلى رقعة أخرى من الأرض الواطئة لكنها غير واضحة الحدود تماماً ، وإن بدت متصلة برقعة أخرى متشابهة ، فتبدو الرقعتان أشبه بقرصين متداخلين . يجتازون الأولى بينما تخز أنصال العشب أقدامهم ، ويعبرون إلى الرقعة التالية . هذه الرقعة أشبه بواد محاط بتلال مصغرة . فوق رؤوسهم يرون قبة السماء الفارغة البليدة حيث يتلاشى بعيداً بعض الدخان الباهت : تنبعث ذبذبة من الأرض يمكن الإحساس بها أكثر مما يمكن سماعها . لا آثار للقصف هنا أيضاً ، كأنهم دخلوا فجأة إلى منطقة معزولة ، إلى عالم لم تبلغه الحرب ، ولا أي أثر للحياة ، وحتى الصمت نفسه ميت . يسقون الجريح ويمضون قدماً . يمتد الوادي ، الأرض الواطئة ، مبهماً أمامهم ، في سلسلة من الأحواض الدائرية المتداخلة التي تشكلت بفعل عامل غير ظاهر أو مفهوم . نصال العشب تخز أقدامهم ، وبعد حين يجدون أنفسهم مجدداً بين أشجار أخرى تتماثل للشفاء فعلقت بها أوراق كثيفة ليست بالخضراء ولا اليابسة ، كأنها هي الأخرى علقت في فجوة زمنية ، فيُسمع حفيفها رغم أن الهواء ميت تماماً . أرض الوادي ليست بالمستوية . بل تنحدر إلى منخسفات أرضية غامضة ، ثم ترتفع مجدداً بالغموض عينه ، وتبرز في وسطها كتل طبشورية صغيرة من طبقة التراب الرفيعة . الأرض لينة ، والسير عليها أشبه بالسير على الفلين؛ فلا تص*ر الأقدام وقعاً وهي تدوس عليها . " يا لها من نزهة ممتعة " ، يقول الملازم أول وإن بصوت خفيض ، لكنه يملأ الوادي الصغير بفجائية عاصفة تملأ الصمت ، وتبدو الكلمات معلقة حولهم كأن الصمت هنا لم يتم إقلاقه منذ زمن بعيد بحيث نسى هدفه؛ مثل شخص واحد راحوا يجيلون أنظارهم بصمت في سفوح الأرض الواطئة ، وأشباح الأشجار المتشنجة ، والسماء الصامتة العنيدة . قال الملازم : - " هذا كمين لصيد الطيور أو ما شابه " . - " أجل " ، رد الكابتن . وتعلقت كلمته بدورها في الهواء ثم تبددت كالكحول . اقترب الجنود الذين في الخلف ، ومضوا جميعاً ككتلة واحدة ناظرين حولهم بوجوم وترقب . قال الملازم : - " لكن لا طيور هنا ، ولا حشرات حتى " . قال الكابتن : - " أجل " . تلاشت الكلمة ، وحل الصمت مجدداً ، عميقاً وغامراً . يقف الملازم ويهز شيئاً ما بقدمه . يقف الجنود . ويقوم الملازم والكابتن ، من دون أن يلمسها ، بفحص ما يبدو بندقية مصف مدفونة ومحطمة . الرجل الجريح يخرف مجددا . يقول الملازم : - " ما هذه يا سيدي ؟ تبدو مثل تلك البنادق التي يحملها الكنديون . بندقية روس ، أليس كذلك ؟ " . يقول الكابتن : " فرنسية ، موديل 1914 " . - " أوه " ، يقول الملازم . يقلب البندقية جانباً بمشط قدمه . حربتها ما زالت ملتصقة بخزان الرصاص ، لكن الزند قد تلف منذ عهد بعيد . يمضون قدماً على الأرض المتعرجة ، بين الكتل الجيرية المنبثقة من التربة . الضوء ، شعاع الشمس الواهن الدائخ ، قليل في الوادي ، راكد ، بلا جسد أو حرارة . العشب المسنن يرتفع بكثافة عالياً . ينظرون حولهم مجدداً إلى السفوح ، ثم يرى الجنود في الطليعة الملازم يقف وينخس بعصاه إحدى الكتل الجيرية قالباً إلى الأعلى محجريها المعفرين بالتراب ونظراتها الفارغة . يصيح الكابتن : " تقدموا " . يتحرك الجنود ناظرين بصمت وفضول إلى الجمجمة ، ثم يشقون طريقهم بين الكتل الأخرى البيضاء كالرخام ، المنبثقة عشوائياً كالمسامير من التربة الضحلة . يقول الملازم أول ، مترنماً : - " جميعها في الوضعية نفسها ، ألاحظت يا سيدي ؟ كلها منتصبة إلى الأعلى . يا لها من طريقة لدفن الشبان ، جالسين! وفي هذه التربة الضحلة " . - " أجل " ، يقول الكابتن . يخرف الجريح ويهرف . يقف الجنديان اللذان يحملانه . بينما يتجاوزهم رفاقهم ويحتشدون خلف الضباط . يقول أحدهم : " يريد أن يشرب " ، فيجيبه الآخر : " فليشرب وهو يمشي " . ثم يحملان الرجل ويهرولان به بينما يحاول أحدهما أن يبقي الجعة على فم الجريح ، فترتطم بأسنانه وتدلق المياه على سترته . ينظر الكابتن إلى الخلف . ويصيح بحدة : " ما هذا ؟ " . * * * * * يحتشد الرجال ، عيونهم جاحظة ، مترقبة؛ يتفرس في وجوههم المتأهبة الصامتة ، " ماذا يحدث هناك في الخلف أيها النقيب ؟ " . يقول الملازم : " الأرض ترتج " . ينظر حوله إلى الجدران المنحوتة ، إلى الكتل البيضاء المنبثقة من التربة . " أشعر بها بنفسي " ، يقول . ويضحك ضحكة رفيعة بعض الشيء ، ثم يتوقف عن الضحك . يقول : " لنخرج من هنا يا سيدي ، لنعد إلى الضوء ثانية " . يقول الكابتن : - " أنت من الضوء هنا . اهدأوا قليلاً أيها الرجال ، كفوا عن الاحتشاد هكذا . سنخرج قريباً . سنجد الطريق ونعبر حاجز النيران ونتصل بالقاعدة ثانية " . يلتفت ويمضي قدماً . تتحرك الفرقة من جديد . * * * * * ثم يتوقفون جميعاً عن السير كشخص واحد ، ويتبادلون النظرات . مجدداً تهتز الأرض تحت أقدامهم . يصرخ رجل ، صرخة عالية ، أشبه بصرخة امرأة أو جواد؛ حين تهتز الأرض للمرة الثالثة تحت أقدامهم يلتفت الضباط إلى الخلف ويرون تحت الجندي الغائص نصفه في الأرض حفرة مازالت في طور التصدع قبل أن تنهار الأرض تحت رجل ثان . ثم ، بسرعة ضربة سيف ، ينشق صدع آخر تحتهم جميعاً؛ تت**ر الأرض تحت أقدامهم وتغوص مثل مربعات حادة الأطراف من حلوى الفوندام ، مكوّنة ثقباً أ**د ، أشبه بانفجار صامت ، تنبعث الرائحة التي لا يخطئها الأنف . رائحة الجيف . بينما يتبعثرون ويتقافزون ( بصمت الآن؛ إذ لم يعد ثمة صوت منذ صرخة الرجل الأولى ) من فتحة إلى أخرى ، والفتحات جميعاً تميل وتنحدر حتى تتقوض الأرض كلها تحت أقدامهم وتبتلعهم الظلمة . يرتفع صوت وسوسة عميق إلى شعاع الشمس في انفجار تدميري من التحلل والتربة الباهتة التي تتعلق قليلاً حول الفتحة السوداء . يشعر الكابتن بنفسه يغوص في جدار من الأرض المتحركة ، ومن صرخات الرعب والعتمة الخالصة . يصرخ شخص آخر . تتوقف الصرخة؛ يُسمع صوت الجريح رفيعاً وحاداً من جوف الشرخ ، " لست ميتاً! لست ميتاً! " ثم ينقطع صوته فجأة ، كأن أحدهم وضع يده على فمه . * * * * * ثم يستمر الكابتن في الهبوط منحدرا ، قبل أن يجد نفسه مرمياً على أرض صلبة ، حيث يتمدد لوهلة على ظهره بينما يطفو على وجهه عصف الموت والفناء . يجد نفسه متعلقاً بشيء ينهار عليه بخفة ، مص*راً صوتاً مكتوماً كأنما تبعثر أشلاء . رويداً رويداً يرى الضوء منبعثاً من تلك الفوهة المسننة في الأعلى ، ثم يرى الرقيب مائلاً فوقه بمصباح يدوي صغير . يقول الكابتن : " ماكي ؟ " ولا يجيبه سوى ضوء المصباح على وجهه ، يقول الكابتن : " أين السيد ماكي ؟ " . يقول الرقيب بصوف كالفحيح : - " لقد قضي يا سيدي . " يرفع الكابتن نفسه ويقتعد الأرض . - " كم بقي منهم ؟ " . - " أربعة عشر يا سيدي " . - " أربعة عشر . هناك اثنا عشر مفقوداً إذن . يجب أن نحفر بسرعة " . ينهض منتصباً . الضوء الخافت من الأعلى يسقط بارداً فوق الركام ، فوق الثلاث عشرة خوذة وضمادة الجريح البيضاء . " أين نحن ؟ " . على سبيل الإجابة ، يحرّك الرقيب المصباح في العتمة على طول جدار ، نفق يمتد في عتمة مفتوحة ، تبرز على جوانبها كتل جيرية . على امتداد النفق ، قعوداً أو مستندة ، تنشر هياكل عظمية بسترات عسكرية داكنة وبناطيل فضفاضة ، وقد ألقيت أذرعها المتحللة جانباً؛ يتعرف الكابتن عليهم بوصفهم جنوداً سنغاليين من معارك مايو 1915 ، أُخذوا على حين غرة وقتلوا بقنابل الغاز في الغالب أثناء اختبائهم في الكهوف الجيرية . يأخذ المصباح من الرقيب ويقول : - " سنرى إذا كان هناك سواهم . أخرج عدة الحفر " . يصوّب الضوء نحو نحو الجدار المظلم ثم إلى ضوء النهار الباهت في الأعلى . يتسلق كومة الركام المتحركة وهو يشعر أن الأرض ترتج تحته مندفعة إلى الأسفل ، وتبعه الرقيب ، بينما يشرع الجريح بالنحيب ثانية " لست ميتاً! ليست ميتاً! " حتى يتحول صوته إلى صراخ حاد . أحدهم يضع يده على فمه ، كاتماً صوته الذي سرعان ما يتحول ضحكاً عصبيا ، ثم ينقلب مجدداً إلى صراخ ، قبل أن يُكتم مجدداً . * * * * * يتسلق الكابتن والرقيب الركام إلى أعلى مسافة يجرؤان عليها ، متشبثين بالأرض التي تتحرك تحتهما في تن*دات طويلة مكتومة . عند حافة الجرف يتجمع الجنود في كتلة واحدة ، رافعين وجوههم البيضاء الشاحبة نحو الضوء . يمرر الكابتن الشعلة نزولاً وطلوعاً على الجرف . ليس من شيء ، لا ذراع ، ولا يد على مدى النظر . يبدأ الهواء يصفو رويداً . " سنمضي قدماً " ، يقول الكابتن . " أجل سيدي " ، يقول الرقيب . في الاتجاهين تكتنف الكهف ظلمة عميقة كثيفة ، مليئة بالهياكل العظمية الخرساء القاعدة أو المسنودة على الجدران ، وقد طُرحت أيديها جانباً . يقول الكابتن : " لقد قذفنا الانهيار إلى الأمام " . يهمس النقيب : " أجل سيدي " . يقول الكابتن : " ارفع صوتك ، ليس إلا كهفاً ، إذا كان ثمة من دخل إليه قبلنا فنستطيع نحن الخروج منه " . - " أجل سيدي " . - " إذا كان الانهيار قذفنا إلى الأمام فيفترض أن يكون المدخل هناك " . - " أجل سيدي " . يمد الكابتن المصباح أمامه . ينهض الرجال ويحتشدون بصمت وراءه ، وبينهم الجريح ، ينشج باكياً . ثم يمضي الكهف باتجاه الضوء بينما تميل الرؤوس الهياكل القاعدة بصمت نحو الضوء أثناء مرورهم بهم . يصبح الهواء أثقل؛ سرعان ما يبدأون بالسير خبباً ، وهو يتنفسون بتثاقل ، ثم يصير الهواء أخف ويكشف ضوء المصباح منحدراً آخر من الأرض ، يسد النفق . يكف الجنود عن السير ، ويحتشدون في كتلة واحدة . يرتقي الكابتن المنحدر . يزحف ببطء على حافته حتى يصل إلى سقف الكهف . يلتمع الضوء ثانية . يهتف : " فليتقدم اثنان مع أدوات الحفر " . ليتقدم جنديان نحوه . يريهما الفتحة التي يدخل منها الهواء في دفقات صغيرة مستمرة . يبدآن بالحفر ، بتوحش وحماس ، مهيلين التراب إلى الخلف . يبدأ آخران بمساعدتهما ، ثم يصبح الشق نفقاً ويصبح في وسع أربعة جنود أن يحفروا معاً . يزداد تدفق الهواء . يحفرون بشراسة ، صارخين صرخات أشبه بالعويل . الرجل الجريح ربما سمعهم ، ربما أصابته عدوى الحماسة ، فيبدأ بالضحك مجدداً ، هستيرياً وبأقوى وبأعلى ما أوتي من صوت . ثم يندفع الجندي عند رأس النفق إلى الأمام . يتدفق الضوء حوله كالمياه؛ يحفر بجنون ، في الظل يرون مؤخرته تختفي ثم يدخل نور النهار . يترك الآخرون الجريح ويصعدون المنحدر ، متصارعين عند الفتحة بمعول الحفر شاتماً بهسيسه المخيف . يقول الكابتن : - " دعهم أيها الرقيب " . يتوقف الرقيب . يتنحى جانباً ويراقب الرجال يمضون مبعثرين إلى خارج النفق . ثم ينزل هو والكابتن ويساعدان الجريح على صعود المنحدر . عند فتحة النفق يصرخ الجريح في سُعار : يدفعونه بالقوة إلى الخارج وهو ما زال يزمجر . . . . " لست ميتاً! لست ميتاً " . يقول الكابتن : " فلتخرج أنت أيها الرقيب " . فيرد الرقيب : " من بعدك سيدي " . " فلتخرج يا رجل " ، يقول الكابتن . يدخل الرقيب النفق . يتبعه الكابتن . يخرج إلى المنحدر الخارجي من الركام الذي كان يسد الكهف ، والذي يقعي الرجال الأربعة عشر في أسفله . زاحفاً على يديه ورجليه كحيوان ، يتنفس الكابتن في لهاث حاد . يقول في سره " قريباً سيأتي الصيف " ، وهو يبتلع الهواء أسرع مما تحتمل رئتاه . " قريباً سيأتي الصيف والأيام طوال " . يحتشد الرجال الأربعة عشر أسفل المنحدر . ذلك الذي في وسطهم يحمل الكتاب المقدس ويرتل الترانيم واجما ، وقد طغى على صوته هذيان الجريح الواهن المصر . * * * * *
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD