* * * * *
لا أعرف ماذا كنا بالضبط!
بدونا كأمريكيين . ( كومن ) فقط بدت مختلفة . ولكن بعد ثلاث سنوات ، بالجاكت البريطاني ، والأجنحة الإنجليزية ، والشرائط الملونة هنا وهناك ، لا أحسب أننا تجشمنا عناء محاولة معرفة حتى من نحن ، أو أن نفكر في الأمر ، أو حتى نتذكره .
في تلك الحياة ، وفى ذلك اليوم ، صرنا أقل من ذلك حتى ، أو أكثر : فأما أنه كان في مؤخرة وعينا أو في الظاهر أننا لم نتساءل خلال ثلاث سنوات . قال حَاكِم الإقليم- الذي التحق بنا بعد فتره معتمراً الطربان ، وشريطة الرائد تزين كتفيه- إننا أشبه بأشخاص يخوضون في الماء!
- " لكن عما قريب سيفوح عفن الكراهية والكلمات . نحن أشبه برجال يسعون في الماء ، حابسين أنفاسنا ، يرى واحدنا أطراف الآخر الكاملة بالغة الصغر ، في تيبّس تام دونما لمس ، دونما اتصال ، دونما أي شئ على الإطلاق ، لا شيء غير العجز والعوز " .
* * * * *
كنا في السيارة وقتها ، متجهين إلى آميان . يقود السيارة ( سرتورس ) وبجانبه ( كومن ) ، رأسه يعلو أكثر منه بقليل ، ويهتز ذات اليمين وذات الشمال كرأس دمية تحركها الخيوط بينما الحَاكِم و( بلاند ) وأنا في المقعد الخلفي ، كل واحد منا يحمل في جيوبه قنينة شراب أو اثنتين ، ما عدا الحَاكِم . كان رجلاً ربعةً ، قصيراً وممتلئاً ، لكنه يتمتع برجاحة عقل هائلة . في ذلك الشلال العنيف من الكحول الذي لذنا به هرباً من ذواتنا المحمومة المحتومة ، كان أشبه بصخرة ، يتكلم بروية ونبرة جدية تزن أربعة أضعاف حجمه .
* * * * *
قال بلهجة العارف :
- " فى بلدي كنت أميراً! لكن بعد اثني عشر عاماً أحسب أننا أشبه بطفيليات تطفو على سطح الماء ، أعزل ، معزول ، لا هدف له ، ولا يعرف الكلل . ليس على سطح الماء بل في صفحة الماء ، في ذلك الخط الفاصل الذي ليس هواء ولا ماء ، أحياناً نغوص تحت الماء وأحياناً نرتفع فوقه . لقد رأيت موجه عملاقة في جون ، حيث تكون المياه ضحلة ، والجون جامد صامت ، ومشئوم بعض الشئ متخم بالألفة والحنين ، بينما وراء خط الأفق الآخذ في العتمة تثور مجدداً العاصفة الآخذة في الزوال ، تلك كانت المياه ونحن الحطام العائم . حتى بعد اثني عشر عاماً ليس الأمر أوضح من ذلك . ليس من نهاية له ولا بداية . من العدم أفقنا ، مغفلين العاصمة التي فررنا منها ، وجنوح السفينة المقدر؛ ففي الفترة الزمنية الفاصلة بين موجتين غامرتين متنا ، وكنا أصغر سناً من أن نكون على قيد الحياة . "
مررنا بحانة في منتصف الطريق لكي نشرب ثانية . كانت الأرض تنعس في الظلام ، هذا جلي وأدركته . سمعت الأرض تتنفس ، كأنها تخرج من أثير العدم ، كأنما لا تعرف بعد ، ولا تصدق أنها مستيقظة .
قال الحَاكِم في نعومة بال :
- " الآن حل السلام ، وكل البشر إخوة وأحباب " .
وقال ( بلاند ) متحمسا :
- " لقد خطبت أمام الاتحاد ذات مرة " .
( بلاند ) هذا كان أشقر ، طويل القامة ، عريض المنكبين . حين يمر بغرفة فيها فتيات يترك وراءه تنهيدة مثل قارب يدخل في مزلق السفينة . وكان من أهل الجنوب مثل ( سرتورس ) ، لكن على ع**ه خلال الأشهر الخمسة التي قام فيها بطلعاته الجوية لم تصب طائرته بأي رصاصة . لكنه نقل من كتيبه أو**فورد – حيث درس بمنحة رود – مع نظارات ووسام الشجاعة . حيث يستبد به السكر يبدأ بالتكلم عن زوجته مع أننا جميعاً نعلم أنه ليس متزوجاً .
أخذ القنينة من ( سرتورس ) وعب منها . وقال :
- " لدي أحلى زوجة في العالم دعوني أخبركم عنها " .
قال ( سرتورس ) وهو يغمز :
- " لا تخبرنا ، أعطها ل( كومن ) ، فهو يريد فتاة " .
قال ( بلاند ) ببلادة :
- " حسناً ، يمكنك الحصول عليها يا ( كومن ) " .
سأله ( كومن ) :
- " أهي شقراء ؟ " .
قال ( بلاند ) هازا كتفيه :
- " لا أعرف " .
والتفت صوب الحَاكِم ، وأردف :
- " لقد تكلمت مرة أمام الاتحاد ، نعم أذكر شيئا كهذا " .
قال الحَاكِم :
- " آه ، أ**فورد . أجل " .
تابع ( بلاند ) :
" يستطيع الانتساب إلى مدارس الأثرياء ، أولئك أصحاب الجلود البيضاء ، لكنه لا يستطيع قيادتهم ، لأن الطبقية تتعلق باللون لا بالنسب أو السلوك " .
قال الحَاكِم بحزم :
- " القتال أهم من الحقيقة ، فيجدر بنا أن نحصر هيبته وامتيازاته على الأقل بحيث لا يفقد شعبيته بوجود مثل هذا العدد الكبير من المضطرين إلى أن يلقوا حتفهم " .
سألته لأعرف :
- " لماذا هو أكثر أهمية ؟ حسبت أننا نخوض هذه الحرب لكي ننهي الحروب إلى الأبد " .
بدرت عن الحاكم إيماءة صغيرة ، مبهمة ، اعتراضية ، رقيقة ، دقيقة ، وقال :
- " كنت رجلاً أبيض في تلك اللحظة . القتال أكثر أهمية بالنسبة إلى الأبيض لأنه إلا ما يسعه فعله؛ إنه مجموعه " .
- " إذن أنت ترى أبعد مما نرى ؟ " .
- " حين يكون المرء في العتمة وينظر إلى الضوء يرى أكثر مما يرى وهو في الضوء وينظر إلى العتمة . هذا هو مبدأ منظار التجسس . هدف العدسة أن تستفزه فحسب ، بما لا يمكن للإحساس بالعذاب والرغبة أن يؤكده " .
سأله ( بلاند ) :
- " ما الذي تراه إذن ؟ " .
قال ( كومن ) مجيبا :
- " أرى فتيات ، أرى فدادين وفدادين من شعورهن الصفراء كالسنابل ، وأنا بين السنابل . هل رأيتم كلباً يجس متشمماً بين السنابل ؟ " .
قال ( بلاند ) : " ليس يبحث عن الإناث " .
التفت ( كومن ) إلى الخلف ، متيناً وضخماً . كان ضخماً كجميع الريفيين . كانت مشاهدة عاملي صيانة يحشرانه داخل كابينة طائرة من طراز دولفين يشبه مشاهدة خدٌامتين تحشران وسادة في غطاء ضيٌق جدا عليها . قال :
- " سأبرحك ضرباً لقاء شلن " .
تمتمت :
" إذن أنت تؤمن بعدل الإنسان ؟ " .
كرر ( كومن ) الوعيد :
- " سأبرحكم جميعاً ضرباً لقاء شلن " .
هنا قال الحَاكِم :
- " أنا أؤمن بالحالة ، ببؤس الإنسان . هذا تعبير أفضل " .
قال ( كومن ) :
- " سأعطيكم شلناً إذن " .
وقال ( سرتورس ) :
- " حسنا ، هل جرب أحدكم بعض الويسكي في نسيم الليل ؟ " .
ثم أخذ ( سرتورس ) القنينة وعب منها ، ثم قال :
- " فدادين لا تنتهي منهن ، وأثداؤهن الصغيرة المدورة تتلألأ بين السنابل " .
شربنا ثانية إذن ، على الطريق الموحشة بين حقلي شمندر ، في الظلمة الموحشة ، وبدأ السُكر يعود إلى رؤوسنا من المكان الذي ذهب إليه ، ملتفاً حولنا وحول صخرة الحَاكِم الرصينة الصاحية ، حتى بدأ صوته يبدو بعيداً ورقيقاً وحالماً ، وهو يقول إننا أخوة .
* * * * *
كان ( مونهان ) قد جاء عندئذ ، ووقف قرب سيارتنا تحت شعاع مصابيح سيارته الأمامية ، معتمراً قبعة وسترة عسكرية أمريكية ، وشريطا كتفيه مفكوكان ، وأخذ يشرب من قنينة ( كومن ) . وبجانبه وقف رجل ثانٍ ، كذلك يلبس سترة أقصر وأضيق من ستراتنا ، وكان ثمة ضمادة حول رأسه .
قال ( كومن ) مخاطباً ( مونهان ) :
- " سأقتلك ، سأعطيك الشلن " .
وقال ( مونهان ) :
- " حسناً "
وأخذ جرعة أخرى .
قال الحَاكِم :
- " نحن جميعاً أخوة . أحياناً نقف عند النزل الخطأ . نحسبه ليلا ونقف ، وهو ليس ليلاً . هذا كل ما في الأمر " .
قال ( كومن ) مخاطباً ( مونهان ) :
- " سأعطيك باونداً إسترلينياً " .
قال ( مونهان ) :
- " حسناً " .
ثم ناول القنينة للرجل الواقف بجانبه .
فقال الرجل :
- " شكراً لك ، لدي الكثير بعد " .
قال ( كومن ) :
- " سأقتله! " .
وقال الحاكم :
- " كيف لا يسعنا العيش إلا في حدود الفؤاد ، بينما نرى أبعد من ذلك " .
وقال ( مونهان ) رداً على ( كومن ) :
- " أكون ملعوناً لو سمحت لك ، إنه ملكي " .
والتفت إلى الرجل المضمد وتابع :
- " أليس ملكي ؟ خذ اشرب " .
قال الرجل :
- " شربت الكثير ، أشكركم أيها السادة " .
لكنني لا أحسب أن أيا منا انتبه لأمره حتى صرنا داخل حانة " كلوش كلو " .
كان المكان مكتظاً ، مليئاً بالجلبة والدخان .
لكن ما إن دخلنا حتى اختفى الصوت في لحظة واحدة ، مثل خيط يُقص إلى نصفين ، وراحت وجوه الحاضرين تتلفت بنوع من الرعب الذاهل ، واندفع النادل العجوز بمريلته القذرة نحونا ، فاغراً فاه ، علا وجهه تعبير عن عدم التصديق والذهول بسبب ما يراه ، وكأنه ملحد التقى المسيح أو الشيطان .
* * * * *
مضينا قُدُماً إلى الداخل ، والنادل يتراجع أمامنا ، تتبعه الوجوه المتلفتة الحانقة ، واتخذنا طاولة بجوار طاولة أخرى يجلس إليها ثلاثة ضباط فرنسيين ، راحوا يتفرسون بنا وقد علا وجوههم التعبير نفسه الذي تدرج من الذهول فالاستياء فالغضب .
وقفوا كشخص واحد؛ الغرفة كلها ، وتحول الصمت إلى خليط من الأصوات يشبه المدافع الرشاشة . وعندها التفت ورأيت رفيق ( مونهان ) للمرة الأولي ، بسترته العسكرية الخضراء وسرواله الأ**د الضيق وجزمته السوداء والضمادة حول رأسه .
كان هناك جرح تركته الحلاقة على ذقنه ، وبرأسه المضمد ووجهه الناعم والمذهول والشاحب والمريض ، بدا أن ( مونهان ) أنهكه بالشراب . كان شاباً يافعاً مدور الوجه ، وقد التفت الضمادة النظيفة على رأسه مرة واحدة كأنها مجرد تأكيد على فارق العمر بينه وبين الحَاكِم الذي يستقر الطربان على رأسه .
إلى جانب وقف ( مونهان ) بوجهه المسعور وسترته المتوحشة ، محاطاً بالفرنسيين المصدومين الثائرين ، مستغرقاً بنوع من القلق والتهذيب في مكابدته الخاصة مع الثمالة التي فرضها عليه ( مونهان ) .
* * * * *
كان ثمة شئ أرستقراطي في ملامحه : صلب ، مفعم بالروح العسكرية ، جميع أزراره في عراويها ، وبدا بضمادته البيضاء والجروح الحديثة في ذقنه ، غارقاً في تأمل شعلة واضحة من الإيمان الراسخ بالسلوك الفردي أمام فوضي عنيفة لا مفر منها . ثم لاحظت رفيق ( مونهان ) الثاني ، وهو شرطي عسكري أمريكي . لم يكن يحتسي الشراب . بل اكتفي بالجلوس بجوار الألماني لافاً السجائر في كيس قماشي صغير .
* * * * *
كان ثمة شئ أرستقراطي في ملامحه : صلب ، مفعم بالروح العسكرية ، جميع أزراره في عراويها ، وبدا بضمادته البيضاء والجروح الحديثة في ذقنه ، غارقاً في تأمل شعلة واضحة من الإيمان الراسخ بالسلوك الفردي أمام فوضي عنيفة لا مفر منها . ثم لاحظت رفيق ( مونهان ) الثاني ، وهو شرطي عسكري أمريكي . لم يكن يحتسي الشراب . بل اكتفي بالجلوس بجوار الألماني لافاً السجائر في كيس قماشي صغير .
وعلي الجانب الآخر من الألماني أخذ ( مونهان ) يملأ كأسه ، قائلاً :
" لقد جئت به هذا الصباح ، سآخذه معي إلى الديار " .
سأله ( بلاند ) :
- " لماذا ؟ ما الذي تريده منه ؟ " .
قال ( مونهان ) :
- " لأنه ملكي " .
ثم وضع الكأس الممتلئة أمام الألماني :
- " خذ ، اشرب " .
قال ( بلاند ) :
- " فكرت مرة في أن آخذ معي واحدة لزوجتي ، فقط لأثبت لها أنني شاركت في الحرب . لكنني لم أعثر البتة على واحد مناسب ، أعني واحداً كاملاً " .
قال ( مونهان ) :
- " هيا ، اشرب " .
قال الألماني :
- " لقد شربت الكثير ، إنني أشرب منذ الصباح " .
سأله ( بلاند ) :
- " أترغب في مرافقته إلى أمريكا ؟ " .
- " أجل أود ذلك . أشكرك " .
فقال ( مونهان ) بترحاب :
- " بكل تأكيد ستحب أمريكا ، سأصنع منك رجلاً . اشرب " .
رفع الألماني كأسه . لكنه بدا بالكاد قادراً على حمله . كان الإجهاد والاستنكار باديين على وجهه ، لكن بنوع من الصفاء كوجه رجل قد تغلب على نفسه . أتخيل أن شهداء المسيحية القدامى نظروا إلى الأ**د بمثل هذه التعبير على وجوههم . كان مريضاً أيضاً . ليس من الشراب ، بل من الإصابة في رأسه :
- " لدي في بايروث زوجة وطفل صغير ، صبي لم أره بعد " .
أومأ الحَاكِم :
- " آه ، بايروث ، لقد زرتها ذات مرة " .
قال الألماني ملتفاً بسرعة إلى الحَاكِم :
- " آه ، لسماع الموسيقي إذن ؟ " .
قال الحَاكِم :
- " أجل ، قلة منكم استشعرت أو تذوقت أو عاشت الأخوة الحقيقية . أما بقيتنا فيسعهم النظر إلى ما وراء القلب فحسب . لكن يمكننا إتباعهم لبعض الوقت في الموسيقى " .
قال الألماني :
- " ثم نضطر إلى العودة ، هذا ليس حسناً . لماذا نضطر دائماً إلى العودة ؟ " .
رد الحاكم :
- " لم يحن أوان ذلك بعد ، لكن عما قريب . . . لم يعد بعيداً مثلما كان في السابق . لكن ليس الآن " .
قال الألماني موافقا :
- " أجل ستكون الهزيمة مفيدة لنا ، لكن ليس الانتصار " .
قال ( كومن ) : " تعترف إذن أنكم قد هُزمتم ؟ " .