بالأسفل كان يحمل طفله بين يده, يحتضنه وقلبه مع الصغير ينقلب حاله للنقيض!
يحتضنه غافلاً عن تلك التي هبطت من الأعلى, تلك التي كانت تقف على مسافة قصيرة , فقط بعض الخطوات المعدودة وتكن بجانبه..
عينيها تمر عليه بتدقيق .. عينيها تحدق وتتملى, نظراتها تلوذ بقهر , وقلبها ينبض بصخب, دقاتها تتسارع وعقلها يفور بانفعال ثائر عليها!
حالتها هنا بين ان تعي وان لا تعي لذلك الزحام المتزايد بجلبة!
جسدها يقشعر لذكريات جمعتها به , ذكريات لم تجد بها ما يشعرها بالفخر, فقط ذلها وسقوطها مرة تلوا الأخرى!
حتى مات بها شيء لا تعرفه سوى انه مات مع جنينها!
يدها تهبط تلمس بطنها بارتعاش وجسدها يرتجف من الداخل , تُزلزِل روحها وتشقق جرحها وفتحت الندوب بقيح فاسد مسموم!
صورته مع صغيره تُرسم داخل روحها بحد سكين انصهر بالنار , سكين يميل .. يخط خطوط الرسمة بحرفيه , عينها تنظر له وهو يحاوط صغيرة وقلبها يدق بالسكين ويقلد ما تراه العين على صفحات الروح!
تقترب دون ارادة, دون وعي , بلا ادراك وقدرتها على التوقف تختفي..
يلتفت لها غسان مغمض العين وقلبه يتألم لأجلها ولكنه لا يعلم لما يشعر انه ربما حان وقت المواجهة والبتر ..
حان وقت البداية!
اقترب من يامن الذي اخبره منذ قليل ضرورة ذهابه من المنزل لوجود مريم, يحمل منه مروان مشيراً بيده لفريدة ان تلحق به..
فيبقى هو وهي!
يتأملها دون حديث, يأثرها بعتمته وتقتله بنورها المخترق لغبشة فجر ملبدة بالغيوم في مداره!
ترى فيه حب وعشق وهوى تم دفنه بل تم نحره على يده التي حملت سيف محمي في نار الخيانة فنزف وتش*ه !
حزنها يخرج منها محمولا على اكتافها.. حزن ثقيل احنى رأسها للحظة!
حزن نفضته عنها سريعا عندما انقبض القلب , ترفع رأسها له تواجهه بأعين متألقة!
اللقاء هنا كان بعد عام!
يقطع هو ال**ت ويده تتمرد عليه تود لمسها , تود أن تتخلل خصلاتها..
يود لو يخرج بها غضبه وحزنه عله يرتاح من تلك الحالة التي لبسته منذ الأمس وميرال تلفظ روحها بين أحضانه!
-حمد الله على السلامة يامريم!
تصيغ السمع وتستنفر حواسها , تهزأ بفمها الذي التوى أمام عينيه هذا الفم الذي لم يرى منه سوى دعوات للحب!
ذلك الفم الذي لم يجد منه سوى أن تزمه تكبح شهقاتها من تسلطه !
الان هذا الفم يسخر ويلتوى تهكماً منه, تجيبه بجمود وهي تجلس على المقعد المقابل له , تضع قدم أعلى الأخرى ويدها ترتاح بأناقة أعلاها..
-البقاء لله ..
تحتل عينيه , هي في تلك اللحظة تصارعه .. تقاتله .. تتحداه ! فيتشقق ذلك الصقيع المكوم على جدار القلب.. تضيف بترقب والاذن تترصد الاجابة:
-اكيد زعلان على مراتك..
تنطق الجملة الاخيرة وهي تسحق كل شيء يجبرها على الثورة به , تكبح رغبتها بصفعها مرة..
اثنان.. ثلاثة وأكثر!
انا هو فبداخله صوت يزأر , صوت يصفعه , يضع الحقيقة أمامه عارية ..
-لقد تغيرت!
يعاود تأملها وهو يرتكز بنظراته داخل تلك العين المتألقة , هذا التألق الذي كان له من قبل ..
يهمس لحاله هي بهيئتها .. رقتها.. كل ما فيها كما هو، قارورة عسل كما كان يراها بالماضي!
ولكن...
هناك ما اختلف، تلك النظرات التي تابت عن أن تهيم به..
تلك الملامح التي ملت منه..
ذلك الكبرياء المرسوم بجسدها كله يخبره انها تحررت..
هذا القلب الذي يشعر بل هو اكيد..
هذا القلب كفر بالحب الكامن له!
يتشتت.. يتخبط يحيا بتيه ويدفن حيرته بقناع من صقيع بارد..
قناع ثلجي يجيد رسمه !
_اتغيرت..
يهز رأسه ونظراته تلفها..
تحتلها....
تقاومها..
ولكن لم تفلح كما الماضي أن تأثرها..
يعاود الحديث بذهول التقطته و لو اخفاه..
-انت مين, اتغيرت يامريم!
ضحكة رقيقة ساخرة تلاعبت به وهي تهمس بقسوة لم يراها بها من قبل..
قسوة كانت من صنع يده وحده هو من وضع بذرته وراعاها يوما بعد يوم حتى اسقطها من مخبأها للعلن فيرى زهرة سوداء تغذت على خيانته :
-انا تلميذة اتعلمت منك..
يدها ترتفع لخصلاتها تداعبها بينما رأسها يهتز محدثا أمواج على شاطئ وجهها تخفي ملامحها الشاحبة..
-اول مرة اشوف في عينك حزن..
يجيبها بهدوء وعينيه تتهرب منها
-مش حزن زي مانت فاكرة
فتردف سريعا بسخرية متجاهلة نفيه:
-وبتتهرب بعينك كمان , لا داحنا اتطورنا خالص..
تفرقع بأصبعها .. تقف أمامه .. بالقرب منه , تترصد انفعالاته هاتفة بتهكم:
-بركاتك ياميرال خليت يامن ابو العزم يهرب بعينيه..
تلتزم ال**ت فتميل برأسها .. تتصنع التفكير وهي تقول :
-دانت لما كنت بتيجيلي بعد خيانتك ليا معاها كنت بجح
تغمض عينيها هربا من وجع ض*ب شاطئها , تفتحها مرة اخرى وهي تهز رأسها :
-انت عمرك ماهربت من عيني يا يامن
يدافع عن نفسه , يخبرها بحقيقة لن تراها هي بينما هناك بقلبها طعنة ما زالت تنزف حيث أن الخنجر لم ينتزع بعد..
-الموت له رهبة..
تتلاشى المسافات بينهم وهي تقف قربه تكاد تختلط انفاسها به! تلك الانفاس التي كانت بالماضي تفقد الوعي منها , تفقد ثباتها, تفقد حالها!
تود هنا أن تمسك برقبته تزهق روحه, تستمع لأنفاسه المختنقة كما اختنقت هي, كما زهقت روحها هي..
ترفع يدها تخبط بعنف أعلى قلبه وكلماتها تخرج بغل حقيقي لا زيف فيه ولا تجميل:
-وابني لما مات ما كانش له رهبة..
يرتد بعد لحظة فقط لحظة يتذكر فيها موت جنينه الذي لم يسكن رحمها سوى اسابيع..
يبتعد عنها , يستمع لها بهدوء , يعطيها المساحة هذا ما يعرفه وما يعلمه ..
-ابني مأثرش فيك كده ليه.. مكنش موته له رهبة..
قالته ويدها تلك المرة تخبط ص*رها بعنف وهي تضيف بصراخ وانهيارها يمسك برقبتها يخنقها .. يزهقها:
-وانا بقع قدامك والدم بينزل مني مكنش له رهبة ..
تذهل عينيها وهي تستوعب كل شيء وكأن الذكريات هنا تتمثل كمسلسل تليفزيوني كئيب, حبها وغبائها..
خضوعها و**رتها..
تذللها للعشق وسقوطها اسفل مقصلة الخيانة!
تضيف بنبرة مختنقة وهي تقترب منه ببطيء يدها ترتعش وجسدها يرتجف بل كلها على الحافة يناور السقوط:
-بعدي عنك مكنش له رهبة..
يدها المرتعشة تتصلب وتثبت وهي ترتفع للأعلى بهدف الصفعة ..
يدها تهبط قرب وجنته وقرب جسده الذي كان متقبلاً اي فعل قد يص*ر منها ثم فجأة تتراجع.!
يدها تهبط للأسفل تلتصق بجسدها ..
رأسها يرتفع بأنفة , كبرياءها يعاود رسم هالته.. تعود لقوقعتها الباردة..
ان**ارها يعاود لتلك البقعة المظلمة داخلها !
ول**نها يهتف بترفع :
-حتى القلم ده انت متستهلوش يا يامن!
تبتعد عنه , توليه ظهرها, تضيف كلمة اخيرة قبل الرحيل:
-انت ولا حاجة..
واجابته كانت الاسرع , اجابة تجاهلتها وهي تكمل سيرها دون توقف:
-انت كدابة انا كل حاجة, مسيري ارجع لكي , ميرال سايبة ليك امانة عندي..
كلماته ترددت بصداها داخلها كالفراغ الذي تسمو الروح للتخلص منه..
فتترك الصورة رجل قائم في سطوته بالجمود ونكران العشق..
رجل تشبع بالتهكم من النهايات الوردية..
وانثى لم تعد تهوى النهايات الوردية بل باتت مثله !
هي انثى تشكلت كجوهرة
لينه ..
نفيسة ..
شفافة ..
وبين يده باتت.. جوهرة صلبة..
باهتة..
معتمة..!
يتبع