8

2198 Words
* * * * * لا أعرف ماذا كنا بالضبط! بدونا كأمريكيين . ( كومن ) فقط بدت مختلفة . ولكن بعد ثلاث سنوات ، بالجاكت البريطاني ، والأجنحة الإنجليزية ، والشرائط الملونة هنا وهناك ، لا أحسب أننا تجشمنا عناء محاولة معرفة حتى من نحن ، أو أن نفكر في الأمر ، أو حتى نتذكره . في تلك الحياة ، وفى ذلك اليوم ، صرنا أقل من ذلك حتى ، أو أكثر : فأما أنه كان في مؤخرة وعينا أو في الظاهر أننا لم نتساءل خلال ثلاث سنوات . قال حَاكِم الإقليم- الذي التحق بنا بعد فتره معتمراً الطربان ، وشريطة الرائد تزين كتفيه- إننا أشبه بأشخاص يخوضون في الماء! - " لكن عما قريب سيفوح عفن الكراهية والكلمات . نحن أشبه برجال يسعون في الماء ، حابسين أنفاسنا ، يرى واحدنا أطراف الآخر الكاملة بالغة الصغر ، في تيبّس تام دونما لمس ، دونما اتصال ، دونما أي شئ على الإطلاق ، لا شيء غير العجز والعوز " . * * * * * كنا في السيارة وقتها ، متجهين إلى آميان . يقود السيارة ( سرتورس ) وبجانبه ( كومن ) ، رأسه يعلو أكثر منه بقليل ، ويهتز ذات اليمين وذات الشمال كرأس دمية تحركها الخيوط بينما الحَاكِم و( بلاند ) وأنا في المقعد الخلفي ، كل واحد منا يحمل في جيوبه قنينة شراب أو اثنتين ، ما عدا الحَاكِم . كان رجلاً ربعةً ، قصيراً وممتلئاً ، لكنه يتمتع برجاحة عقل هائلة . في ذلك الشلال العنيف من الكحول الذي لذنا به هرباً من ذواتنا المحمومة المحتومة ، كان أشبه بصخرة ، يتكلم بروية ونبرة جدية تزن أربعة أضعاف حجمه . * * * * * قال بلهجة العارف : - " فى بلدي كنت أميراً! لكن بعد اثني عشر عاماً أحسب أننا أشبه بطفيليات تطفو على سطح الماء ، أعزل ، معزول ، لا هدف له ، ولا يعرف الكلل . ليس على سطح الماء بل في صفحة الماء ، في ذلك الخط الفاصل الذي ليس هواء ولا ماء ، أحياناً نغوص تحت الماء وأحياناً نرتفع فوقه . لقد رأيت موجه عملاقة في جون ، حيث تكون المياه ضحلة ، والجون جامد صامت ، ومشئوم بعض الشئ متخم بالألفة والحنين ، بينما وراء خط الأفق الآخذ في العتمة تثور مجدداً العاصفة الآخذة في الزوال ، تلك كانت المياه ونحن الحطام العائم . حتى بعد اثني عشر عاماً ليس الأمر أوضح من ذلك . ليس من نهاية له ولا بداية . من العدم أفقنا ، مغفلين العاصمة التي فررنا منها ، وجنوح السفينة المقدر؛ ففي الفترة الزمنية الفاصلة بين موجتين غامرتين متنا ، وكنا أصغر سناً من أن نكون على قيد الحياة . " مررنا بحانة في منتصف الطريق لكي نشرب ثانية . كانت الأرض تنعس في الظلام ، هذا جلي وأدركته . سمعت الأرض تتنفس ، كأنها تخرج من أثير العدم ، كأنما لا تعرف بعد ، ولا تصدق أنها مستيقظة . قال الحَاكِم في نعومة بال : - " الآن حل السلام ، وكل البشر إخوة وأحباب " . وقال ( بلاند ) متحمسا : - " لقد خطبت أمام الاتحاد ذات مرة " . ( بلاند ) هذا كان أشقر ، طويل القامة ، عريض المنكبين . حين يمر بغرفة فيها فتيات يترك وراءه تنهيدة مثل قارب يدخل في مزلق السفينة . وكان من أهل الجنوب مثل ( سرتورس ) ، لكن على ع**ه خلال الأشهر الخمسة التي قام فيها بطلعاته الجوية لم تصب طائرته بأي رصاصة . لكنه نقل من كتيبه أو**فورد – حيث درس بمنحة رود – مع نظارات ووسام الشجاعة . حيث يستبد به السكر يبدأ بالتكلم عن زوجته مع أننا جميعاً نعلم أنه ليس متزوجاً . أخذ القنينة من ( سرتورس ) وعب منها . وقال : - " لدي أحلى زوجة في العالم دعوني أخبركم عنها " . قال ( سرتورس ) وهو يغمز : - " لا تخبرنا ، أعطها ل( كومن ) ، فهو يريد فتاة " . قال ( بلاند ) ببلادة : - " حسناً ، يمكنك الحصول عليها يا ( كومن ) " . سأله ( كومن ) : - " أهي شقراء ؟ " . قال ( بلاند ) هازا كتفيه : - " لا أعرف " . والتفت صوب الحَاكِم ، وأردف : - " لقد تكلمت مرة أمام الاتحاد ، نعم أذكر شيئا كهذا " . قال الحَاكِم : - " آه ، أ**فورد . أجل " . تابع ( بلاند ) : " يستطيع الانتساب إلى مدارس الأثرياء ، أولئك أصحاب الجلود البيضاء ، لكنه لا يستطيع قيادتهم ، لأن الطبقية تتعلق باللون لا بالنسب أو السلوك " . قال الحَاكِم بحزم : - " القتال أهم من الحقيقة ، فيجدر بنا أن نحصر هيبته وامتيازاته على الأقل بحيث لا يفقد شعبيته بوجود مثل هذا العدد الكبير من المضطرين إلى أن يلقوا حتفهم " . سألته لأعرف : - " لماذا هو أكثر أهمية ؟ حسبت أننا نخوض هذه الحرب لكي ننهي الحروب إلى الأبد " . بدرت عن الحاكم إيماءة صغيرة ، مبهمة ، اعتراضية ، رقيقة ، دقيقة ، وقال : - " كنت رجلاً أبيض في تلك اللحظة . القتال أكثر أهمية بالنسبة إلى الأبيض لأنه إلا ما يسعه فعله؛ إنه مجموعه " . - " إذن أنت ترى أبعد مما نرى ؟ " . - " حين يكون المرء في العتمة وينظر إلى الضوء يرى أكثر مما يرى وهو في الضوء وينظر إلى العتمة . هذا هو مبدأ منظار التجسس . هدف العدسة أن تستفزه فحسب ، بما لا يمكن للإحساس بالعذاب والرغبة أن يؤكده " . سأله ( بلاند ) : - " ما الذي تراه إذن ؟ " . قال ( كومن ) مجيبا : - " أرى فتيات ، أرى فدادين وفدادين من شعورهن الصفراء كالسنابل ، وأنا بين السنابل . هل رأيتم كلباً يجس متشمماً بين السنابل ؟ " . قال ( بلاند ) : " ليس يبحث عن الإناث " . التفت ( كومن ) إلى الخلف ، متيناً وضخماً . كان ضخماً كجميع الريفيين . كانت مشاهدة عاملي صيانة يحشرانه داخل كابينة طائرة من طراز دولفين يشبه مشاهدة خدٌامتين تحشران وسادة في غطاء ضيٌق جدا عليها . قال : - " سأبرحك ضرباً لقاء شلن " . تمتمت : " إذن أنت تؤمن بعدل الإنسان ؟ " . كرر ( كومن ) الوعيد : - " سأبرحكم جميعاً ضرباً لقاء شلن " . هنا قال الحَاكِم : - " أنا أؤمن بالحالة ، ببؤس الإنسان . هذا تعبير أفضل " . قال ( كومن ) : - " سأعطيكم شلناً إذن " . وقال ( سرتورس ) : - " حسنا ، هل جرب أحدكم بعض الويسكي في نسيم الليل ؟ " . ثم أخذ ( سرتورس ) القنينة وعب منها ، ثم قال : - " فدادين لا تنتهي منهن ، وأثداؤهن الصغيرة المدورة تتلألأ بين السنابل " . شربنا ثانية إذن ، على الطريق الموحشة بين حقلي شمندر ، في الظلمة الموحشة ، وبدأ السُكر يعود إلى رؤوسنا من المكان الذي ذهب إليه ، ملتفاً حولنا وحول صخرة الحَاكِم الرصينة الصاحية ، حتى بدأ صوته يبدو بعيداً ورقيقاً وحالماً ، وهو يقول إننا أخوة . * * * * * كان ( مونهان ) قد جاء عندئذ ، ووقف قرب سيارتنا تحت شعاع مصابيح سيارته الأمامية ، معتمراً قبعة وسترة عسكرية أمريكية ، وشريطا كتفيه مفكوكان ، وأخذ يشرب من قنينة ( كومن ) . وبجانبه وقف رجل ثانٍ ، كذلك يلبس سترة أقصر وأضيق من ستراتنا ، وكان ثمة ضمادة حول رأسه . قال ( كومن ) مخاطباً ( مونهان ) : - " سأقتلك ، سأعطيك الشلن " . وقال ( مونهان ) : - " حسناً " وأخذ جرعة أخرى . قال الحَاكِم : - " نحن جميعاً أخوة . أحياناً نقف عند النزل الخطأ . نحسبه ليلا ونقف ، وهو ليس ليلاً . هذا كل ما في الأمر " . قال ( كومن ) مخاطباً ( مونهان ) : - " سأعطيك باونداً إسترلينياً " . قال ( مونهان ) : - " حسناً " . ثم ناول القنينة للرجل الواقف بجانبه . فقال الرجل : - " شكراً لك ، لدي الكثير بعد " . قال ( كومن ) : - " سأقتله! " . وقال الحاكم : - " كيف لا يسعنا العيش إلا في حدود الفؤاد ، بينما نرى أبعد من ذلك " . وقال ( مونهان ) رداً على ( كومن ) : - " أكون ملعوناً لو سمحت لك ، إنه ملكي " . والتفت إلى الرجل المضمد وتابع : - " أليس ملكي ؟ خذ اشرب " . قال الرجل : - " شربت الكثير ، أشكركم أيها السادة " . لكنني لا أحسب أن أيا منا انتبه لأمره حتى صرنا داخل حانة " كلوش كلو " . كان المكان مكتظاً ، مليئاً بالجلبة والدخان . لكن ما إن دخلنا حتى اختفى الصوت في لحظة واحدة ، مثل خيط يُقص إلى نصفين ، وراحت وجوه الحاضرين تتلفت بنوع من الرعب الذاهل ، واندفع النادل العجوز بمريلته القذرة نحونا ، فاغراً فاه ، علا وجهه تعبير عن عدم التصديق والذهول بسبب ما يراه ، وكأنه ملحد التقى المسيح أو الشيطان . * * * * * مضينا قُدُماً إلى الداخل ، والنادل يتراجع أمامنا ، تتبعه الوجوه المتلفتة الحانقة ، واتخذنا طاولة بجوار طاولة أخرى يجلس إليها ثلاثة ضباط فرنسيين ، راحوا يتفرسون بنا وقد علا وجوههم التعبير نفسه الذي تدرج من الذهول فالاستياء فالغضب . وقفوا كشخص واحد؛ الغرفة كلها ، وتحول الصمت إلى خليط من الأصوات يشبه المدافع الرشاشة . وعندها التفت ورأيت رفيق ( مونهان ) للمرة الأولي ، بسترته العسكرية الخضراء وسرواله الأ**د الضيق وجزمته السوداء والضمادة حول رأسه . كان هناك جرح تركته الحلاقة على ذقنه ، وبرأسه المضمد ووجهه الناعم والمذهول والشاحب والمريض ، بدا أن ( مونهان ) أنهكه بالشراب . كان شاباً يافعاً مدور الوجه ، وقد التفت الضمادة النظيفة على رأسه مرة واحدة كأنها مجرد تأكيد على فارق العمر بينه وبين الحَاكِم الذي يستقر الطربان على رأسه . إلى جانب وقف ( مونهان ) بوجهه المسعور وسترته المتوحشة ، محاطاً بالفرنسيين المصدومين الثائرين ، مستغرقاً بنوع من القلق والتهذيب في مكابدته الخاصة مع الثمالة التي فرضها عليه ( مونهان ) . * * * * * كان ثمة شئ أرستقراطي في ملامحه : صلب ، مفعم بالروح العسكرية ، جميع أزراره في عراويها ، وبدا بضمادته البيضاء والجروح الحديثة في ذقنه ، غارقاً في تأمل شعلة واضحة من الإيمان الراسخ بالسلوك الفردي أمام فوضي عنيفة لا مفر منها . ثم لاحظت رفيق ( مونهان ) الثاني ، وهو شرطي عسكري أمريكي . لم يكن يحتسي الشراب . بل اكتفي بالجلوس بجوار الألماني لافاً السجائر في كيس قماشي صغير . * * * * * كان ثمة شئ أرستقراطي في ملامحه : صلب ، مفعم بالروح العسكرية ، جميع أزراره في عراويها ، وبدا بضمادته البيضاء والجروح الحديثة في ذقنه ، غارقاً في تأمل شعلة واضحة من الإيمان الراسخ بالسلوك الفردي أمام فوضي عنيفة لا مفر منها . ثم لاحظت رفيق ( مونهان ) الثاني ، وهو شرطي عسكري أمريكي . لم يكن يحتسي الشراب . بل اكتفي بالجلوس بجوار الألماني لافاً السجائر في كيس قماشي صغير . وعلي الجانب الآخر من الألماني أخذ ( مونهان ) يملأ كأسه ، قائلاً : " لقد جئت به هذا الصباح ، سآخذه معي إلى الديار " . سأله ( بلاند ) : - " لماذا ؟ ما الذي تريده منه ؟ " . قال ( مونهان ) : - " لأنه ملكي " . ثم وضع الكأس الممتلئة أمام الألماني : - " خذ ، اشرب " . قال ( بلاند ) : - " فكرت مرة في أن آخذ معي واحدة لزوجتي ، فقط لأثبت لها أنني شاركت في الحرب . لكنني لم أعثر البتة على واحد مناسب ، أعني واحداً كاملاً " . قال ( مونهان ) : - " هيا ، اشرب " . قال الألماني : - " لقد شربت الكثير ، إنني أشرب منذ الصباح " . سأله ( بلاند ) : - " أترغب في مرافقته إلى أمريكا ؟ " . - " أجل أود ذلك . أشكرك " . فقال ( مونهان ) بترحاب : - " بكل تأكيد ستحب أمريكا ، سأصنع منك رجلاً . اشرب " . رفع الألماني كأسه . لكنه بدا بالكاد قادراً على حمله . كان الإجهاد والاستنكار باديين على وجهه ، لكن بنوع من الصفاء كوجه رجل قد تغلب على نفسه . أتخيل أن شهداء المسيحية القدامى نظروا إلى الأ**د بمثل هذه التعبير على وجوههم . كان مريضاً أيضاً . ليس من الشراب ، بل من الإصابة في رأسه : - " لدي في بايروث زوجة وطفل صغير ، صبي لم أره بعد " . أومأ الحَاكِم : - " آه ، بايروث ، لقد زرتها ذات مرة " . قال الألماني ملتفاً بسرعة إلى الحَاكِم : - " آه ، لسماع الموسيقي إذن ؟ " . قال الحَاكِم : - " أجل ، قلة منكم استشعرت أو تذوقت أو عاشت الأخوة الحقيقية . أما بقيتنا فيسعهم النظر إلى ما وراء القلب فحسب . لكن يمكننا إتباعهم لبعض الوقت في الموسيقى " . قال الألماني : - " ثم نضطر إلى العودة ، هذا ليس حسناً . لماذا نضطر دائماً إلى العودة ؟ " . رد الحاكم : - " لم يحن أوان ذلك بعد ، لكن عما قريب . . . لم يعد بعيداً مثلما كان في السابق . لكن ليس الآن " . قال الألماني موافقا : - " أجل ستكون الهزيمة مفيدة لنا ، لكن ليس الانتصار " . قال ( كومن ) : " تعترف إذن أنكم قد هُزمتم ؟ " .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD