ثم أدار رأسه ونظرنا جميعاً إلى الجنديين الفرنسيين ، الضابط والرقيب ، الواقفين عند طاولتنا . ظللنا صامتين لبرهة . كان الأمر كأن البق الصغيرة اكتشفت فجأة أن مداراتها متواجدة جنباً إلى جنب ، وأنها غير مضطرة إلى أن تكون بلا هدف أو أن تستمر في الحركة .
بتأثير الكحول بدأت أحس بتلك الكرة الصلبة الحارة في معدتي ، كما في المعركة ، كما حين تعرف أن شيئاً ما سيحدث؛ تلك اللحظة التي تفكر فيها أن الأمر سيحدث الآن . الآن يمكنني أن أرمي كل شئ وأكون نفسي .
الآن . الآن ، يا للشعور الرائع .
قال الضابط الفرنسي :
- " لماذا هذا الشخص هنا يا مسيو ؟ " .
نظر ( مونهان ) إليه ، ثم رجع بكرسيه إلى الخلف ومال جانبياً ، موازناً نفسه على إربتي فخذيه ، طارحاً ذراعه على الطاولة .
قال الضابط :
- " لماذا تفعل ما يهين فرنسا يا مسيو ؟ "
أمسك الشرطي العسكري بـ ( مونهان ) بينما هو يهم بالوقوف . وقال :
- " انتظر لحظة ، على رسلك " .
وراحت السيجارة تترجرج على شفتيه بينما يتكلم ، ويداه على كتفي ( مونهان ) ، وقد ارتفع عضد ذراعه إلى أعلي زنده قليلاً ، ثم قال :
- " وما شأنك أنت أيها الضفدع ؟ " .
وراء الضابط وقف الفرنسيون الآخرون ، ومعهم المرأة العجوز التي راحت تحاول اختراق الجمع .
قال الشرطي :
- " هذا سجيني ، وسآخذه أينما شئت ، وأبقيه قد ما شئت . ما رأيك بهذا ؟ " .
قال الضابط :
- " بأي سلطة يا مسيو ؟ " .
كان طويلاً ذا وجه شاحب ومأساوي . ورأيت عندئذ أن إحدى عينيه من زجاج ، فقد بدت متجمدة تماماً ، ميتة في وجه يبدو أكثر مواتاً منها .
نظر الشرطي العسكري إلى عضد ذراعه ، ثم إلى الضابط مجدداً ، ولمس مسدسه الذي يتأرجح على خاصرته .
- " سأصحبه في طول هذه البلاد اللعينة وعرضها . سآخذه إلى مجلس شيوخكم اللعين وأُقيم الرئيس وأجلسه مكانه ، ويمكنك أن تموت غيظاً حتى آتي وأمسح البراز عن قدميك مجدداً " .
قال الضابط :
- " آه ، أنت جندي أمريكي . . فهمت " .
قال " جندي أمريكي " زاماً شفتيه ، ومن دون أن يتحرك شئ في وجهه الميت ، الذي يشكل إهانة في حد ذاته .
وراءه راحت صاحبة الحانة تصرخ بالفرنسية :
- " طاخ! طاخ! طيخ! طوخ! كل فنجان ، كل طبق ، كل كأس, كل صحن . . .كله كله! سأريكم ، لقد احتفظت بها لهذا اليوم . ثمانية أشهر منذ سقطت القذيفة ، احتفظت بها في علبة لهذا اليوم : الأطباق ، الصحون ، الكؤوس ، كل ما امتلكه خلال ثلاثين عاما ، كله دٌمر ، تحطم دفعة واحدة! ويكلفني خمسين سنتيما للكأس بحيث أخزي نفسي لكي أجعل زبائني . . . " .
يصل السأم أحياناً إلى نقطة ، إلى ذروة ، لا تحتمل . حتى الكحول لا يمكنه الدنو منها . لكنه يحفز الغوغاء ، مثلما تحفزها تلك الضعة الكاملة النابغة من الرتابة التي لا تحتمل . ثم بدا كأننا جميعاً تخلصنا من أحمالنا دفعة واحدة ، مواجهين بلا خزي ولا تحفظ الشبح الذي بالغنا طوال أربع سنوات في تزيينه بكلمات كبيرة ، مندفعين في كتلة واحدة متراصة .
رأيت الشرطي العسكري يقفز على الضابط ، ثم نهض ( كومن ) وتصدى له . رأيت الشرطي العسكري يلكم ( كومن ) ثلاث مرات على فكه قبل أن يرفعه ( كومن ) و يرميه فوق الحشد ، حيث اختفى أفقياً في الهواء ، وهو يحاول سحب مسدسه . ثم رأيت ثلاثة جنود فرنسيين على ظهر ( مونهان ) والضابط يحاول ضربه بقنينة ، و( سرتورس ) يقفز على الضابط من الخلف .
غاب ( كومن ) عن الوعي ، ومن الفسحة التي خلفها مكانه اندفعت مالكة الخانة صارخة ، بينما حاول رجلان ردها إلى الخلف ، و هي تحاول أن تبصق على الألماني .
- " باش! باش! " ، راحت تصرخ ، وهى تبصق ويسيل ل**بها ، وقد غطى شعرها الرمادي وجهها ، ثم استدارت وبصقت بصقه كاملة علي :
- " وأنتم أيضا! " ، صرخت ، " ليست إنجلترا التي دٌمرت! أنتم أيضا جئتم لتلتقطوا عظام فرنسا . كلاب! ح*****ت! كل شيء تحطم! تحطم! تحطم! "
وفى خضم ذلك كله ، من دون أن ينبسا بحركة أو كلمة ، والحَاكِم المقرفص مثل تمثال ، وكلاهما يضعان الطربان مثل نبيين من العهد القديم .
* * * * *
رأيت الشرطي العسكري يقفز على الضابط ، ثم نهض ( كومن ) وتصدى له . رأيت الشرطي العسكري يلكم ( كومن ) ثلاث مرات على فكه قبل أن يرفعه ( كومن ) و يرميه فوق الحشد ، حيث اختفى أفقياً في الهواء ، وهو يحاول سحب مسدسه . ثم رأيت ثلاثة جنود فرنسيين على ظهر ( مونهان ) والضابط يحاول ضربه بقنينة ، و( سرتورس ) يقفز على الضابط من الخلف .
غاب ( كومن ) عن الوعي ، ومن الفسحة التي خلفها مكانه اندفعت مالكة الخانة صارخة ، بينما حاول رجلان ردها إلى الخلف ، و هي تحاول أن تبصق على الألماني .
- " باش! باش! " ، راحت تصرخ ، وهى تبصق ويسيل ل**بها ، وقد غطى شعرها الرمادي وجهها ، ثم استدارت وبصقت بصقه كاملة علي :
- " وأنتم أيضا! " ، صرخت ، " ليست إنجلترا التي دٌمرت! أنتم أيضا جئتم لتلتقطوا عظام فرنسا . كلاب! ح*****ت! كل شيء تحطم! تحطم! تحطم! "
وفى خضم ذلك كله ، من دون أن ينبسا بحركة أو كلمة ، والحَاكِم المقرفص مثل تمثال ، وكلاهما يضعان الطربان مثل نبيين من العهد القديم .
* * * * *
لم يطل الموضوع . لا علاقة للوقت بما جرى . أو بالأحرى كنا نحن خارج حدود الزمن ، ضمن ، وليس في ، ذلك السطح ، عند الحد بين القديم الذي نعرف أننا لم نمت فيهـا ، والجديد الذي قال الحَاكِم إننا موتى فيه . وراء الأيدي التي تلوح بالقناني والأكمام الزرقاء والأيدي المتسخة ووجوهنا التي تشبه أقنعة تبتسم ابتسامات صفراء في صرخات متجمدة معدومة الصوت لتخيف الأطفال ، رأيت ( كومن ) ثانية . جاء مندفعاً مثل محملة في بحر عاصف ، تحت ذراعه كان النادل القديم ، وفى فمه صفارة الشرطي العسكري . ثم قذف ( سرتورس ) كرسيا على اللمبة الوحيدة في المكان .
* * * * *
اخترق صقيع الشارع ثيابنا ومسام جلودنا المترعة بالكحول وتسلل إلى عظامنا . كانت الساحة خالية ، و الأضواء خافتة وبعيدة . وكان الجو هادئا إلى حد أنني سمعت صوت المياه الراكدة في البركة .
من مسافة بعيدة تحت السماء المنخفضة السميكة سمعت صوتاً ، صراخاً أنثوياً حاداً مثل كل الصراخ ، ثم صراخ حشد من الرجال ، يقطعه من وقت لأخر صوت فرقة تعزف نشيداً وطنياً . وقف ( كومن ) و( مونهان ) مستظلين بالجدار ، محاولين إبقاء الألماني واقفاً على قدميه .
كان غائبا عن الوعي ، وكانت الظلمة تكتنفهم باستثناء لمعان الضمادة الباهت على رأس الألماني ، ولم يصل إلى مسامعي من طرفهم سوى سيل الشتائم الرتيبة من فم ( مونهان ) .
قال الحَاكِم :
- " لم يكن من المحبذ أن يتحالف الإنجليز والفرنسيون " .
كان يتكلم بسلاسة؛ بصوت أشبه بصوت الأرغن ، لا يتناسب البتة مع حجمه .
- " لا ينبغي أن توحد الأمم المختلفة قواها وتحارب تحت راية واحدة . فلتقاتل كل منها لهدف مختلف؛ فلا ينشأ نزاع بينهما ، ويمضى كل منها في طريقة " .
مر ( سرتورس ) بنا ، آتيا من البركة ، حاملاً بحرص قبعته المليئة ماء التي تنقط بين رجليه . ثم انضم إلى الكتلة القاتمة التي تومض فيها الضمادة ويشتم ( مونهان ) برتابة وفتور . وتابع الحَاكِم :
- " وكل واحد يتبع تقاليده . شعبي مثلا ، أعطاه الإنجليز البنادق ، فراحوا يحملقون بها ثم جاءوني قائلين : هذه الحربة قصيرة جداً : كيف يمكن أن يقتل المرء عدواً سريعاَ بحربة بهذا الحجم والوزن ؟ كما أعطوهم حلل عسكرية ينبغي أن تظل مزررة؛ مررت بمجموعة كبيرة من الجنود الجالسين القرفصاء وقد غطوا أنفسهم حتى الآذان بالبطانيات وبأكياس الخيش ، واسودت وجوههم من البرد؛ وحين رفعت البطانيات وجدت أنهم لا يلبسون السراويل القصيرة " .
* * * * *
" يقول لهم الضباط الإنجليز اذهبوا إلى هناك وافعلوا كذا؛ فلا يتحركون البتة . ثم ذات يوم ، تحت ضوء القمر المكتمل ، سمعت الكتيبة حركة تنبعث من وراء حفرة ما فخرجت من الخندق جارة إباى وضابطاً آخر معي . تركنا الخندق من دون أن نطلق رصاصة واحده ، ومن تبقى منا ، الضابط وأنا وسبعة عشر جندياً آخرين ، علقنا ثلاثة أيام على خطوط العدو الأمامية وقد تطلب الأمر لواء بأكمله لإخراجنا من هناك . سألهم الضابط : لماذا لم تطلقوا الرصاص ؟ لقد تركتموهم يتصيدونكم مثل الطيور السمان . . .
" لم ينظر الجنود إليه . وقفوا كالأطفال صامتين ، دونما أي إحساس بالخزي . سألت قائدهم : هل كانت البنادق محشوة بالرصاص يا داس ؟ فهبوا واقفين كالأطفال ، دونما أي إحساس بالخجل ، وقال داس : أوه يا ابن الأكابر . فقلت له : قل الحقيقة للسيد ، فأجابني ، لا لم تكن البنادق محشوة " .
* * * * *
سمعنا صوت الكتلة يهدر من بعيد في الهواء البارد . كانوا يسقون الألماني من قنينة . وقال له ( مونهان ) :
- " والآن أتشعر ببعض التحسن ؟ "
غمغم الألماني :
- " إنه رأسي " .
كانوا يتكلمون بهدوء كأنهم يتناقشون حول اختيار ورق الجدران .
سب ( مونهان ) ثانية ، وقال :
- " سأعود لهم . بحق الله . . . " .
قال الألماني :
- " لا ،لا ، لن أسمح بذلك . لقد دافعتم أصلاً . . . " .
وقفنا في العتمة تحت جدار نحتسى الشراب . بقيت معنا قنينة واحدة . وحين فرغت حطمها ( كومن ) بالجدار .
قال ( بلاند ) : " والآن ماذا " .
قال ( كومن ) : " الفتيات ، هلا يمكنكم تخيل ( كومن ) من الأمة الأيرلندية بين ذوات الشعر الأصفر مثل كلب بين السنابل ؟ " .
وقفنا هناك ، نستمع إلى الجلبة المنبعثة من الحانة . وقال ( مونهان ) :
- " هل أنت متأكد أنك بخير ؟ " .
أجابه الألماني :
- " شكراً ، أشعر أنني بخير " .
فقال ( كومن ) : " هيا بنا إذاً " .
وقال ( بلاند ) : " هل ستأخذه معك " .
أجاب ( مونهان ) : " أجل ، ما المانع ؟ " .
- " لم تأخذه إلى المقر ؟ إنه مريض " .
فقال ( مونهان ) : " أتريدني أن ألكم وجهك اللعين ؟ " .
قال ( بلاند ) :
- " حسناَ " .
رد ( كومن ) :
- " هيا بنا ، أي أ**ق يتشاجر بدلاً من أن يستمتع بوقته ؟ كل الرجال إخوة ، وكل زوجاتهم أخوات . فهيا بنا يا جنود منتصف الليل أنتم " .
خاطب ( بلاند ) الألماني :
- " اسمعني جيدا ، أتريد الذهاب معهم ؟ " .
بدا الألماني والحَاكِم ، بربطتي رأسيهما ، مثل جنديين مصابين بين خمسة أشباح .
- " أسنده قليلاً "
قال اقترب ( مونهان ) من ( بلاند ) . وشتمه ، قائلاً بالصوت الرتيب نفسه :
- " أنا أحب المشاجرة ، وحتى أنني أحب التعرض للضرب " .
وقال الألماني :
- " لحظة! مجدداً لن أسمح . "
توقف ( مونهان ) الذي لا يبعد عنه قدماً . وقال الألماني :
- " لدى زوجة وابن في بايروث " .
كان يوجه كلامه إلى ، ثم كرر لي عنوان بيته مرتين .
قلت :
- " سأرسلها ، ماذا تريدني أن أقول لها ؟ " .
- " قل لها إنها لا تساوي شيئاً . سوف تعرف ما تقول لها " .
- " أجل سأقول لها إنك بخير " .
- " قل لها هذه الحياة لا تساوى شيئاً " .
أمسكه ( مونهان ) و( كومن ) من ذراعيه مجدداً . استدار ومضيا وهما يحملانه تقريباً . نظر ( كومن ) مرة إلى الخلف ، قائلاً :
- " في حفظ الله " .
قال الحَاكِم :
- " وأنت أيضا " .
* * * * *
ومضيا . رأينا ظليهما في العتمة عند مدخل زقاق منير ضيق ، و الضوء البارد الخافت يسقط على الجسر وعلى الجدران جاعلاً مدخل الزقاق أشبه ببوابة عبراها ، مسندين الألماني بينهما .
سأل ( بلاند ) :
- " ما الذي سيفعلونه به ؟ هل سيرمونه في زاوية ما و يقتلونه ؟ أم ثمة أسرة في المواخير الفرنسية أيضا ؟ " .
قلت باستهانة :
- " من يهمه هذا عموما ؟ " .
انبعث صوت الفرقة الموسيقية قوياً من الحانة . كل مرة كان جلدي يرتعش بفعل الكحول والبرد كنت أحسبني أسمع صوت عظامي تتهشم .
قال الحَاكِم :
- " منذ سبع سنوات وأنا في هذا الطقس ، لكنني ما زلت لا أحب البرد " .
جاء صوته عميقاً هادئاً ، كأن طوله ست أقدام ، كأنما حين صنعوه قالوا في ما بينهم ، وتابع :
- " سنعطيهم شيئاً لكي يحمل رسالته معه ؟ لماذا ؟ من سيسمع رسالته ؟ هو ؟ لذا سنعطيه شيئاً يسمعها هو نفسه به " .
سأله ( بلاند ) :
- " آه ، أنا أيضاً لا أحب أن أكون باروناً " .
- " خرجت إذن وتركت الأجانب الذين سيعاملون الناس مثل الثيران أو الأرانب يأتون ويحتلون الهند " .
- " بخروجي من هناك أبطلت في يوم واحد ما تطل فعله ألفي عام . أوليس هذا بالأمر المهم ؟ " .
رحنا نرتعش من شدة البرد الذي صار هو الفرقة ، النشيد الهادر الذي يدمدم بيدين باردتين مخاطباً العظام ، لا الأذنين .
قال ( بلاند ) بهدوء :
- " حسناً ، أحسب أن الحكومة الإنجليزية تفعل لتحرير شعبك أكثر مما تفعله أنت " .
لمس الحَاكِم ( بلاند ) على ص*ره ، لمسة خفيفة . وقال :
- " أنت حكيم يا صديقي . فلتسعد إنجلترا لأن جميع الإنجليز ليسو حكماء مثلك " .
- " إذن ستبقي منفياً طوال حياتك ؟ " .
أشار الحَاكِم بيده الغليظة القصيرة إلى القنطرة حيث اختفي ( مونهان ) و( كومن ) والألماني :
- " ألم تسمع ما قاله ؟ هذه الحياة هراء " .
قال ( بلاند ) :
- " يمكنك التفكير على هذا النحو ، لكن لحق الله ، أكره أن أفكر أن ما ادخرته خلال السنوات الثلاث الماضية لم يكن شيئاً " .
قال الحَاكِم برقة :
- " ادخرت رجلاً ميتاً ، سوف ترى " .
وقال ( بلاند ) :
- " ادخرت قدري ، لا أنت ولا أي شخص يعرف ما سيكون " .
غمغم الحَاكِم :
- " ما قدرك سوى أن تكون ميتاً ؟ من سوء الحظ أن جيلك هو المختار . من سوء الحظ أن أفضل أيام حياتك ستمضيها ماشياً الأرض كروح . لكن هذا قدرك " .
* * * * *