10

2421 Words
ثم أدار رأسه ونظرنا جميعاً إلى الجنديين الفرنسيين ، الضابط والرقيب ، الواقفين عند طاولتنا . ظللنا صامتين لبرهة . كان الأمر كأن البق الصغيرة اكتشفت فجأة أن مداراتها متواجدة جنباً إلى جنب ، وأنها غير مضطرة إلى أن تكون بلا هدف أو أن تستمر في الحركة . بتأثير الكحول بدأت أحس بتلك الكرة الصلبة الحارة في معدتي ، كما في المعركة ، كما حين تعرف أن شيئاً ما سيحدث؛ تلك اللحظة التي تفكر فيها أن الأمر سيحدث الآن . الآن يمكنني أن أرمي كل شئ وأكون نفسي . الآن . الآن ، يا للشعور الرائع . قال الضابط الفرنسي : - " لماذا هذا الشخص هنا يا مسيو ؟ " . نظر ( مونهان ) إليه ، ثم رجع بكرسيه إلى الخلف ومال جانبياً ، موازناً نفسه على إربتي فخذيه ، طارحاً ذراعه على الطاولة . قال الضابط : - " لماذا تفعل ما يهين فرنسا يا مسيو ؟ " أمسك الشرطي العسكري بـ ( مونهان ) بينما هو يهم بالوقوف . وقال : - " انتظر لحظة ، على رسلك " . وراحت السيجارة تترجرج على شفتيه بينما يتكلم ، ويداه على كتفي ( مونهان ) ، وقد ارتفع عضد ذراعه إلى أعلي زنده قليلاً ، ثم قال : - " وما شأنك أنت أيها الضفدع ؟ " . وراء الضابط وقف الفرنسيون الآخرون ، ومعهم المرأة العجوز التي راحت تحاول اختراق الجمع . قال الشرطي : - " هذا سجيني ، وسآخذه أينما شئت ، وأبقيه قد ما شئت . ما رأيك بهذا ؟ " . قال الضابط : - " بأي سلطة يا مسيو ؟ " . كان طويلاً ذا وجه شاحب ومأساوي . ورأيت عندئذ أن إحدى عينيه من زجاج ، فقد بدت متجمدة تماماً ، ميتة في وجه يبدو أكثر مواتاً منها . نظر الشرطي العسكري إلى عضد ذراعه ، ثم إلى الضابط مجدداً ، ولمس مسدسه الذي يتأرجح على خاصرته . - " سأصحبه في طول هذه البلاد اللعينة وعرضها . سآخذه إلى مجلس شيوخكم اللعين وأُقيم الرئيس وأجلسه مكانه ، ويمكنك أن تموت غيظاً حتى آتي وأمسح البراز عن قدميك مجدداً " . قال الضابط : - " آه ، أنت جندي أمريكي . . فهمت " . قال " جندي أمريكي " زاماً شفتيه ، ومن دون أن يتحرك شئ في وجهه الميت ، الذي يشكل إهانة في حد ذاته . وراءه راحت صاحبة الحانة تصرخ بالفرنسية : - " طاخ! طاخ! طيخ! طوخ! كل فنجان ، كل طبق ، كل كأس, كل صحن . . .كله كله! سأريكم ، لقد احتفظت بها لهذا اليوم . ثمانية أشهر منذ سقطت القذيفة ، احتفظت بها في علبة لهذا اليوم : الأطباق ، الصحون ، الكؤوس ، كل ما امتلكه خلال ثلاثين عاما ، كله دٌمر ، تحطم دفعة واحدة! ويكلفني خمسين سنتيما للكأس بحيث أخزي نفسي لكي أجعل زبائني . . . " . يصل السأم أحياناً إلى نقطة ، إلى ذروة ، لا تحتمل . حتى الكحول لا يمكنه الدنو منها . لكنه يحفز الغوغاء ، مثلما تحفزها تلك الضعة الكاملة النابغة من الرتابة التي لا تحتمل . ثم بدا كأننا جميعاً تخلصنا من أحمالنا دفعة واحدة ، مواجهين بلا خزي ولا تحفظ الشبح الذي بالغنا طوال أربع سنوات في تزيينه بكلمات كبيرة ، مندفعين في كتلة واحدة متراصة . رأيت الشرطي العسكري يقفز على الضابط ، ثم نهض ( كومن ) وتصدى له . رأيت الشرطي العسكري يلكم ( كومن ) ثلاث مرات على فكه قبل أن يرفعه ( كومن ) و يرميه فوق الحشد ، حيث اختفى أفقياً في الهواء ، وهو يحاول سحب مسدسه . ثم رأيت ثلاثة جنود فرنسيين على ظهر ( مونهان ) والضابط يحاول ضربه بقنينة ، و( سرتورس ) يقفز على الضابط من الخلف . غاب ( كومن ) عن الوعي ، ومن الفسحة التي خلفها مكانه اندفعت مالكة الخانة صارخة ، بينما حاول رجلان ردها إلى الخلف ، و هي تحاول أن تبصق على الألماني . - " باش! باش! " ، راحت تصرخ ، وهى تبصق ويسيل ل**بها ، وقد غطى شعرها الرمادي وجهها ، ثم استدارت وبصقت بصقه كاملة علي : - " وأنتم أيضا! " ، صرخت ، " ليست إنجلترا التي دٌمرت! أنتم أيضا جئتم لتلتقطوا عظام فرنسا . كلاب! ح*****ت! كل شيء تحطم! تحطم! تحطم! " وفى خضم ذلك كله ، من دون أن ينبسا بحركة أو كلمة ، والحَاكِم المقرفص مثل تمثال ، وكلاهما يضعان الطربان مثل نبيين من العهد القديم . * * * * * رأيت الشرطي العسكري يقفز على الضابط ، ثم نهض ( كومن ) وتصدى له . رأيت الشرطي العسكري يلكم ( كومن ) ثلاث مرات على فكه قبل أن يرفعه ( كومن ) و يرميه فوق الحشد ، حيث اختفى أفقياً في الهواء ، وهو يحاول سحب مسدسه . ثم رأيت ثلاثة جنود فرنسيين على ظهر ( مونهان ) والضابط يحاول ضربه بقنينة ، و( سرتورس ) يقفز على الضابط من الخلف . غاب ( كومن ) عن الوعي ، ومن الفسحة التي خلفها مكانه اندفعت مالكة الخانة صارخة ، بينما حاول رجلان ردها إلى الخلف ، و هي تحاول أن تبصق على الألماني . - " باش! باش! " ، راحت تصرخ ، وهى تبصق ويسيل ل**بها ، وقد غطى شعرها الرمادي وجهها ، ثم استدارت وبصقت بصقه كاملة علي : - " وأنتم أيضا! " ، صرخت ، " ليست إنجلترا التي دٌمرت! أنتم أيضا جئتم لتلتقطوا عظام فرنسا . كلاب! ح*****ت! كل شيء تحطم! تحطم! تحطم! " وفى خضم ذلك كله ، من دون أن ينبسا بحركة أو كلمة ، والحَاكِم المقرفص مثل تمثال ، وكلاهما يضعان الطربان مثل نبيين من العهد القديم . * * * * * لم يطل الموضوع . لا علاقة للوقت بما جرى . أو بالأحرى كنا نحن خارج حدود الزمن ، ضمن ، وليس في ، ذلك السطح ، عند الحد بين القديم الذي نعرف أننا لم نمت فيهـا ، والجديد الذي قال الحَاكِم إننا موتى فيه . وراء الأيدي التي تلوح بالقناني والأكمام الزرقاء والأيدي المتسخة ووجوهنا التي تشبه أقنعة تبتسم ابتسامات صفراء في صرخات متجمدة معدومة الصوت لتخيف الأطفال ، رأيت ( كومن ) ثانية . جاء مندفعاً مثل محملة في بحر عاصف ، تحت ذراعه كان النادل القديم ، وفى فمه صفارة الشرطي العسكري . ثم قذف ( سرتورس ) كرسيا على اللمبة الوحيدة في المكان . * * * * * اخترق صقيع الشارع ثيابنا ومسام جلودنا المترعة بالكحول وتسلل إلى عظامنا . كانت الساحة خالية ، و الأضواء خافتة وبعيدة . وكان الجو هادئا إلى حد أنني سمعت صوت المياه الراكدة في البركة . من مسافة بعيدة تحت السماء المنخفضة السميكة سمعت صوتاً ، صراخاً أنثوياً حاداً مثل كل الصراخ ، ثم صراخ حشد من الرجال ، يقطعه من وقت لأخر صوت فرقة تعزف نشيداً وطنياً . وقف ( كومن ) و( مونهان ) مستظلين بالجدار ، محاولين إبقاء الألماني واقفاً على قدميه . كان غائبا عن الوعي ، وكانت الظلمة تكتنفهم باستثناء لمعان الضمادة الباهت على رأس الألماني ، ولم يصل إلى مسامعي من طرفهم سوى سيل الشتائم الرتيبة من فم ( مونهان ) . قال الحَاكِم : - " لم يكن من المحبذ أن يتحالف الإنجليز والفرنسيون " . كان يتكلم بسلاسة؛ بصوت أشبه بصوت الأرغن ، لا يتناسب البتة مع حجمه . - " لا ينبغي أن توحد الأمم المختلفة قواها وتحارب تحت راية واحدة . فلتقاتل كل منها لهدف مختلف؛ فلا ينشأ نزاع بينهما ، ويمضى كل منها في طريقة " . مر ( سرتورس ) بنا ، آتيا من البركة ، حاملاً بحرص قبعته المليئة ماء التي تنقط بين رجليه . ثم انضم إلى الكتلة القاتمة التي تومض فيها الضمادة ويشتم ( مونهان ) برتابة وفتور . وتابع الحَاكِم : - " وكل واحد يتبع تقاليده . شعبي مثلا ، أعطاه الإنجليز البنادق ، فراحوا يحملقون بها ثم جاءوني قائلين : هذه الحربة قصيرة جداً : كيف يمكن أن يقتل المرء عدواً سريعاَ بحربة بهذا الحجم والوزن ؟ كما أعطوهم حلل عسكرية ينبغي أن تظل مزررة؛ مررت بمجموعة كبيرة من الجنود الجالسين القرفصاء وقد غطوا أنفسهم حتى الآذان بالبطانيات وبأكياس الخيش ، واسودت وجوههم من البرد؛ وحين رفعت البطانيات وجدت أنهم لا يلبسون السراويل القصيرة " . * * * * * " يقول لهم الضباط الإنجليز اذهبوا إلى هناك وافعلوا كذا؛ فلا يتحركون البتة . ثم ذات يوم ، تحت ضوء القمر المكتمل ، سمعت الكتيبة حركة تنبعث من وراء حفرة ما فخرجت من الخندق جارة إباى وضابطاً آخر معي . تركنا الخندق من دون أن نطلق رصاصة واحده ، ومن تبقى منا ، الضابط وأنا وسبعة عشر جندياً آخرين ، علقنا ثلاثة أيام على خطوط العدو الأمامية وقد تطلب الأمر لواء بأكمله لإخراجنا من هناك . سألهم الضابط : لماذا لم تطلقوا الرصاص ؟ لقد تركتموهم يتصيدونكم مثل الطيور السمان . . . " لم ينظر الجنود إليه . وقفوا كالأطفال صامتين ، دونما أي إحساس بالخزي . سألت قائدهم : هل كانت البنادق محشوة بالرصاص يا داس ؟ فهبوا واقفين كالأطفال ، دونما أي إحساس بالخجل ، وقال داس : أوه يا ابن الأكابر . فقلت له : قل الحقيقة للسيد ، فأجابني ، لا لم تكن البنادق محشوة " . * * * * * سمعنا صوت الكتلة يهدر من بعيد في الهواء البارد . كانوا يسقون الألماني من قنينة . وقال له ( مونهان ) : - " والآن أتشعر ببعض التحسن ؟ " غمغم الألماني : - " إنه رأسي " . كانوا يتكلمون بهدوء كأنهم يتناقشون حول اختيار ورق الجدران . سب ( مونهان ) ثانية ، وقال : - " سأعود لهم . بحق الله . . . " . قال الألماني : - " لا ،لا ، لن أسمح بذلك . لقد دافعتم أصلاً . . . " . وقفنا في العتمة تحت جدار نحتسى الشراب . بقيت معنا قنينة واحدة . وحين فرغت حطمها ( كومن ) بالجدار . قال ( بلاند ) : " والآن ماذا " . قال ( كومن ) : " الفتيات ، هلا يمكنكم تخيل ( كومن ) من الأمة الأيرلندية بين ذوات الشعر الأصفر مثل كلب بين السنابل ؟ " . وقفنا هناك ، نستمع إلى الجلبة المنبعثة من الحانة . وقال ( مونهان ) : - " هل أنت متأكد أنك بخير ؟ " . أجابه الألماني : - " شكراً ، أشعر أنني بخير " . فقال ( كومن ) : " هيا بنا إذاً " . وقال ( بلاند ) : " هل ستأخذه معك " . أجاب ( مونهان ) : " أجل ، ما المانع ؟ " . - " لم تأخذه إلى المقر ؟ إنه مريض " . فقال ( مونهان ) : " أتريدني أن ألكم وجهك اللعين ؟ " . قال ( بلاند ) : - " حسناَ " . رد ( كومن ) : - " هيا بنا ، أي أ**ق يتشاجر بدلاً من أن يستمتع بوقته ؟ كل الرجال إخوة ، وكل زوجاتهم أخوات . فهيا بنا يا جنود منتصف الليل أنتم " . خاطب ( بلاند ) الألماني : - " اسمعني جيدا ، أتريد الذهاب معهم ؟ " . بدا الألماني والحَاكِم ، بربطتي رأسيهما ، مثل جنديين مصابين بين خمسة أشباح . - " أسنده قليلاً " قال اقترب ( مونهان ) من ( بلاند ) . وشتمه ، قائلاً بالصوت الرتيب نفسه : - " أنا أحب المشاجرة ، وحتى أنني أحب التعرض للضرب " . وقال الألماني : - " لحظة! مجدداً لن أسمح . " توقف ( مونهان ) الذي لا يبعد عنه قدماً . وقال الألماني : - " لدى زوجة وابن في بايروث " . كان يوجه كلامه إلى ، ثم كرر لي عنوان بيته مرتين . قلت : - " سأرسلها ، ماذا تريدني أن أقول لها ؟ " . - " قل لها إنها لا تساوي شيئاً . سوف تعرف ما تقول لها " . - " أجل سأقول لها إنك بخير " . - " قل لها هذه الحياة لا تساوى شيئاً " . أمسكه ( مونهان ) و( كومن ) من ذراعيه مجدداً . استدار ومضيا وهما يحملانه تقريباً . نظر ( كومن ) مرة إلى الخلف ، قائلاً : - " في حفظ الله " . قال الحَاكِم : - " وأنت أيضا " . * * * * * ومضيا . رأينا ظليهما في العتمة عند مدخل زقاق منير ضيق ، و الضوء البارد الخافت يسقط على الجسر وعلى الجدران جاعلاً مدخل الزقاق أشبه ببوابة عبراها ، مسندين الألماني بينهما . سأل ( بلاند ) : - " ما الذي سيفعلونه به ؟ هل سيرمونه في زاوية ما و يقتلونه ؟ أم ثمة أسرة في المواخير الفرنسية أيضا ؟ " . قلت باستهانة : - " من يهمه هذا عموما ؟ " . انبعث صوت الفرقة الموسيقية قوياً من الحانة . كل مرة كان جلدي يرتعش بفعل الكحول والبرد كنت أحسبني أسمع صوت عظامي تتهشم . قال الحَاكِم : - " منذ سبع سنوات وأنا في هذا الطقس ، لكنني ما زلت لا أحب البرد " . جاء صوته عميقاً هادئاً ، كأن طوله ست أقدام ، كأنما حين صنعوه قالوا في ما بينهم ، وتابع : - " سنعطيهم شيئاً لكي يحمل رسالته معه ؟ لماذا ؟ من سيسمع رسالته ؟ هو ؟ لذا سنعطيه شيئاً يسمعها هو نفسه به " . سأله ( بلاند ) : - " آه ، أنا أيضاً لا أحب أن أكون باروناً " . - " خرجت إذن وتركت الأجانب الذين سيعاملون الناس مثل الثيران أو الأرانب يأتون ويحتلون الهند " . - " بخروجي من هناك أبطلت في يوم واحد ما تطل فعله ألفي عام . أوليس هذا بالأمر المهم ؟ " . رحنا نرتعش من شدة البرد الذي صار هو الفرقة ، النشيد الهادر الذي يدمدم بيدين باردتين مخاطباً العظام ، لا الأذنين . قال ( بلاند ) بهدوء : - " حسناً ، أحسب أن الحكومة الإنجليزية تفعل لتحرير شعبك أكثر مما تفعله أنت " . لمس الحَاكِم ( بلاند ) على ص*ره ، لمسة خفيفة . وقال : - " أنت حكيم يا صديقي . فلتسعد إنجلترا لأن جميع الإنجليز ليسو حكماء مثلك " . - " إذن ستبقي منفياً طوال حياتك ؟ " . أشار الحَاكِم بيده الغليظة القصيرة إلى القنطرة حيث اختفي ( مونهان ) و( كومن ) والألماني : - " ألم تسمع ما قاله ؟ هذه الحياة هراء " . قال ( بلاند ) : - " يمكنك التفكير على هذا النحو ، لكن لحق الله ، أكره أن أفكر أن ما ادخرته خلال السنوات الثلاث الماضية لم يكن شيئاً " . قال الحَاكِم برقة : - " ادخرت رجلاً ميتاً ، سوف ترى " . وقال ( بلاند ) : - " ادخرت قدري ، لا أنت ولا أي شخص يعرف ما سيكون " . غمغم الحَاكِم : - " ما قدرك سوى أن تكون ميتاً ؟ من سوء الحظ أن جيلك هو المختار . من سوء الحظ أن أفضل أيام حياتك ستمضيها ماشياً الأرض كروح . لكن هذا قدرك " . * * * * *
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD