لم يكن الأمريكي – وهو أكبرهم سناٌ – يرتدي حُلته البدفورد القرنفلية . ولم تكن بطويلة الذ*ل على نمط سترات الجندية الإنجليزية الراقية ، كان سرواله وسترته مصنوعين من الكتّان . فيبرز من تحت حزامه " سام براون " مثلما يبرز ذ*ل سترة جندي تحت قراب مسدسه . وكان يرتدي لفافة ساق بسيطة وينتعل حذاء عادي كالذي يرتديه رجل الأربعين بدلاً من حذاء " سافيل رو " ، ولم يكن لون الحذاء متناسقاً مع أي منهما ، أما شارة جناحي الطيار على ص*ره فلم تكن مميزة في شيء . لكن الشرائط التي تحتها كانت كذلك ، كما ازدان كتفاه بالشارتين المعدنيتين اللتين تشيران إلى رتبته ككابتن طيار . أما من الناحية الشخصية فلم يكن بالطويل . وكان نحيل الوجه يشبه النسر بعض الشيء ، تشع عيناه ذكاء وإن كان مرهقا بعض الشيء . كان قد تجاوز الخامسة والعشرين ، وإذ يراه المرء لا تتبادر إلى ذهنه بالضرورة أخوية " فاي بيتا كابّا " ، بل ربما جمعية " جمجمة وعظام " أو حتى " منحة رود " . * * * * *
أحد الشابين الواقفين أمامه لم يكن يراه على الأرجح ، فقد كان مترعا ًحتى الثمالة بحيث اضطر جندي أمريكي إلى إسناده على رجليه الطويلتين النحيفتين . وعلي ع** هذا الشرطي الضخم ، بدا ذلك الثمل أشبه بفتاة متنكرة . ربما كان في الثامنة عشرة ، طويل القامة ، أبيض الوجه ، أزرق العينين ، وله فم رقيق يشبه فم الفتاة أيضا . كان يرتدي معطفا عسكرياً أخضر اللون فاتحا ً ، زُرر بشكل خاطئ وملطخ بالطين والسخام ، وعلى شعره الأشقر ، الذي يخطف البصر ، وضعت قبعة ضابط البحرية الملكية .
بادر الكابتن الأمريكي الشرطي العسكري قائلا ً :
- " ما هذا أيها المعاون ؟ علام تتكبد كل هذه المشقة ؟ إنه إنجليزي ، فمن الأفضل أن تدع الشرطة العسكرية الإنجليزية تتولى أمره " .
فقال الشرطي :
- " أعرف أنه كذلك " .
جاء كلامه لاهثا ً متقطعا من شدة الإجهاد . فبالرغم من كل النعومة الأنثوية الظاهرة عليه ، كان الفتى الإنجليزي أثقل- أو أكثر **لا ً- مما يبدو عليه ، قال الشرطي مخاطبا ً الفتي :
- " قف على قدميك يا هذا! أنت في حضرة ضباطا " .
عندئذ بذل الفتى الإنجليزي بعض الجهد ، محاولا ً الوقوف بمفرده على قدميه وتركيز نظراته . لكنه ترنح ، طارحا ً ذراعه على رقبة الشرطي ، وباليد الأخرى أدي التحية للضابط ويده ترتعش ، وقد تكورت أصابعه بعض الشيء على صدغه الأيمن ، من دون أن يكف عن الترنح ومحاولا الوقوف بثبات في ذات الوقت .
قال : " ابتهج يا سيدي . آمل ألا يكون اسمك بتي! " .
أجابه الكابتن : " لا " .
قال الفتى :
- " آه ، كنت آمل بألا يكون كذلك . هذه غلطتي . لا إهانة ها ؟ " .
فرد الكابتن بهدوء :
- " لا إهانة " .
لكنه كان ينظر إلى الشرطي . عندئذ تكلم الضابط الثاني وهو ملازم طيار . لكنه لم يكن في الخامسة والعشرين وكان يرتدي البزة القرنفلية ، والحذاء الفاخر وربما كان معطفه إنجليزيا أيضا لولا الياقة . قال :
- " إنه أحد جنود البحرية ، تراهم يحملونهم من المزاريب هنا طوال الليل . أنت لا تتردد كثيرا ً على البلدة " .
قال الكابتن :
- " أوه لقد سمعت بهم . تذكرت الآن " .
كما لاحظ عندئذ ، أنه برغم ازدحام الشارع- فقد كان خارج مقهى شعبي- وهناك الكثير من المارة من جنود ومدنيين ونساء ، لكن أحدا منهم لم يطل الوقوف أمام هذا الشهيد ، وكأنه مألوف بالنسبة إليهم . ثم نظر إلى الشرطي :
- " -ألا تستطيع إعادته إلى سفينته ؟ " .
قال الشرطي :
- " فكرت في هذا ، لكنه يقول إنه لا يستطيع الذهاب إلى سفينته بعد الظلام لأنه يركن السفينة عند الغروب " .
- " يركن السفينة " .
- " امسك نفسك أيها البحار " ، صرخ الشرطي وهو يحاول رفع حملة المتراخي . " ربما بوسع الكابتن فهم قصده . ليسامحني الله إن كنت فهمت شيئا . يقول إنهم يركنون المركب تحت رصيف الميناء . يضعونه تحت الرصيف ليلاً ، ولا يستطيعون إخراجه قبل ارتفاع المد في اليوم التالي " .
* * * * *
قال ، مخاطبا الملازم :
- " تحت الرصيف ؟ مركب ؟ ما هذا الكلام ؟ هل يقودون نوعا ما من الدراجات النارية البحرية " .
قال الملازم :
- " شيء من هذا القبيل ، لقد رأيت هذه المراكب . إنها زوارق غامضة وما أشبه ذلك . تندفع في الميناء تروح وتجيء . لقد رأيتها . يفعلون ذلك طوال النهار وينامون هنا في المزاريب طوال الليل " .
قال الكابتن عاقدا حاجبيه :
- " يا الله ، كنت أحسب أن هذه المراكب هي زوارق لقادة السفينة . أتقصد أنهم يستعملون الضباط فقط لكي يوصــ . . . . . " .
قاطعه الملازم :
- " لا أعرف ، ربما يستعملونهم لنقل المياه الحارة أو الخبز من سفينة إلى أخري . أو يرسلونهم على وجه السرعة لكي يحضروا لهم مناديلهم حين ينسونها وأشياء من هذا القبيل " .
قال الكابتن :
- " هراء " .
وعاود النظر إلى الفتى الإنجليزي .
- " هذا ما يفعلونه ، البلدة تضج بهم طوال الليل . ثم تجدهم مرميين بالعشرات على الأرصفة فتأتي شرطتهم العسكرية وتحملهم بعيدا ، مثل الممرضات في حديقة . ربما أعطاهم الفرنسيون الزوارق لكي يحملوهم عن الأرصفة خلال النهار " .
قال الكابتن :
- " آها ، نعم لقد فهمت " .
لكن بدا واضحا أنه لم يفهم ، لأنه لم يكن يصغي ، ولم يكن يصدق ما يسمعه . نظر إلى الفتي الإنجليزي :
- " حسنا لا يمكننا تركه هنا بهذا الشكل " .
من جديد حاول الفتى الإنجليزي أن يتماسك ويقف على رجليه .
- " لا بأس عليك ، بكل تأكيد " ، قال بصوت رقيق مرح وجذل تقريبا وبالغ التهذيب . " اعتدت على ذلك ، رغم أنه بلاط قاس . يجب أن تفعل القوات الفرنسية شيئا ما حيال الأمر . يستحق الضيوف حقلا مناسبا للعب ، أليس كذلك ؟ " .
قال الشرطي العسكري :
- " ولا بد من أنه استعمل هذا الحقل جيدا ، ربما يحسب نفسه فريقا من رجل واحد " .
في هذه اللحظة جاء رجل خامس . كان شرطيا عسكريا بريطانيا .
- " ليس الآن " ، قال متأففا ، " ما هذا ؟ ما هذا ؟ "
ثم رأى الشارة على كتفي الأمريكيين . فحياهما . التفت على صوت ما ، مترنحا ، محملقا . قال :
- " أهلا ألبرت " .
أجاب الشرطي البريطاني :
- " ممم إنه السيد هوب " .
ثم خاطب الشرطي الأمريكي :
- " ماذا فعل هذه المرة ؟ " .
قال الأمريكي :
- " على الأغلب لا شيء! يا للطريقة التي تخوضون فيها الحرب يا شباب . لكنني غريب هنا . هاك . خذه " .
سأل الكابتن :
- " ما هذا أيها المعاون ؟ ماذا كان يفعل ؟ " .
- " لن يعتبره بالشيء ذي البال . "
* * * * *
قالها الشرطي الأمريكي ، مشيرا برأسه في اتجاه الشرطي البريطاني ثم تابع :
- " ربما يسميه بلبلاً أو أبا الفصاد أو شيئا من هذا الهراء . جئت ووجدت هذا الشارع مقفلا على امتداد ثلاثة أحياء بسور من الشاحنات الخارجة من أحواض السفن ، وجميع السائقين يصرخون كالرعاع . ما المشكلة بحق الله . فمضيت في طريقي ووجدت أنها تسد التقاطع أيضا ، فاتجهت إلى حيث المشكلة ، ووجدت نحو دستة من السائقين في المقدمة ، يجرون اجتماعا أو شيئا على هذا النحو في وسط الشارع . تقدمت منهم وسألتهم : " ما الذي يحدث هنا بالضبط ؟ " . سمحوا لي بالمرور ، ووجدت هذا المغفل ممددا هنا . . . . " .
قال الشرطي البريطاني محتجا :
- " صه! إنك تتكلم عن أحد ضباط جلالة الملكة يا هذا " .
فقال الكابتن :
- " انتبه لألفاظك أيها المعاون ، أكمل . . ووجدت هذا الضابط . . .ثم . . " .
- " وجدته نائما وسط الشارع ، متوسدا سلة فارغة . ممددا هناك ويداه تحت رأسه ، شابكا رجليه ، مجادلا السائقين في ما إذا كان سينهض ويتحرك أم لا ، قائلا إن للشاحنات يمكنها أن تعود أدراجها و تجد طريقا آخر ، لكنه لا يستطيع استعمال أي طريق آخر ، لأن هذا الطريق ملكه " .
- " ملكه ؟ " .
كان الفتي الإنجليزي يصغي بجذل واهتمام ، وقال :
- " عنبر عسكري ، كما ترى ، يجب أن يسود النظام حتى في طوارئ الحرب . عنبر بالقرعة . هذا الشارع لي . لست أتعدى على أحد ، أليس كذلك ؟ الشارع التالي لجيمي ويذرسبون . طلبت من الشاحنات أن تمر منه لأن جيمي لم يأو إلى النوم بعد . فهو مصاب بالأرق . فلتذهب الشاحنات من ذاك الطريق ، هل فهمتني ؟ " .
قال الكابتن :
- " هل هذا هو ما حدث أيها المعاون ؟ " .
- " كما أخبرك . لقد أبى النهوض . ظل ممددا هناك فحسب ، وهو يجادلهم . ثم طلب من أحدهم أن يذهب إلى مكان ما ويجلي معه نسخة من قانون الحرب عندهم . . . " .
رد الكابتن مقاطعا :
- " قانون الملك؛ أجل " .
- " . . . . وليروا إذا كان الكتاب يبين من له الأحقية في المرور ، هو أم الشاحنات . ثم قمت برقعه عن الأرض ، ثم جئت أنت . وهذا كل شيء . ومن بعد إذن الكابتن سأسلمه إلى ممرضة جلالته الـــ . . . " .
قال الكابتن هازا رأسه :
- " هذا يكفي أيها المعاون ، يمكنك الذهاب . سأتولى هذا الموضوع " .
ثم أنه حيا الشرطي وسار في سبيله . وتولى الشرطي الإنجليزي سند الفتي ، وقال الكابتن :
- " أيمكنك أخذه ؟ أين مواقع كمونهم ؟ " .
- " لا أعرف يا سيدي إذا كانت لهم مواقع كمون أم لا . نحن ـــ ممم . . في الواقع أنا عادة أراهم في الخمارات حتى مطلع الفجر ، بل حتى تشرق الشمس . لا يبدو أنهم يعودون إلى الفراش أبدا! "
سأله وقد عقد حاجبيه :
- " أتعني أنهم حقا لا يعودون إلى سفنهم ؟ "
تململ الفتى في موضعه وأجاب :
- " حسنا سيدي ، ربما تكون هناك سفن ، إذا شئت أن تسميها كذلك ، لكن الرجل ينبغي أن يكون يرغب في النوم كالكلب الميت لكي يستطيع النعاس في إحداهما " .
هذه المرة جاء صوت الشرطي مباشرا وقاطعا مثل بوابة حديدية توصد :
- " لا أعرف يا سيدي " .
- " أوه ، حسن جدا ، لكنه ليس في وضع يسمع له بالبقاء في الحانات حتى الصباح هذه المرة " .
* * * * *
قال الشرطي :
- " ربما يمكنني أن أعثر له على خمّارة فيها طاولة خلفية يمكنه أن ينام عليها " .
لكن الكابتن كان في عالم آخر ولم يكن يصغي . كان يتطلع إلى الرصيف المقابل ، حيث أنوار مقهى آخر تسقط على الرصيف . تثاءب الفتى الإنجليزي بقوة كفرس النهر ، فبان داخل فمه الواسع الزهري تماما كطفل . التفت الكابتن إلى الشرطي :
- " أتمانع في الذهاب إلى هناك وأن تستعلم عن سائق النقيب بوجارد ؟ أما السيد هوب فسأتولى أنا أمره " .
أسند الكابتن الفتى عندما غادر الشرطي ، واضعاً يده تحت ذراعه . ومن جديد تثاءب مثل حيوان ال**لان . وقال النقيب :
- " اثبت ، ستصل السيارة في لحظات " .
فرد الفتى الإنجليزي ، متثائباً :
- " طيب . "
* * * * *
* * * * *
ما إن أصبح داخل السيارة حتى غفا فجأة بوداعة طفل رضيع ، جالساً بين الأمريكيين . لكن ، ورغم أن الميناء الجوي كان يبعد ثلاثين دقيقة فقط ، إلا أنهم وجدوه مستيقظا حين وصلوا ، وبدا عليه الانتعاش التام ، وراح يطال بمزيد من الويسكي . حين دخلوا إلى المطعم كان قد استيقظ بالكامل ، اهتز جفنه قليلاً بسبب الإضاءة الساطعة في القاعة ، بقبعته المهترئة وسترته الكاكية المزررة بشكل خطأ ، وقد التف حول عنقه وشاح حريري قذر رأى فيه بوجارد شعار مدرسة تحضيرية شهيرة .
صاح الفتى بحيوية ووضوح ، وبصوت مرتفع طروب ، بحيث التفت الآخرون في الغرفة ناظرين نحوه .
- " رائع . ويسكي . تمام ؟ " .
ومضى مباشرة يتبعه الملازم أول . مثل كلب الراعي الألماني إلى المشرب في الزاوية ، واتجه إلى الطرف المقابل من الغرفة ، حيث خمسة رجال يلعبون الورق .
سأله أحدهم :
- " أميرال أيّ سلاح هو ؟ " .
قال بوجارد في بساطة :
- " في الحال التي وجدته عليها فإنه أميرال البحريّة الاسكتلندية بالكامل " .
رفع آخر رأسه و نظر مليًا إلى الفتى ، قائلاً :
- " أوه ، عرفت أنّني رأيته في البلدة ، ربّما لأنّه كان على قدميه لم أتعرّف عليه فوراً حين دخل . عادة ما تراه مرمياً على الرصيف " .
قال الأوّل ، متلفّتًا حوله :
- " أوه ، أهو واحد من أولئك الشبّان ؟ " .
- " هذا صحيح . لابدّ من أن تكون قد رأيتهم ممددين كالقتلى على الرصيف بينما يحاول رجال الشرطة العسكريّة الإنجليزيّة جرّهم " .
قال الآخر :
- " أجل ، لقد رأيتهم بأم عيني! " .