8

2093 Words
أهي الإسبانية ، الروسية ، البرتغالية؟ تقول ، تأتي ، تظهر ، تتذكر . رأيت بناية الغرباء التي يقطنون فيها ، التحت أرضية ، وفي كل مرة ، أسير أمامها تتسارع خفقات قلبي بسبب صوتها ، ضجيجها ، وجه امرأة ألمحه مع زفراتها واستماعي إلى بكاء طفل وليد . لا يحدث هذا مع أطفال الأثرياء ، غير أنه بكاء خفيض بطئ وممتد . ذات ليلة ، تجولت في هذا الشارع ، ربما خطوت مسرعا على غير العادة دون تفكير في العودة ، كانتا حاضرتين ، اسفل البناية البيضاء ، في الممر الضيق القصير المفضي إلى المدخل .  كانتا حاضرتين: العجوز المرتدية السواد ذات نظرات الساحرات ، جالسة على مقعد من القش ، وأمامها تقف الفتاة ضئيلة في ملابسها السوداء ساكنة كأنها تنتظر أحدا ما شيئا ما ، وجهها شاحب ، مختفي خلف شعرها الأثيث ، وعيناها ساكنتان لامعتان . ***  أخطو مسرعا نحوهما ، تستدير ناحيتي في هدوء . تتطلع إلى ، اليوم نظراتها تجتاحني ، تحررني وتبدلني ، لكنني لا أرغب في التحدث ، في البداية ، كانت نظراتها حارقة ، مضطربة ، وسط وجهها الشاحب ، نظراتها بائسة متسائلة ، هذا النداء ، هذه العذرية ، لم يغيبا عنها رغم مرور الأيام . كانت نظراتها تلاحقني ، نظرات حساسة في الضوء الذي يغمر عتمة الليل ، أعتقد بوقوفي ثابتا أمام هذه النظرات ، هنا ، في هذا المسكن ، فأقول في نفسي : تكمن المأساة في كون هذه الغرف تعيش بلا إنارة ، إنهم يعيشون في سجن ، يعيشون كالعبيد . كنت واقفا في منتصف الممر ، والفتاة ساكنة لا تنتبه إلى الآخرين ، من يستحثون خطواتهم على الطوار . أنا وحدي من تتطلع إليه كأنني من تريده ( أنا من تنتظره ) . أنا وحدي من اختارته ، كم مضيت من وقت واقفا على الطوار متعلقا بنظراتها المتكدرة الغامضة ، قلبي يخفق بشدة ، ولا اعرف شيئا آخر لا أعرف ، واليوم يثيرني التساؤل عن أخطائي بقدومي إلى هذا المكان ، لكنني اذكر أنظارهما تتنقلان من طاولة إلى أخرى ، لا احتمل ذلك ، سوف اصرخ وأدق على طاولتي: "هنا! انظرا ناحيتي! أنا هنا ، هنا!" أدارت الفتاة رأسها نحوي ، وقد شعرت بنظراتي القاسية المكفهرة ، وتخيلت صرختي الصامتة . ***  التفتت ناحيتي بجسدها ، كانت جميلة ،رائعة تحت أضواء السقف ، تخيلتها واقفة على خشبة مسرح تحت الأضواءالقوية ، وجهها أخاذ ، منحوت بدقة مع شيء من التوقد والحيوية في عينيها المتعبتين ، في رسمة شفتيها ونضارة وجنتيها .  وضعت قبضة يدها اليسرى في يدي اليمنى وطرحتهما في غيظ ،وعلى الرغم من بعد المسافة تماثل إيقاع تنفسنا . إذ ذاك تلاشى خوفي ولم أحس بأي غضب ، خوف أو نفاد صبر ، بل شعرت بال ***ة كلما تطلعت إلى تلك المرأة المجهولة . وغاصت نظراتها في دواخلي – لم أعش ما يحدث حاليا ، من قبل ، لم اشعر أبدا بهذا الضياع ، بالنسبة لي ، كان حضورها يملأ جنبات الصالة ، وخارجها أيضا ، المدينة الغريبة في الليل ، كل شيء ، والصور ال**برة ترحل فيهم وتنسل هاربة كي تملأ المدينة والحياة ، لذلك وقفت ساكنا ، دون حركة ، ربحت قليلا نتيجة حظ غامض غ*ي .  كم مضى من وقت علي هنا؟  لا اعرف ، لا أستطيع القول ، وطوال ساعات وأيام وقفت في صالة الاحتفالات حيث يتحرك الناس كالأشباح فيما العجوز المجنونة تقفز بخطواتها المهتزة من طاولة إلى أخرى وهي تص*ر أنينا خافتا ، وتهمهم بدعوات أو تلاوات . وطوال ساعات وأيام كانت نظرة الفتاة الغجرية الحزينة تستعر كالشمعة فكنت أشعر بغربة الرغبات ، الحرارة والأشياء عني ، كل ما رأيته خلال الثمانية عشر عاما الأخيرة ، اكد لي مدى غربتي عن المكان وأنساني هذه الأعوام كالحلم الضعيف . ***  لم أحفظ شيئا أو ابحث عن أيإنسان في يوم ما من حياتي مثلما حدث معي اليوم - ثمانية عشر عاما من الحب المتقلب ، ارتياد المطاعم ، حضور الحفلات التافهة ، الرحلات الجماعية حيث تنبثق الإباحية والمساخر .  ثمانية عشر عاما أبعدتني عنها ، عن نظراتها ، تلك الشعلة المن**رة اللامعة في عينيها ، وكذلك عن جمالها الأبدي الحقيقي .لعلني كنت الآن متمددًا في الشمس أمص غليوني وأربت على مؤخرة الجيل الثالث ، قدوة تُحتذى وموضع الاحترام ، أتساءل في نفسي عن أصناف العشاء الليلة ، بدلاً من أن أمضي أذرع نفس الطرق القديمة سواء كان الجو صحوًا أو متعكر المزاج ، فلم أكن قط ممن يقتحمون أرضًا جديدة لا ، لست آسف على شيء ، كل ما آسف عليه أنني قد ولدت ، فالموت شيء طويل متعب جدًا مما اكتشفت ذلك دائمًا .  جميعهم يعزفون سيمفونية الموت . ولكن دعني الآن أكمل من حيث انقطعت ، الجواد الأبيض ثمَّ الغضبة ، لا علاقة بينهما فيما أفترض . تجلطت بقع الدم شارات حمراء على الأكتاف . ولكن لماذا نواصل ذلك كله؟ لا أدري ، لابد أن أنتهي منه يومًا ما ، فلم لا انتهي منه الآن؟ أشعر بفراغ الكون ، ولكن تلك أفكاري ، لا يهم ، يا لعاري ، أنا الآن عجوز وواهن القوى ، أتمتم ، في الألم والوهن ، لماذا؟ وأتوقف ، وتنبثق الأفكار القديمة فيّ وتسيل في صوتي وترعشني ، الأفكار القديمة التي ولدت معي ونمت معي وأُبقيت مكبوتة ، هذه فكرة أخرى .  لا ، فلنعد إلى ذلك اليوم ، أي يوم بعيد ، ومن الأرض الباهتة المسلَّم بها إلى الأشياء والسماء ، ترتفع العين وتعود مرة أخرى ، ترتفع مرة أخرى وتعود مرة أخرى مرة أخرى ، والقدمان ذاهبتان إلى غير وجهة وإنما إلى وجهة البيت في مكان ما ، في الصباح خارجًا من البيت وفي المساء راجعًا إلى البيت مرة أخرى ، وجرس صوتي طوال اليوم يتمتم بنفس الأشياء القديمة التي لا أصغي إليها بل ليس صوتي كان ذلك في نهاية اليوم ، كقرد صغير جالس على كتفي بذ*له الأشعر يؤنسني . نفس السحنة . أقترب منه ، ثمة شعور يدفعني أن أرتمي في أحضانه ، كل ذلك الكلام ، خفيضًا ومبحوحًا ، لا غرو كان حلقي ملتهبًا . ****  وربما كان من الخير أذكر الآن أنني لم أتحدث قط إلى أحد ، وأظن أن أبي كان آخر من تحدثت إليه ، وكانت أمي كذلك . لم نتحدث قط ، لم تجب على سؤالي قط منذ مات أبي . سألتها عن النقود .  لا أستطيع أن أعود إلى ذلك الآن ، لابد أن تلك كانت آخر كلماتي لها . كانت تصرخ بي أحيانًا ، أو تتوسل ، وإن لم يكن ذلك طويلاً قط ، بضع صرخات فقط ، ثمَّ إذا رفعت بصري وجدت الشفتين العجوزتين الرقيقتين البائستين مضغوطتين والجسم المشيح عني ومجر ركني العينين عليّ ، ولكنذلك كان نادرًا . في بعض الأحيان ، بالليل ، كنت أسمعها تتحدث إلى نفسها فيما أفترض ، أو تصلي بصوت مرتفع ، أو تلقي ترانيم .  الغائبة البعيدة عن عالمهم ، يا للمسكينة! وإذن بعد الجواد والغضبة ، لا أدري ، مضيت إلى الأمام ، ثمَّ الاستدارة البطيئة ، عائدًا ، منحرفًا أكثر فأكثر إلى أحد الجانبين أو إلى الآخر ، مواجهًا البيت لاأزال ، ثمَّ البيت . آه أبي وأمي ، ، فكرت أنهما ربما في الجنة ، ما كان أطيبهما . في هذه المرة تتحدث دون ابتسامة . ألاحظ أنه بدون الشمس قد توترت ملامحها وارتعبت بحدة ، قامتها تبدو خرقاء غير رشيقة . هي تعرف بداهة ، إلى أي حد تبدلت ، لمستني بيدها الرقيقة ، وراحت تتوارى بعدما حاولت محاولتها الأخيرة كي تبتسم .  أدرك: لقد آن الأوان . نحلق سابحين في اتجاه البر ، وقد خيمت على الأرض ظلال زرقاء ، والأصوات التي فقدت موسيقاها تنسكب في صوت صغير واحد أخرس . ***  نهبط على نفس المرج . أدفع بقدمي ، أخطو خطواتي الأولى التي تولد في جسدت كله ألما عظيما .فلأذهب إلى جهنم ، ذلك كل ما أطلب ، وأن أمضي ألعنهما هناك ، وهما ينظران تحت إليَّ ويمعنا في النظر ، لعل ذلك ينزع شيئًا من نعيمهما .  نعم إنني أؤمن بكل لغوهما عن الحياة الآتية ، ذلك يبهجني ، وشقاء مثل شقائي ، ما من شيء ليقضي على ذلك . كنت مجنونًا بالطبع ، ولاأزال ، ولكن غير ضار ، اعتبروني غير ضار ، ذلك شيء لطيف . لم أكن بالطبع مجنونًا حقيقة ، بل غريبًا ، غريبًا إلى حد ما ، ومع كل سنة تمضي تزداد غرابتي قليلًا ، ولا يمكن أن توجد مخلوقات أغرب مني ، إلا القليل ، في الوقت الحاضر . أبي: هل قتلته أيضًا كما قتلت أمي ، لعلني فعلت ذلك على نحو ما ، لكنني لا أستطيع أن أدخل في تفاصيل ذلك الآن ، أنا أكثر شيخوخة ووهنًا من ذلك بكثير . الأسئلة تطفو إذ أمضي ، وتتركني وقد اضطربت عليَّ الأمور جدًا ، في حالتي التي أنا عليها من الانهيار . إنما فجأة هناك ، لا ، إنها تطفو من عمق قديم ، وتحوم وتتلبث قبل أن تموت .بدت لي هذه الليلة مرة أخرى تساءلت: مرة أخرى؟ هل رأيتها من قبل ، في زمن آخر أو في نفس المكان؟ هل تقابلنا من قبل؟ فلماذا اجتاحني هذا الشعور بخفقات القلب وقت ولجت هذه الصالة الواسعة؟ كانت العجوز ذات النظرات القاسية تصحبها ، وكانتا ترتديان السواد كالغجر ، اجتازت الفتاة جانبا من المشرب في ثقة . وجهها جميل وضاء ، واضح بفعل الأضواء المنع**ة عليه والمثبتة في السقف . *** لماذا أحسست وجودها قبل رؤيتها ، عفوا قبل رؤيتهما ، لما دفعت الباب الزجاجي ، شعرت بأنهما قادمتان من جوف الليالي الغامضة إلى هذه الليلة الرهيبة ، كأنهما لاجئتان إلى هذه الصالة الواسعة التي تشبه القفص؟ ذاك ما أحسسته متغلغلا في دواخلي كالنظرة الغريبة ، كنسمة هواء على جلدي ، حقا ، إنه خطر محدق بي .  أسئلة ما كانت لو أنني في تمام سلامة عقلي لتعيش لحظة واحدة ، لا ، بل كانت لتتفتت ذرات حتى قبل أن تتكون ، تتفتت ذرات . مثنى مثنى غالبًا ما كانت تأتي ، واحدة مباشرة على أثر الأخرى .  فكيف أمضي يومًا آخر؟ ثمَّ كيف تسنى أن مضيت إلى الأمام يومًا واحدًا آخر؟ أو هل قتلت أبي؟ ثمَّ هل قتلت قط أي أحد؟ تترسب ظلال الملح الهشة فوق الطلل المغبش يفرد ظله الممدود على مثل هذا النحو ، إلى العام من الخاص كما يمكن لك القول فيما أفترض ، سؤال وجواب أيضًا على نحو ما محير جدًا ، أجاهدها ما وسعني الجهد ، مسرعًا خطوي إذ تأتي ، أطوح رأسي من جانب إلى جانب وإلى أعلى وأسفل ، ذات اليمين وذات اليسار ،وأحدق في مضض العذاب إلى هذا وذاك ، أزيد من تمتمتي إلى صرخة ، أقذف وأسب الدنيا والزمان الذي جعلني أرى هذه الأيام ، هذه كلها تساعد .  ولكن ما كان ينبغي أن تكون ضرورية . إن شيئًا ما هنا لا يستقيم على وجهه ، لو أنها كانت النهاية لما اهتممت كثيرًا ، ولكن ما أكثر ما قلت ، في حياتي ، أمام شيء جديد رهيب ، هذه هي النهاية ، ولم تكن هي النهاية .*** كنت على يقين بأن السيدة ( أديليد كورتيس ) هذه, التي تسكن في ألباني, هي حماة الفنَّان, وأنَّ العنوان بكامله لم ي**عني, إذ اعتبرت أنه كتب خصيصاً لتضليلي, وهكذا أيقنت بأن الصندوق وما فيه لن يصل إلى مكان أبعد من ستوديو صديقي, في شارع تشامبرز نيويورك . *** خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى, كان الطقس بهيجا, والريح ناعمة ، خاصة بعد أن اتخذنا طريق الشمال حالما ابتعدنا عن الشاطئ . كان الركاب مرحين يميلون إلى الاختلاط والتظرُّف .  أقول هذا مستثنياً ( كايبيريا ) وشقيقتيه الذين كانوا يتصرّفون بجفاء غريب, بل كان سلوكهم نحو الركاب أقرب إلى قلة الذوق . لم أهتم كثيراً بتصرفات ( كايبيريا ), فقد كان مكتئباً أكثر من عادته؛ في الواقع كان مقهورا ، لكنني كنت مع ذلك على استعداد لتقبّل مثل هذا الشذوذ .  أما الشقيقتان فلم أجد لتصرّفهما أي معنى . لقد اعتزلتا في غرفتيهما معظم الوقت, ورفضتا أي اختلاط مع أي مسافر آخر رغم إلحاحي المتكرر عليهما بفك الحصار عن عزلتهما .  بينما كانت السيدة ( كايبيريا ) أكثر انسجاماً من الثلاثة الآخرين, أعني أكثر ثرثرة, وكثرة الكلام في عرض البحر ليست بالأمر المطلوب كثيراً .  من ثم وطدت علاقتها مع أكثر السيدات المسافرات على متن السفينة, وكانت دهشتي بالغة حين شعرت أنها لا تميل إلى التحدث مع الرجال . لقد أسعدنا وجودها جميعاً, لا أدري كيف أوضح معنى ذلك . الحقيقة هي أن السيدة ( كايبيريا ) كانت أكثر الأحيان مص*ر ضحك منها وليس لها .  لم يكن الرجال يشيرون إليها كثيراً, لكن النساء أخذن بعد فترة وجيزة يصنفها بأنها مخلوقة طيبة القلب, لا يثير مظهرها أي فضول, ساذجة وتلقائية . أما التساؤل الذي كان يتردد على الشفاه فهو كيف وقع ( كايبيريا ) في هذا الفخ . وكانت ( الثروة ) هي الجواب القريب . لكنني كنت قد عرفت من ( كايبيريا ) أنها لا تمتلك بنساً واحداً, ولا تنتظر أن ترث أي دولار من أي مص*ر . لقد تزوج منها كما على حد تعبيره : "للحب, وللحب وحده, وأن عروسي تستحق مني ما هو أكثر بكثير من الحب ." وعندما تأملت في أقوال صديقي هذه وجدتني حائراً إلى أبعد مدى . هل فقد صديقي صوابه؟ أي شيء كان يمكن أن يرد إليَّ ذهني؟ ( كايبيريا ) الرجل المثقف الشغوف, الفنان المرهف الحس, النافذ البصيرة إلى كل كبيرة وصغيرة, الذي يُقدّر الجمال ويُقدِّسه!
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD