3

1594 Words
آه . . كم من قاسم آخر سقط على الأرض؟ قاسم! عزيزي… فلذة كبدي . أتعلم لم كنتُ أتيتُ؟ نعم! لكن الآن أريد أن أرجع صفر اليدين ، لو كنت وحدك لكنت قد أخذتك لكن أخذك وحدك هو غاية الأنانية؛ هذا لا يرضي الله . إنه ذنب من أكبر الذنوب ، أن يرى الإنسان في هذه الأرض الملأى بالقواسم قاسماً واحداً ، قاسمه هو فقط . أنا ذاهب ، وحيداً ، وخالي اليدين . . دعني أفكّ هذا الشريط الأخضر المكتوب عليه "كربلاء سوف نأتي" الذي وقّعت عليه بدمائك الحمراء عن جبهتك وأجعله على جبهتي . ليكون أجمل تذكار منك . . إني ذاهب لكن ربما آتي مع الآخرين عندما نستطيع أن نأخذ الجميع معنا ، جميع هؤلاء القواسم الذين يرقدون في الجوار . . ربما لن أرجع أيضاً . الآن سيطلع النهار ، والصحراء ملأى بالنيران . . ويمكنني أن أضيف أنني قد نويت -في البداية- على كتابة قسمين آخرين, إلا أنني لم أجدها فكرة جديرة بالتنفيذ. وأنا أعتقد, بأمانة, أن أمريكا تحتاج إلى أن تتعرف على هذا الكائن الأسطوري. الآن, أكثر من أي وقت مضى. والمسألة هي نفسها بالنسبة لشاعر فرنسي هائل آخر, انتحر قبل مائة عام في كانون الثاني الماضي, هو: (جيرار دي نرفال). ولم تأت على أمريكا فترة من الزمن كان وجود الشاعر فيها مهدداً, كما هو الأمر الآن. إن الأنواع الأمريكية, مهددة حقاً بالزوال, معاً, وفي نفس الوقت! عندما علم (كينيث ري**روث) بالميتة المفاجئة لــديلان توماس كتب مرثاته (أنت لن تقتل) في بُحران وهجٍ أبيض, ولم يُقدمها بغرض النشر, لكنها انتشرت بسرعة, وترجمة إلى لغات عديدة. إن كان لدى أي مخلوق أي شك حول المصير الذي يخبئه مجتمعنا للشاعر, فليقرأ هذه المرثية عن شاعر (ويلز) الذي كتب (صورة الفنان جرواً). منزلة الشاعر وحالته (واستخدم هنا الكلمة بمعناها الشامل) تحدد بدقة وبدون شك الوضع الحقيقي لفاعلية شعبه أو الشعب الذي يتلقاه. في الهند والصين واليابان وإفريقيا, إفريقيا البدائية, نرى ما يقف منيعاً ضد الإبادة. ومن يعوزنا بصورة صريحة في هذه البلاد, بل ما لا نشعر حتى بأنه يعوزنا هو: الحالم, الملهم المجنون. أية أغنية للغول سوف نسمع, هم الذين يعطون معنى لمصطلح (عدم التكيف) الذي يساء استعماله في زمن نهيل فيه التراب على هذا؛.. هل سنركز إنتباهنا على (عدم التكيف) الفرد المتوحد وهو المتمرد الحق في مجتمع عفن! نشرت مجلة (بوزار) في 25 كانون الثاني 1955 مقالة لــ(موريس نادو) عن سياسة (بودلير) جاء فيها: (في قلبي العاري إحساس دائم بالغربة عن العالم وطقوسه. إنه عالم البورجوازية حيث أخلاقية البنوك المرعبة. عالم الغيلان الجائع للماديات, المبهور بنفسه, غير عالم أنه داخل مرحلة الإنهيار, العالم الذي نعرف بنبوءة متفردة أنه سائر نحو (التأمرك), منذور للحيوانية!). الأمر المؤثر عند شعراء القرن التاسع عشر البارزين, وكذلك لدى شعراء القرن العشرين المعروفين, هو نغمتهم النبوية. إلا أن شعراءنا المتأخرين -خلافاً لــ(بليك) و(ويتمان) ذوي النظرة الكونية- يقطنون أعماق الغابة السوداء. إن سحر العهد الألفى السعيد السعيد الذي خلب ألباب أصحاب الرؤى أمثال (جواكيم دي فلوريس) و(هيرونيموس بوش) و(بيكوريلا ميراندولا) والذي لا يزال إغراءه مؤثراً أكثر من ذي قبل, هذا السحر استبدلت به عبودية الخراب الشامل والتام. وفي خضم الظلام والفوضى القادمين, ينسحب شعراء اليوم واشمين أنفسهم بلغة خفية, تصير على مدى الأيام, غير ممكنة للفهم بالمرة! وبينما يخبون, الواحد بعد الآخر, تموت البلدان التي أنجبتهم وتضيع في الإنحدار, ويكون لها نفس قدرهم ومصيرهم. إن فعل القتل سوف يؤدي المطلوب منه سريعاً, وعندما يختنق صوت الشاعر يفقد التاريخ كل مغزى, وينفجر وعد الدينونة مثل فجر جديد مرعب, على وعي الإنسان. الآن فقط, على حافة الصراط, يمكن أن نقول بملء أفواهنا أن (كل ما عُلّمناه مزيف), إن الدليل على هذه المقولة المدمرة واضح, في كل وقت وفي كل مكان: في ميدان المعركة, في معمل الاختبارات, في المصنع, في المدرسة وفي الكنيسة. إننا نحيا, بشكل مطلق في الماضي, نتغذى بأفكار ميتة, ومعتقدات عفا عليها الزمان, وعلوم انتهت.. الماضي هو الذي يستحوذ علينا, لا المستقبل. فالمستقبل دائماً يعود, وسيعود إلى الشاعر. حيث أفلت (رامبو) من العالم, يكون قد أنقذ روحه من مصير أسوأ مما كان مقدراً له في (الحبشة). ولربما قدمت لنا قصيدة (الصيد الروحي) -لو كُتب لها أن تنجو من الغبار- مفتاحاً مفقوداً. ومن يدري؛.. فلربما أعطتنا حلقة الوصل بين (فصل في جهنم) و(عيد ميلاد على الأرض).. هذا العيد الذي كان وقعاً في يوم من الأيام لدى الحالم المراهق. في اللغة الرمزية للروح, وصف (رامبو) كل ما يحدث الآن. وأرى أنا أنه لا فارق على الإطلاق بين رؤيته للعالم ورؤيته للحياة الأبدية.. وبين رؤى مجدرى الدين المجيدين. إننا مدفوعون, المرة بعد المرة, إلى أن نخلق منظوراً جديداً للسماء والأرض, أن ندع الموتى يدفنون الموتى, أن نعيش أشقاء في الجسد, أن نجعل عيد ميلاد الأرض واقعاً. وإننا لمحذّرون, المرة بعد المرة, إن لم تصبح شهوة الحياة الجديدة قناعة حية لكل واحد فينا, وأي واحد منا. فإن الوجود الأرضي لن يكون أكثر من مَطْهرٍ أو جحيم! والسؤال الوحيد الهام الذي يواجهنا الآن: إلى أي مدى نستطيع تأجيل الحتميّ؟ ترى ما الذي نستطيع أن نقوله, حين نفكر أن ولداً غرّاً هزّ العالم من أذنيه؟! أليس أمراً معجزاً مدهشاً هو ظهور (رامبو) على هذه الأرض؟ مثل يقظة (جوتاما) أو تقبّل المسيح الصليب أو رسالة خلاص (جان دارك) العجيبة؟ فسَّر عمله كما تهوى.. اشرح حياته كما تريد.. لكن النور سوف يظل مشعاً لا يشحب.. فالمستقبل كله له.. حتى لو لم يكن أمامنا مستقبل. في مناظرات, مقاربات, التقاءات, ارجاعات؛ كتبها هنري ميللر عن رامبو قال: كان ذلك في عام 1927. في القبو العميق بمنزل شديد القذارة في (بروكلين), سمعت اسم (رامبو) للمرة الأولى. كان وقتها عمري ستة وثلاثين عاماً, وكنت غائصاً في أعماق (فصل جَهنم) الخاص بي وهو فصل طويل بحق. وكان هناك كتاباً عن (رامبو) في المنزل, لكني لم ألمسه أبداً ولم أنظر إليه, وكان السبب في ذلك, المرأة صاحبة الكتاب, والتي كانت تسكن معنا. ويمكنك أن تتخيل أنها كانت تشبه (رامبو) في الشكل والطباع والمزاج والسلوك وهذا ما أكتشفته مؤخراً. وكما قلت, بالرغم من كون (رامبو) مادة الحديث المستمرة بين زوجتي و(ثيلما), فإني لم أبذل أدنى جهد لمعرفته. والحق أنني كافحت كشيطان مريد حتى أبعده عن خاطري.. وبدا لي -وقتئذ- أنه العبقري الذنيم الذي هو أصل كل بؤسي وشقائي. ولاحظت أن (ثيلما) -التي أبغضها كالموت ذاته- كانت تستمد هويتها منه.. تقلده كلما كان ذلك في الإمكان.. لا في التصرفات فحسب.. بل وأيضاً في نوع الشعر الذي تكتبه. لقد تآمر عليّ كل شيء حتى أرفض سماع اسمه وتأثيره وحتى وجوده. كنت آنذاك في قاع الحضيض وكانت معنوياتي محطمة بالكامل. واتذكرني جالساً في القبو الغائر الرطب, أحاول الكتابة على ضوء شمعة خافتة, وبالقلم الرصاص.. كنت أحاول أن أكتب مسرحية عن مأساتي هذه.. لكنني فشلت في الإنتهاء من الفصل الأول. وفي معمعان حالة اليأس والعقم هذه كنت -بشكل طبيعي تماماً- شديد الإرتياب بعبقرية شاعر في السابعة عشرة. وخطر لي أن كل ما سمعته عنه هو من ابتكار عقل (ثيلما) المخبول. وكنت قادراً على الاعتقاد بأنها قادرة على اختراع أحدث الوسائل الذكية لتعذيبي, لأنها تكرهني كما أكرهها. كنا نعيش معاً نحن الثلاثة حياة وصفتها في (الصلب الوردي) وكانت مثل حادثة في قصة لــ(دستوفسكي), غير واقعية, حتى أنا لا يمكن أن أصدقها الآن!.. لكن الفكرة هنا, هي أن اسم (رامبو) لم يخرج من ذهني. وبالرغم من أنني لم أكلف نفسي حتى عناء إلقاء نظرة على عمله إلا بعد ست سنوات (أو ربما سبع), في منزل (آنيس نين) بــ(لوفيسين), إلا أن حضوره كان معي بصفة دائمة. كما أن عملية تعارفنا كانت مقلقة بعض الشيء. وظل صوته يتردد في أذني: (سوف تلتقي معي يوماً ما). وفي اليوم الذي قرأت فيه أول بيت لــ(رامبو) عرفت فوراً أنه من (المركب المخمور) وهي القصيدة التي كانت تهذي بها (ثيلما) مراراً. المركب المخمور! كم يبدو هذا العنوان معبّراً في ضوء كل ما عانيته فيما بعد! في هذه الأثناء, ماتت (ثيلما) في مصح للأمراض العقلية, ولو لم أذهب أنا إلى باريس وابدأ العمل الجاد هناك, لربما لقيت نفس المصير. لقد غرقت سفينتي في ذلك القبو بأعالي (بروكلين), وعندما تهشم الصاري, واندفعت نحو البحر المفتوح, أدركت أنني قد تحررت بالموت الذي مررت خلاله! إن كانت تلك الفترة في (بروكلين), تمثل (فصل (ي) في جهنم)؛ فإن الفترة الباريسية (وبخاصة من 1032 وحتى 1934) كانت تمثل فترة (اشراقات-ي). في ذلك الحين وقع في يدي عمل (رامبو), ووقتها كنت اكتب بحماس أهوج وغزارة مندفعة هائجة, لهذا أبعدته عني. كانت إبداعاتي هي الأهم بالنسبة لي. فبمجرد أن ألقيت نظرة على الكتاب, عرفت ما ينتظرني. لقد كان هو الديناميت الخالص! وكان عليّ أولاً أن أقذف بأصبع ديناميتي الخاص. لقد كان حتمياً أن أقرأ سيرته, إذ أن كل ما كنت أعرفه عنه هو تلك النتف التي التقطتها من (ثيلما) قبل أن تموت في مستشفى المجانين. وقرأت للمرة الأولى عن (رامبو) في سنة 1943 في (بيثرلي جلن) عندما كنت أسكن مع الرسام (جون ديدلي). قرأت (فصل في جهنم) لــ(جان ماري كارّيه) ثم كتاب (آيند ستاركي) بعد ذلك. لقد استحوذ عليّ وخدّرني. وبدا لي أنني لم أقرأ أبداً عن حياة ملعونة مثل حياة (رامبو). نسيت آلامي ومأساتي التي تفوق مأساته بكثير. نسيت ما عانيته في إحباط ومهانة, نسيت بحار اليأس والعجز التي غرقت فيها المرة بعد المرة, وتحولت إلى (ثيلما) في تلك الأيام. لا أستطيع الكلام عن (رامبو), وكان على كل من يزورني أن يسمع أغنية رامبو. والآن فقط -بعد مرور ثماني عشرة سنة على سماعي اسمه للمرة الأولى- أستطيع أن أقول أنني أراه بوضوح, وأن أقرأه بتبصر. الآن أعلم كم كانت مأساته عظيمة وكم كانت مهنته مروّعة. الآن أفهم المراد من حياته -بقدر ما يستطيع المرء أن يقول أنه يفهم ويقدر حياة وعمل الآخر. ولكن الذي أراه أكثر وضوحاً هو: كيف نجوت, بما يشبه المعجزة من نفس المصير اللعين. عانى (رامبو) ذروة مأساته عندما كان في الثامنة عشر, حينما وصل إلى درجة الجنون, وأصبحت حياته منذ ذلك الحين فلاه تمتد إلى المالانهاية. أما أنا فقد وصلت إلى هذه الدرجة بين السادسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين. العمر الذي مات فيه (رامبو). ومنذ ذلك الحين انتعشت حياتي. وتحول (رامبو) من الكتب إلى الحياة. أنا فعلت الع**. (رامبو) فرّ من السعالي التي خلقها, أما أنا فقد عانقتها!.. لقد استيقظت من إغماءة الممارسة المجردة للحياة وحماقاتها. توقفت في لحظة وقررت أن أوجّه كل طاقاتي للعمل الإبداعي. واندفعت في الكتابة بحرارة ولهفة كما اندفعت في تيار الحياة سابقاً.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD