في زحام قبح الحياة اركض ..
اقفز.. تلاشى الحواجز ..تحاشى ثغراتها!
في الحياة لا تسعى للحصول على حب مثالي, حب افلاطوني , حب لا تشوبه ثغرات! الحياة غير منصفة ابدا؛ لا تعرف الشفقة على المحبين.. العاشقين.. الهائمين بمضمارها..
في الحياة اياك ان تحصل على الحب وبعدها تضيع عمرك.. ايامك.. شهورك وسنواتك في ترميم عيوبه ,في بتر اخطائه, في مسح قبح قد يلوثه! لتكن النهاية مثالي!
في الحياة لا تبحث عن المثالية فالحياة غير منصفة ولا تعرف الكمال!
الحياة اذا فقدتها فانت المنتصر , منتصر لفقد عالم شاع به ضجيج نفس تلبسها يأس في لحظة مستحيل للخلاص من هذا اليأس!
وهي لم تبحث سوى عن فتات حب وخيال عشق وسند كان يهدف لرجل, هي فقط أرادت الزواج ..
ارادت عائلة واطفال!
ارادت الحياة! ارادات أن تستيقظ في الصباح من أجل اعداد وجبة الافطار لاجل صغارها؛ ارادات أن تستيقظ من أجل زوجها التي سيتيقظ على هماساتها الناعمة، هي فقط .. ارادت حياة بسيطة سهلة ولكن القدر لم يمنحها ما تريد..
ولكن..
الحياة ارادت لها التيه والشتات, حولتها لجمود بلا وجهة, حولتها لأنثى تنشد الدمار والخسار!
وبيدها هي اختارت ان تأذي..
ت**ر..
تنحر! ارادت أن ترى الجميع في هذيان نفس لا تعرف الشفقة في مضمار الحياة؛ تلك الحياة التي قتلت بها مشاعر لا يمكن الخلاص منها، كم بيت هدمته وقصدت انهائه كم منزل كشفت خداع رجاله ودارات عليهم وانهت اللعبة المثالية الزائفة..
كم وكم والاجابة كثير..
بيدها هي خسرت كل شيء ولا لوم لأي انسان , لا لوم للظروف..
ولا لوم على الحياة ولو غمستها بفساد واختلال نظام فُطرت عليه! لا ذنب للخائن الذي تركها على مفترق الحياة بلا رحمه ولا ذنب لعشق ماتت اواصله داخلها بلا رجعة..
عند المقابر يقف وجموده يحتل قسماته كلها, يرمش بعينيه يخفي تأثراً اصابه ولو انكر , يده يدسها في جيبه يخفي رعشتها..
لا يتخيل إلى الان أنه منذ ساعات كانت هي بأحضانه.. تبتسم ..
تشرد..
تغيم بعينيها..
تطلب عناق..
تطلب كلمة الحب!
وفجأة , تلاشت واختفت .. ماتت!
رهبة الموت تؤثر فيه , الموت اصابه بارتجاج , اهتز قلبه, بل ارتعشت روحه!
يكاد ينهار , يرى جسدها مغلف بقماش أبيض, يقترب هو وشقيقه , يحملوه ويهبطون قليلاً برفقة رجل المقابر..
يستلمها ثم..
ثم يدفنها!
ماتت ميرال..
دفنت..
انتهت ميرال!
انتهى الأمر بدفنها, بعدها وقف الشيخ يردد الادعية والآيات القرآنية..
الادعية وآيات القران يحملون رهبة , يملكون تأُثير على الروح والجسد سوياً!
يردد هو خلف كل دعاء:
-امين..
يدعو الشيخ.. وهو يردد بصوت مبحوح يغالب انهياره:
-امين.. امين.. امين
ينتهى الأمر, ينصرف الشيخ فيلتفت لشقيقه بأعين تخبره أن ينصرف .. يتركه جانب قبرها معتزلاً لبعض الوقت..
انصرف غسان وبقى هو يدور بعينيه ونظراته الفاقدة لأي معنى قد يتصل بالحياة, يدور بعينيه والسماء من الأعلى تنير بشمس فاضت بنور في ليلة شتوية هامت بصقيع ..
صقيع لامس أوتاره كإنسان..
تلك الانسانية التي فقدها , تلك الانسانية التي تنحت جانبا كاتمة صوتها وانفاسها .. تركن لجانب مظلم ..
قاتم..
اسود..
جانب يحمل داخله بقاياه كرجل .. بقاياه كإنسان..
يحمل بقاياه برفقة بعض القهر والتخبط في قاع سقوط نفرت منه الحياة!
يقترب بخطوات بطيئة ويده تمتد بارتعاش تلمس قبرها ..
يتخيل ويتذكر انها بالأمس ليلاً كانت عيناها تشع بقبس حياة خافت..
يخرج صوته بحشرجة مكتومة داخل روحه المنشطرة لشيء لا يعرفه..
-كنت انانية اوي..
يتن*د ويده تمر ببطيء اعلى قبرها وعينيه ترتكز على اسمها المنقوش بحروف سوداء , يهبط جالسا على ركبته غير عابئاً بإتساخ ملابسه السوداء من الارض.. يكمل بنفس النبرة :
-ازاي تعملي كده, تموتي بين ايدي..
قلبه يضج بنبضات هادرة تحرك به شيء غادره, هو يشعر!
لقد غادره الشعور منذ ان غادر شهر زاد والآن..
-ربنا يسامحك ياميرال, ربنا يسامحك
قال كلماته الأخيرة واستقام من جلسته .. يسارع بخطواته الخروج والهروب من المكان الذي حمل رهبة وحقيقة ثابته سينتهي الجميع لها ألا وهي الموت!
بعد نصف ساعة كان غسان يقود السيارة بهدوء, يلقي بنظرات جانبية على شقيقه الشاحب..
يقف به دون أن يشعر الاخر به في طريق لا تسير به السيارات, طريق هادئ ..
يلتفت به وهو يتخلص من حزام الأمام يهتف بأمر:
-انهار.. صرخ.. انت مش مظبوط ..
يرتج جسده, يتشنج.. يحاول الفكاك والخلاص من رهبة تهاجم روحه, ضعف يشقق اسوار قلبه الجليدية..
يزمجر غسان وهو يض*ب ذراعه بعنف:
-فيك ايه, قلت اصرخ, انهار ولا عيط..
ينفجر مع اللكمة الصغيرة, وصراخ أخيه يصرخ.. يصرخ وهو يلتفت له ويده ترتفع تض*ب فخذه بطريقة رتيبة متتالية:
-ماتت, ماتت وهي بين ايدي, ماتت بين ايدي.. انت متخيل بين ايدي.. كانت قبلها بدقايق بتطلب الحب .. بتطلب اضمها.. كانت بتحضن بين ايدها مروان يا غسان
ي**ت , يلتقط أنفاسه الثائرة, ص*ره يعلوا ويهبط بعنف.. يض*ب ص*ره وقلبه.. يعاود الصراخ وكأنه لا يصدق تلك الحقيقةابدا؛ وكأن الحياة لا تحمل الرحمة بين طياتها ؛ اعترف داخله هو لا يكره ميرال و لم يريد موتها؛ لقد كانت بالأمس شعلة وأنثى نارية متقدة بطاقة اعتقد هو في لحظة ما انها لا تنضب ابدا هتف موليا نظره لأخيه غسان القلق من حالته :
-ماتت بين ايدي ياغسان.. كانت حاضنة مروان..
وعند تذكر المشهد وكأنه نساه أغمض عينيه فربما ما يقطن داخله الآن كابوس وعندما يفتح عيناه سيجد ميرال بطاقتها و بيدها مروان تدور به .. و لكنه عندما فتح عينيه لم يجد سوى الفراغ .. فلا ميرال موتها كان مزحة ولا مروان بين يدها يدور.. انتهت اللعبة هنا ..
عبراته متجمدة تهاجمه وتهدد بالحرية .. يهز جسده يصرخ :
-ماتت روحها طلعة في حضني.. كانت في حضني يا غسان .. وماتت
يده تخبط موضع قلبه يكمل بصياح نبرته على أولى خطوات السقوط:
-قلبي .. قلبي واجعني قلبي بيتحرك.. بقاله كتير ساكن يدفن وجهه بين راحة يده يكمل باختناق :
-موتها صدمني! فزعني
يتأثر الأخر بحالة اخيه الراكدة لأحضان انهيار حقيقي , يربت على ظهره بقسوة , يجبره على الاستقامة, ول**نه يهتف بسؤال خرج حاداً..
سؤاله كان يحمل توجس وحذر أن تكن الإجابة نعم:
-انت حبيتها..
والاجابة يبتهل داخله أن تكن لا والف نفي يرافقها، موت الاحبة فقد و سقوط للقاع..
ي**ت أمام نظرات اخيه التي تعددت فيها الملامح بين تعجب..
استيعاب..
حيرة..
صدمة..
يكرر غسان بخشونة وهو يلكزه في كتفه الأيسر:
-انت حبيت ميرال.. شايفك متأثر جاوبني حبيتها..
والاجابة باترة , الاجابة اطلقها هكذا بسهولة وهو يقول بنبرة صادقة وصلت لغسان سريعاً بكل صدق مسربة له شعور بالارتياح:
-لا محبتهاش, مفيش مشاعر في قلبي ليها ..
يمسح جبينه المتعرق رغم زخات المطر التي بدأت تهبط من السماء , تشقق الأرض بقطراتها:
-ميرال ام ابني ياغسان, كنت معاها الفترة الاخيرة.. كانت بتفاصيلها الاخيرة مالية الوقت.. كانت حواليا فاهمني..
ي**ت, يتابع المطر من زجاج نافذة السيارة قبل يهمس أخيراً بجملة واحدة:
-الموت له رهبة ما بالك هي ماتت بين ايديا !
كان صادق في كل كلمة, صادق في كونه لا يحب ولم يعد يألف دقات القلب للحب!
صادق كصدق قلبه الماثل كوتد بأرض تأبى الاستمرار بالتمسك به ولكنه يصر البقاء بها!
أما غسان كان يستعيد تركيزه وهو يعود لمقود سيارته , يقودها في **ت تام..
**ت يخيم اجواء السيارة تاركه لصوت المطر طرب اذنهم بتراتيله وهو يصطدم بهيكل السيارة من الخارج ..
ولكن داخل كل منهم كان ضجيج خاصة غسان الذي لا يعرف هل يشكر القدر على موت ميرال بين يد يامن فيستعيد هو بعض من انسانيته المفقودة منذ سنوات..
ام يحزن عليها لأنها ام تركت رضيعها بالنهاية!
ام يشمئز ويشمت لأنها سبب خراب حياة مريم!
وهنا أخطئ والتساؤلات تتصارع هل كانت ميرال هي السبب حقاً؟!
أم انه كالعادة يجب الصاق كل الذنوب والخطايا بالأنثى ولو اجرم الرجل ! يجب في كل قصة الصراخ بأن خلف كل كارثة فلنبحث عن المرأة فأين المراة الخاطئة بالذنب في تلك القصة ؛ هل كان يامن سيظل بوفائه لمريم اذا لم تظهر ميرال بحياته ام أن ذلك مجرد خيال.. يامن كان سيخون..
وصلوا أخيراً للمنزل حيث هناك مريم!
التفت لأخيه وهو يتذكر صدمتها حينما اتت ومعها ضيفتها تلبية لدعوة عشاء اصر هو عليه, زفر باختناق يطوقه بنيران مشتعلة حنقاً من الموقف.. ول**ن حاله وعقله يردد ليته ما اصر وليتها ما قدمت لهذا العشاء المشئوم!
فبعد ان اغلق مع يامن بملامح واجمة بعد ان استمع لنبرته الجامدة رغم ارتعاشه خفية تتغلغل بالحديث..
تسأله فريدة بقلق وهو تحمل تعجب تضج به ملامحها:
-فيه ايه يا غسان.. انت بخير.. في حاجة حصلت
واجابته كانت كنصل سيف سأم المعرفة التخمينية لإصابة الهدف, ونشد المعرفة اليقينية مباشرة, فان لم تعرف مريم اليوم ستعرف غدا!
وهو أكثر من يعرف ان الغد دائما مؤلم وموجع وكأنك تتلقى سهام مسمومة بغدر الأقربين فتكن روحك القربان لهذا الوجع الصارخ..
-ميرال ماتت..
وفريدة تنطق بعفوية غير مقصودة بالمرة, تشهق وتكبت شهقتها بكف يدها غير مدركة لوجود مريم بينهم والتي اتسعت عينيها بتركيز مع ذكر ميرال صديقتها و الخائنة:
-مرات يامن!
سبة محملة بالوقاحة خرجت منه داخل روحه لم يقدر أن يلفظها, ولكنها سمعت بوضوح وهو يهمس:
-غ*ية!
وحينها شهقت مرة أخرى وهي تلتفت لمريم الذي شحبت فجأة وكأن وجهها غادرته الحياة, رغم تلك الأنفة والشموخ الذي لم يهتز للحظة من الحدث الدائر.. رغم كل القوة التي **بتها ولكنها شهقت بوجع و كأن الأمر ومشهد الخيانة الذي نحرها كان بالأمس..
رغم ان روحه في تلك اللحظة كانت تسقط في ظلام دامس لا نور به! روحها تهيم بليل قاتم في ليلة شتوية برودتها قارصة..
همسها خرج بالنهاية رغماً عنها تخفي ارتعاشها بصعوبة:
-هو يامن كان رجع لميرال..
والاجابة هزت رأس و**ت قطعته هي برحيلها عن المكان حيث حديقة المنزل.. ودت بعدها الرحيل الان ان موجة المطر الشديدة والعاصفة الشتوية التي حدثت فجأة منعتها من الرحيل وهو لم يسمح لها بذلك حتى وان رفضت البقاء!
ما زالت مريم تعاني هناك **جينة لمشهد الماضي .. لم تخرج منه بعد..
زفر بعمق , يرمق اخيه بغضب ولوم, وبعدها هبط حيث مروان القابع مع فريدة ووالدته!
*********************************!
************************************
يتبع الفصل الثامن والثلاثون