13

2159 Words
لم يكن الأمريكي – وهو أكبرهم سناٌ – يرتدي حُلته البدفورد القرنفلية . ولم تكن بطويلة الذ*ل على نمط سترات الجندية الإنجليزية الراقية ، كان سرواله وسترته مصنوعين من الكتّان . فيبرز من تحت حزامه " سام براون " مثلما يبرز ذ*ل سترة جندي تحت قراب مسدسه . وكان يرتدي لفافة ساق بسيطة وينتعل حذاء عادي كالذي يرتديه رجل الأربعين بدلاً من حذاء " سافيل رو " ، ولم يكن لون الحذاء متناسقاً مع أي منهما ، أما شارة جناحي الطيار على ص*ره فلم تكن مميزة في شيء . لكن الشرائط التي تحتها كانت كذلك ، كما ازدان كتفاه بالشارتين المعدنيتين اللتين تشيران إلى رتبته ككابتن طيار . أما من الناحية الشخصية فلم يكن بالطويل . وكان نحيل الوجه يشبه النسر بعض الشيء ، تشع عيناه ذكاء وإن كان مرهقا بعض الشيء . كان قد تجاوز الخامسة والعشرين ، وإذ يراه المرء لا تتبادر إلى ذهنه بالضرورة أخوية " فاي بيتا كابّا " ، بل ربما جمعية " جمجمة وعظام " أو حتى " منحة رود " .   * * * * *    أحد الشابين الواقفين أمامه لم يكن يراه على الأرجح ، فقد كان مترعا ًحتى الثمالة بحيث اضطر جندي أمريكي إلى إسناده على رجليه الطويلتين النحيفتين . وعلي ع** هذا الشرطي الضخم ، بدا ذلك الثمل أشبه بفتاة متنكرة . ربما كان في الثامنة عشرة ، طويل القامة ، أبيض الوجه ، أزرق العينين ، وله فم رقيق يشبه فم الفتاة أيضا . كان يرتدي معطفا عسكرياً أخضر اللون فاتحا ً ، زُرر بشكل خاطئ وملطخ بالطين والسخام ، وعلى شعره الأشقر ، الذي يخطف البصر ، وضعت قبعة ضابط البحرية الملكية .  بادر الكابتن الأمريكي الشرطي العسكري قائلا ً : - " ما هذا أيها المعاون ؟ علام تتكبد كل هذه المشقة ؟ إنه إنجليزي ، فمن الأفضل أن تدع الشرطة العسكرية الإنجليزية تتولى أمره " .  فقال الشرطي : - " أعرف أنه كذلك " . جاء كلامه لاهثا ً متقطعا من شدة الإجهاد . فبالرغم من كل النعومة الأنثوية الظاهرة عليه ، كان الفتى الإنجليزي أثقل- أو أكثر **لا ً- مما يبدو عليه ، قال الشرطي مخاطبا ً الفتي : - " قف على قدميك يا هذا! أنت في حضرة ضباطا " .  عندئذ بذل الفتى الإنجليزي بعض الجهد ، محاولا ً الوقوف بمفرده على قدميه وتركيز نظراته . لكنه ترنح ، طارحا ً ذراعه على رقبة الشرطي ، وباليد الأخرى أدي التحية للضابط ويده ترتعش ، وقد تكورت أصابعه بعض الشيء على صدغه الأيمن ، من دون أن يكف عن الترنح ومحاولا الوقوف بثبات في ذات الوقت . قال : " ابتهج يا سيدي . آمل ألا يكون اسمك بتي! " . أجابه الكابتن : " لا " . قال الفتى : - " آه ، كنت آمل بألا يكون كذلك . هذه غلطتي . لا إهانة ها ؟ " . فرد الكابتن بهدوء : - " لا إهانة " . لكنه كان ينظر إلى الشرطي . عندئذ تكلم الضابط الثاني وهو ملازم طيار . لكنه لم يكن في الخامسة والعشرين وكان يرتدي البزة القرنفلية ، والحذاء الفاخر وربما كان معطفه إنجليزيا أيضا لولا الياقة . قال : - " إنه أحد جنود البحرية ، تراهم يحملونهم من المزاريب هنا طوال الليل . أنت لا تتردد كثيرا ً على البلدة " . قال الكابتن : - " أوه لقد سمعت بهم . تذكرت الآن " . كما لاحظ عندئذ ، أنه برغم ازدحام الشارع- فقد كان خارج مقهى شعبي- وهناك الكثير من المارة من جنود ومدنيين ونساء ، لكن أحدا منهم لم يطل الوقوف أمام هذا الشهيد ، وكأنه مألوف بالنسبة إليهم . ثم نظر إلى الشرطي : - " -ألا تستطيع إعادته إلى سفينته ؟ " .  قال الشرطي : - " فكرت في هذا ، لكنه يقول إنه لا يستطيع الذهاب إلى سفينته بعد الظلام لأنه يركن السفينة عند الغروب " .  - " يركن السفينة " .  - " امسك نفسك أيها البحار " ، صرخ الشرطي وهو يحاول رفع حملة المتراخي . " ربما بوسع الكابتن فهم قصده . ليسامحني الله إن كنت فهمت شيئا . يقول إنهم يركنون المركب تحت رصيف الميناء . يضعونه تحت الرصيف ليلاً ، ولا يستطيعون إخراجه قبل ارتفاع المد في اليوم التالي " .    * * * * *  قال ، مخاطبا الملازم :  - " تحت الرصيف ؟ مركب ؟ ما هذا الكلام ؟ هل يقودون نوعا ما من الدراجات النارية البحرية " .  قال الملازم : - " شيء من هذا القبيل ، لقد رأيت هذه المراكب . إنها زوارق غامضة وما أشبه ذلك . تندفع في الميناء تروح وتجيء . لقد رأيتها . يفعلون ذلك طوال النهار وينامون هنا في المزاريب طوال الليل " .  قال الكابتن عاقدا حاجبيه : - " يا الله ، كنت أحسب أن هذه المراكب هي زوارق لقادة السفينة . أتقصد أنهم يستعملون الضباط فقط لكي يوصــ . . . . . " .  قاطعه الملازم : - " لا أعرف ، ربما يستعملونهم لنقل المياه الحارة أو الخبز من سفينة إلى أخري . أو يرسلونهم على وجه السرعة لكي يحضروا لهم مناديلهم حين ينسونها وأشياء من هذا القبيل " .  قال الكابتن : - " هراء " . وعاود النظر إلى الفتى الإنجليزي .  - " هذا ما يفعلونه ، البلدة تضج بهم طوال الليل . ثم تجدهم مرميين بالعشرات على الأرصفة فتأتي شرطتهم العسكرية وتحملهم بعيدا ، مثل الممرضات في حديقة . ربما أعطاهم الفرنسيون الزوارق لكي يحملوهم عن الأرصفة خلال النهار " .  قال الكابتن : - " آها ، نعم لقد فهمت " . لكن بدا واضحا أنه لم يفهم ، لأنه لم يكن يصغي ، ولم يكن يصدق ما يسمعه . نظر إلى الفتي الإنجليزي : - " حسنا لا يمكننا تركه هنا بهذا الشكل " . من جديد حاول الفتى الإنجليزي أن يتماسك ويقف على رجليه . - " لا بأس عليك ، بكل تأكيد " ، قال بصوت رقيق مرح وجذل تقريبا وبالغ التهذيب . " اعتدت على ذلك ، رغم أنه بلاط قاس . يجب أن تفعل القوات الفرنسية شيئا ما حيال الأمر . يستحق الضيوف حقلا مناسبا للعب ، أليس كذلك ؟ " .  قال الشرطي العسكري : - " ولا بد من أنه استعمل هذا الحقل جيدا ، ربما يحسب نفسه فريقا من رجل واحد " .  في هذه اللحظة جاء رجل خامس . كان شرطيا عسكريا بريطانيا . - " ليس الآن " ، قال متأففا ، " ما هذا ؟ ما هذا ؟ "  ثم رأى الشارة على كتفي الأمريكيين . فحياهما . التفت على صوت ما ، مترنحا ، محملقا . قال : - " أهلا ألبرت " .  أجاب الشرطي البريطاني : - " ممم إنه السيد هوب " . ثم خاطب الشرطي الأمريكي : - " ماذا فعل هذه المرة ؟ " .  قال الأمريكي : - " على الأغلب لا شيء! يا للطريقة التي تخوضون فيها الحرب يا شباب . لكنني غريب هنا . هاك . خذه " .  سأل الكابتن : - " ما هذا أيها المعاون ؟ ماذا كان يفعل ؟ " . - " لن يعتبره بالشيء ذي البال . "     * * * * * قالها الشرطي الأمريكي ، مشيرا برأسه في اتجاه الشرطي البريطاني ثم تابع : - " ربما يسميه بلبلاً أو أبا الفصاد أو شيئا من هذا الهراء . جئت ووجدت هذا الشارع مقفلا على امتداد ثلاثة أحياء بسور من الشاحنات الخارجة من أحواض السفن ، وجميع السائقين يصرخون كالرعاع . ما المشكلة بحق الله . فمضيت في طريقي ووجدت أنها تسد التقاطع أيضا ، فاتجهت إلى حيث المشكلة ، ووجدت نحو دستة من السائقين في المقدمة ، يجرون اجتماعا أو شيئا على هذا النحو في وسط الشارع . تقدمت منهم وسألتهم : " ما الذي يحدث هنا بالضبط ؟ " . سمحوا لي بالمرور ، ووجدت هذا المغفل ممددا هنا . . . . " .  قال الشرطي البريطاني محتجا : - " صه! إنك تتكلم عن أحد ضباط جلالة الملكة يا هذا " .  فقال الكابتن : - " انتبه لألفاظك أيها المعاون ، أكمل . . ووجدت هذا الضابط . . .ثم . . " . - " وجدته نائما وسط الشارع ، متوسدا سلة فارغة . ممددا هناك ويداه تحت رأسه ، شابكا رجليه ، مجادلا السائقين في ما إذا كان سينهض ويتحرك أم لا ، قائلا إن للشاحنات يمكنها أن تعود أدراجها و تجد طريقا آخر ، لكنه لا يستطيع استعمال أي طريق آخر ، لأن هذا الطريق ملكه " . - " ملكه ؟ " .  كان الفتي الإنجليزي يصغي بجذل واهتمام ، وقال : - " عنبر عسكري ، كما ترى ، يجب أن يسود النظام حتى في طوارئ الحرب . عنبر بالقرعة . هذا الشارع لي . لست أتعدى على أحد ، أليس كذلك ؟ الشارع التالي لجيمي ويذرسبون . طلبت من الشاحنات أن تمر منه لأن جيمي لم يأو إلى النوم بعد . فهو مصاب بالأرق . فلتذهب الشاحنات من ذاك الطريق ، هل فهمتني ؟ " .  قال الكابتن : - " هل هذا هو ما حدث أيها المعاون ؟ " .  - " كما أخبرك . لقد أبى النهوض . ظل ممددا هناك فحسب ، وهو يجادلهم . ثم طلب من أحدهم أن يذهب إلى مكان ما ويجلي معه نسخة من قانون الحرب عندهم . . . " .  رد الكابتن مقاطعا : - " قانون الملك؛ أجل " . - " . . . . وليروا إذا كان الكتاب يبين من له الأحقية في المرور ، هو أم الشاحنات . ثم قمت برقعه عن الأرض ، ثم جئت أنت . وهذا كل شيء . ومن بعد إذن الكابتن سأسلمه إلى ممرضة جلالته الـــ . . . " .  قال الكابتن هازا رأسه : - " هذا يكفي أيها المعاون ، يمكنك الذهاب . سأتولى هذا الموضوع " . ثم أنه حيا الشرطي وسار في سبيله . وتولى الشرطي الإنجليزي سند الفتي ، وقال الكابتن : - " أيمكنك أخذه ؟ أين مواقع كمونهم ؟ " . - " لا أعرف يا سيدي إذا كانت لهم مواقع كمون أم لا . نحن ـــ ممم . . في الواقع أنا عادة أراهم في الخمارات حتى مطلع الفجر ، بل حتى تشرق الشمس . لا يبدو أنهم يعودون إلى الفراش أبدا! " سأله وقد عقد حاجبيه : - " أتعني أنهم حقا لا يعودون إلى سفنهم ؟ " تململ الفتى في موضعه وأجاب :  - " حسنا سيدي ، ربما تكون هناك سفن ، إذا شئت أن تسميها كذلك ، لكن الرجل ينبغي أن يكون يرغب في النوم كالكلب الميت لكي يستطيع النعاس في إحداهما " . هذه المرة جاء صوت الشرطي مباشرا وقاطعا مثل بوابة حديدية توصد :  - " لا أعرف يا سيدي " .  - " أوه ، حسن جدا ، لكنه ليس في وضع يسمع له بالبقاء في الحانات حتى الصباح هذه المرة " .    * * * * *  قال الشرطي : - " ربما يمكنني أن أعثر له على خمّارة فيها طاولة خلفية يمكنه أن ينام عليها " .  لكن الكابتن كان في عالم آخر ولم يكن يصغي . كان يتطلع إلى الرصيف المقابل ، حيث أنوار مقهى آخر تسقط على الرصيف . تثاءب الفتى الإنجليزي بقوة كفرس النهر ، فبان داخل فمه الواسع الزهري تماما كطفل . التفت الكابتن إلى الشرطي :  - " أتمانع في الذهاب إلى هناك وأن تستعلم عن سائق النقيب بوجارد ؟ أما السيد هوب فسأتولى أنا أمره " .  أسند الكابتن الفتى عندما غادر الشرطي ، واضعاً يده تحت ذراعه . ومن جديد تثاءب مثل حيوان ال**لان . وقال النقيب : - " اثبت ، ستصل السيارة في لحظات " . فرد الفتى الإنجليزي ، متثائباً : - " طيب . "    * * * * *    * * * * * ما إن أصبح داخل السيارة حتى غفا فجأة بوداعة طفل رضيع ، جالساً بين الأمريكيين . لكن ، ورغم أن الميناء الجوي كان يبعد ثلاثين دقيقة فقط ، إلا أنهم وجدوه مستيقظا حين وصلوا ، وبدا عليه الانتعاش التام ، وراح يطال بمزيد من الويسكي . حين دخلوا إلى المطعم كان قد استيقظ بالكامل ، اهتز جفنه قليلاً بسبب الإضاءة الساطعة في القاعة ، بقبعته المهترئة وسترته الكاكية المزررة بشكل خطأ ، وقد التف حول عنقه وشاح حريري قذر رأى فيه بوجارد شعار مدرسة تحضيرية شهيرة .  صاح الفتى بحيوية ووضوح ، وبصوت مرتفع طروب ، بحيث التفت الآخرون في الغرفة ناظرين نحوه .  - " رائع . ويسكي . تمام ؟ " . ومضى مباشرة يتبعه الملازم أول . مثل كلب الراعي الألماني إلى المشرب في الزاوية ، واتجه إلى الطرف المقابل من الغرفة ، حيث خمسة رجال يلعبون الورق . سأله أحدهم : - " أميرال أيّ سلاح هو ؟ " . قال بوجارد في بساطة : - " في الحال التي وجدته عليها فإنه أميرال البحريّة الاسكتلندية بالكامل " . رفع آخر رأسه و نظر مليًا إلى الفتى ، قائلاً : - " أوه ، عرفت أنّني رأيته في البلدة ، ربّما لأنّه كان على قدميه لم أتعرّف عليه فوراً حين دخل . عادة ما تراه مرمياً على الرصيف " .  قال الأوّل ، متلفّتًا حوله : - " أوه ، أهو واحد من أولئك الشبّان ؟ " . - " هذا صحيح . لابدّ من أن تكون قد رأيتهم ممددين كالقتلى على الرصيف بينما يحاول رجال الشرطة العسكريّة الإنجليزيّة جرّهم " .  قال الآخر : - " أجل ، لقد رأيتهم بأم عيني! " .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD