9

1862 Words
لم يكن لديَّ أدنى شك في أن السيدة كانت من جهتها مفتونة به ، وبشكل خاص في غيابه, عندما كانت لا تمانع أن تضع نفسها في مواضع التهكُّم بسبب عادتها المستمرة في ترديد ما يقوله زوجها .  كانت كلمة ( زوجي ) لا تفارق شفتيها- أو على حد تعبيرها الشيّق الرشيق ( زوجي دائماً على طرف لساني ) . إلا أنه مع الوقت صار الجميع يلاحظون أن زوجها يتجنّبها بشكل لافت, لقد كان ينعزل منفردا بنفسه في غرفته أغلب الوقت, ويغلق الباب على روحه, تاركاً لزوجته مطلق الحرية الكاملة في أن تتصرف كما تهوى في البهو العام . ماذا بعد كل الذي رأيته وسمعته؟ خلاصة ما وصلت إليه هي أن الفنان, بسبب إحدى زلات هوى النفس ونزوة المصادفات, وربما بسبب هياج عنيف مفاجيء, قد ربط بينه وبين مخلوقة هي في الدرك الأسفل من الثقافة بالنسبة له, بالطبع كانت النتيجة الحتمية لهذا الارتباط هي مقته القوي لها وفي لمح البصر .  هذه المسألة أثارت الهم والشفقة من أعمق أعماق قلبي, لكن, ولهذا السبب تحديده, لم أتمكن أن أسامحه أو أغفر له قصة كتمانه موضوع ( العشاء الأخير ) . . وهذا ما دفعني ، في نهاية الأمر ، إلى أن أصمم على الانتقام! *** في ذلك اليوم صعد المذكور إلى سطح السفينة, فشبكت ذراعي في ذراعه كعادتنا ورحنا نتمشى بلا هدف جيئة وذهاباً . كان مُغرقا في الكآبة ، غشاوة ليس لها قرار؛ الأمر الذي كنت أعلله بسهولة بعد أن عرفت حقيقة أسبابه الخفية . كان شحيح الكلام, والجمل النادرة التي يتفوه بها كانت تخرج من بين شفتيه بجهد جهيد وألم . حاولت أن أتندّر بنكتة سخيفة بين الحين والآخر, فما كانت فكاهاتي لتلقى منه سوى ابتسامة ماسخة صفراء . يا للرجل التعيس! حين فكرت في زوجته التمست له الأعذار, حتى ولو لم ينبس ببنت شفاه أو يرتسم على وجهه شبح ابتسامة . في النهاية قررت أن أقتحم صلب الموضوع مباشرة . رأيت من الأسلم أن أبدأ بإشارات لا يمكنه تجاهلها إلى الصندوق المستطيل؛ لأجعله يدرك ولو بشكل مستتر بأنني لم أكن ضحية سهلة لدعابته . العبارة الأولى التي بدأت فيها مناورتي كانت تتعلق ببطارية موضوعة في صندوق, ثم ذكرت شيئاً ما بخصوص ( الشكل الغريب للصندوق ذاته ) وأتبعت قولي بلمسة خفيفة من أصابعي لخاصرته, وغمزته كما لو أنني على علم بسر خطير . الطريقة التي تقبّل بها ( بولس ) هذا المزاح السخيف أقنعتني في الحال بأن الرجل مجنون ولا ريب . في البدء حدّق فيّ كمن يستحيل عليه فهم ما أعني, لكن حين بدأت كلماتي تتسرب داخل تلافيف نافوخه, أخذت عيناه تجحظان تدريجاً كأنهما تحاولان أن تقفزا من محجريهما, ثم احتقن وجهه فأصبح لونه شديد الاحمرار ، ثم شديد الشحوب فجأة! أخيراً, ودون أي مقدمات وكأنه سُرَّ كثيراً بما قلت أيما سرور, انفجر بقهقهة مدوية استغرقت, لفرط دهشتي, حوالي عشر دقائق أو أكثر, انكبّ بعدها على وجهه فوق ظهر السفينة . وعندما أسرعت لأرفعه بدا لي جثة هامدة! *** طلبت الإسعاف, وبعد عمليات شاقة استطعنا أن نعيده إلى رشده . حين أفاق نطق لبضع دقائق كلاما فارغا لا معنى له ولا محل له من الإعراب . وفي نهاية هذا الهراء ، حملناه ووضعناه في فراشه . في صباح اليوم التالي انتصب واقفا وكأنه استعاد جميع قواه, عافيته البدنية على الأقل؛ وبالطبع فضلا عما يمكن أن نقوله عن سلامته العقلية . ظللت أتحاشاه منذ تلك اللحظة وحتى نهاية الرحلة نزولاً عند رغبة القبطان الذي كان, فيما يبدو, متفقاً معي تماماً فيما يتعلق بلطشة دماغه, لكنه نبهني كي لا أذكر شيئاً عن هذا الأمر لأي مخلوق . *** بعد هذه النوبة حدثت أمور كثيرة أخرى أدّت إلى جعل فضولي الذي كان يتملكني في كل حال يتعاظم أكثر وأكثر . من هذه الأمور ما يلي: ذات مساء كنت موتور الخلق حاد الطبع شديد القلق ، شربت شاياً أخضر قوياً قدَّمه لي القبطان بكميات مهولة ليضبط أعصابي, فلم أتمكن من النوم في أثناء الليل؛ بل لم يغمض لي جفن خلال ليلتين متتاليتين من تأثيره المُنبِّه . كانت غرفتي متصلة بالقاعة الخارجية, أو غرفة السفرة, ككل الغرف الأخرى التي يحتلها الضيوف العُزَّاب . وكانت حجرات ( بولس ) الثلاث في مكان متصل بالقاعة من الجهة الأخرى, يفصل بينها وبين غرفة الطعام باب صغير لا يُغلق أبداً حتى في أثناء الليل . عصفت الريح بعنف, بصخب هبَّت على السفينة, ما جعلها تميل بكامل بنيانها مع العاصفة . وفي مثل هذه الحالة, حين يصير جانب السفينة الأيمن مائلاً أكثر من المعتاد, كان الباب الذي يفصل الغرف ينفتح ويبقى كذلك دون أن يُكلّف أحدٌ نفسه عبء النهوض من نومه ليغلقه .  بالنسبة لي؛ كان وضع فراشي يتيح لي أن أرى الجهة الثانية بوضوح, إذ كان باب غرفتي مفتوحاً؛ وكنت أتركه مفتوحاً بسبب حرارة الجو المكتوم, فلما فُتح الباب المذكور استطعت أن أرى جيداً الجانب الذي توجد فيه غرف السيد ( بولس ) وأهله . النتيجة أنني إثناء ليلتين -غير متعاقبتين- وبينما كنت مستيقظاً في فراشي, رأيت السيدة ( بولس ) بشكل جليّ تتسلل بحذر من غرفة زوجها حوالي الساعة الحادية عشرة, تخطو ببطء على رؤوس أصابعها, ثم تدخل الحجرة الإضافية الخالية حيث تبقى حتى طلوع الفجر, حين يأتي زوجها ويوقظها فتعود معه إلى حجرته . هذا الأمر الذي ألقى في قلبي اليقين بأنهما منفصلان ولذا فهما يستعملان غرفتين منفصلتين كذلك . وليس أبلغ من هذا الدليل على التنائي . هكذا اكتشفت أخيراً لغز الغرفة الإضافية! ***   على أنَّه خلال الليلتين المذكورتين ، ثمة شيء آخر أثار اهتمامي إلى أبعد حد, إذ أنه فور خروج السيدة ( بولس ) من الغرفة إلى الغرفة الإضافية تناهت إلى سمعي أصوات مبهمة غريبة حذرة غامضة مكبوتة صادرة من غرفة السيد ( بولس ) . وبعد أن أنصتّ طويلاً إلى هذه الأصوات العجيبة, وأنا غارق في التفكير, نجحت أخيراً, ولو بشكل غير كامل, في معرفة طبيعتها . كانت ناجمة عن محاولات الفنان فتح الصندوق المستطيل بوساطة إزميل ومطرقة صغيرة ملفوفة ، كما يبدو ، بشيء ناعم كالقطن أو الصوف كي يخفت صوتها عندما يطرق . خطر لي أنني بهذه الطريقة سوف أتمكن من تحديد اللحظة التي يصل فيها إلى خلع غطاء الصندوق, وأيضاً متى سيكون قد أزاحه بالكامل, ومتى سيضعه على الفراش السفلي في غرفته . ***  هذه النقطة الأخيرة توصَّلت إليها من خلال الصوت الذي يص*ر عندما يصطدم غطاء الصندوق بحافة الفراش الخشبية, حين يحاول الفنان أن يضعه عليه بكل هدوء, إذ لم يكن له مكان على أرض الغرفة . بعد ذلك سيطرت فترة هدوء شامل ولم أعد أسمع شيئاً حتى مطلع الفجر, ما عدا . .  ماعدا صوت نحيب مكبوت تناهى إلى مسامعي بصعوبة, تمتمة خافتة إلى درجة أنها تكاد لا تُسمع إلا بجهد مضن, هذا إن لم تكن الأصوات الأخيرة من وحي خيالي . أقول إنها أصوات تشبه النحيب أو التأوهات الحبيسة في الصدور, لكن, بالطبع, لم تكن شيئاً من هذا القبيل .  أفضّل أن أعتبرها أصواتاً تخرج من أذنيّ ولا أصل لها من الواقع . كان من عادة السيد ( بولس ) أن يترك العنان لميوله مهما جنحت, خصوصاً ما تعلّق منها بالحماسة ا***ذة لمختلف ضروب الفن, وهكذا فهو يفتح الصندوق كي يشبع عينيه من التحفة الفنية النادرة التي في داخله؛ على أية حال لم يكن في هذا الصندوق ما يجعله ينتحب .  لذا أكرر بأن تلك الأصوات كانت من هلوسات خيالي الخاص الذي هيّجه شاي القبطان ( مايكل ) جازاه الله . قبل الفجر بقليل, في تينك الليلتين المذكورتين, مرة أخرى ، سمعت السيد ( بولس ) بوضوح يعالج الغطاء ويعيده إلى الصندوق ويُركَّب المسامير إلى أمكنتها بمفك البراغي .  وكان بعد أن ينتهي من كل هذا يندفع خارجاً بكامل ثيابه ويدعو زوجته من غرفتها ، كأن شيئًا لم يكن . مضت سبعة أيام ونحن في البحر . وكنا قد مررنا بمضيق ( هاتيراس ) *** عندما نزلت بنا ضربة سوء جو عنيفة من الجنوب الغربي . وكنا إلى حدِّ ما مستعدين لها, إذ كان الطقس يسوء تدريجاً يوماً بعد يوم .  أبحرنا في خضم هذا الجو المُعادي بأمان وحذر لمدة يومين كاملين, برهنت السفينة خلالهما على أنها بناء بحري من النوع الممتاز إذ لم يدخلها من الماء قيد أنملة .  وفي الساعة الأخيرة انقلب الأمان المؤقت إلى إعصار مزّق الأشرعة وتركنا نتخبط بين الأمواج التي غمرت مياهها السفينة والسكينة . أدى هذا إلى فقدان ثلاثة رجال كانوا في مطبخ السطح, وضياع كل المتاريس التي في الجهة اليسرى . وما كدنا نسترجع وعينا, بعد أن تمزّق الصاري الأمامي إلى هلاهيل, حتى ساد البحر سكون يتخلل العاصفة لفترات قصيرة غير مؤثرة, فأمضينا بعض الوقت في شبه أمان حتى أخذت السفينة بعد ذلك تطفو على الماء بثبات واتزان . غير أن الإعصار لم يهدأ أو يفتر, وما كنا لنترقّب هدوءه بكثير من الأمل . لم تكن أحزمة الأشرعة محكمة الربط, فضلاً عن أنها كانت قد تقلقلت بشدة . وفي اليوم الثالث من العاصفة, حوالي الساعة الخامسة عصرا, انقلع, إثر هبة ريح عنيفة مفاجئة, صاري المؤخرة وسقط على المتن .  حاولنا خلال ساعة أو أكثر أن نتخلص منه بلا فائدة بسبب تأرجح السفينة, وقبل أن ننجح في الخلاص منه, أسرع النجّار يعلن لنا أن الماء في السفينة أصبح على علو أربعة أقدام,  وقد ازداد موقفنا حرجا حين وجدنا أن المضخات قد تعطلت ولم تعد صالحة للعمل فبلغ منا اليأس مبلغه وساد السفينة جوّ من الغرابة والاضطراب, لكننا رحنا نبذل غاية ما في وسعنا لتخفيف الأحمال, فأخذنا نلقي في البحر كل ما تصل إليه أيدينا, حتى أننا اضطررنا إلى قطع الصاريين الباقيين . أتممنا هذه المهمة الثقية لكننا لم نتمكن من القيام بأي عمل لإصلاح المضخات, وأخذ تدفق الماء يزداد عنفًا ومنسوبه يزداد ارتفاعاً .   ومع ذلك فلا يمكن أن تكون النهاية بعيدة جدًا الآن ، سوف أسقط إذا أنا ماض بين الصخور ، وقبل الصباح أكون قد ذهبت .أشعر بأنني أركض إلى جوارها ، أركض أسرع وأخف ، تفلت يدي ، تبقى في مكان ما ورائي ، لكنني أسمع صوتها الذي يطالبني بالركض أسرع . أندفع في قفزات واسعة ، يبدو لي أنني أواصل الركض حتى ألمح في الأسفل السقف المعدني ذا الانحدارات الأربعة ، الذي يبدو سابحا هو الآخر ، للمنزل الذي يعيش فيه رفيقي . أصيح بشيء ما ، تارة له وتارة لكل من تبقى على الأرض ، وأسرع في الركض . .  قدماي تطولان ، يداي تمتدان إلى الأمام ، يلتقطني ضوء الشمس في عاصفة قوية ، يحملني إلى أعلى ، أجد حورية الأحلام بجواري ، تحاول بابتسامة أن تهدئ من قلقي وتوتري ، لكن قواها لا تسعفها حتى على ذلك ، يغمرني إحساس عارم بالتفاؤل يكاد قلبي يتوقف له ، أتحرك مضطربا في عشوائية ، أحلق سابحا باندفاعات شديدة وقد أصبح الطيران لا يسبر غوري .  تتملكني الرغبة لعمل شيء ما ضخم ، نهائي وقاطع ، أود العودة نحو الشمس التي استشعر منها جذبا لذيذا ، أندفع الهيا لا أتوقف ، لكن الفتاة تشير إلى بيدها في حذر: إلى أين أتوجه . نحلق سابحان فوق المدن ، نصنع دائرة وأخرى فوق البيوت ، نذهب بعيدا عن الضفاف في بايكال . أهدأ تدريجيا ، يصير إحساسي العارم أقل فأقل ، يصبح بعد ثورته وجيشانه عاقلا متنكرا . الآن أتأمل في إمعان ، أسمع ، أتدبر فيما يجري بالحياة من حولي . نصل إلى منطقة البخار عند ذلك الحد الفاصل بين الهواء اليومي الساخن ، وبين ذلك الهواء الرطب الذي يمكن الاستلقاء عليه في ا*****ة وهدوء دونما حركة تذكر . يرتفع متموجا ، نتهادى عليه كما لو على موجة متعبة أتت من بعيد ووصلت إلىالشاطئ ، ثم راحت تضمحل وتلهو بجواره . السماء تسكن ، تهدأ وتبرد . * أرى بوضوح على الشاطئ ظلال الطرق والممرات المرسومة والقنوات الصغيرة لمياه ما بعد الذوبان متقوسة تتشعب في اتجاهات مختلفة ، خالية من المياه ، ولكن من خلال آثار التقعرات البسيطة عليها يتضح أن هناك من مر شوقها ، لم يدهشني كثيرا أنه من الممكن أن تهتز وتتساقط من أقل نفخة ، وأنها تشتعل في أماكن مختلفة بألق غامض متقطع .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD