كنت أروي ظمأ الخنادق ، أقدّم الماء للجنود ، كنت قد رأيت أنهم يفتعلون المقدمات لإخباري بشهادتك .
كانوا يعلمون أن لا أم لك ولا أخ ولا أخت ، وكانوا يعلمون أني أنا وأنت وحدنا قد بقينا من تلك الأسرة العظيمة ونحن الوحيدان اللذان لم تصل إلينا الصواريخ .
كانوا يعرفون ارتباطنا القوي وألفتنا ومحبتنا من أجل ذلك ، أرادوا أن يصنعوا مقدمات .
قالوا: الله وحده هو الباقي وقلت: ليس قاسم وحده من يذهب .
سألوني بحيرة وتعجب: هل قال لك أحد شيئاً؟
قلت: ذهاب الجميع وبقاء الله هو الذي انبأني ، فقاسم لا يختلف عن البقية في شيء .
قالوا: من الذي أحضر لك الخبر؟
قلت: رائحة الولد؛ رائحة الدماء التي تضرّج الولد .
أقسم بالله أني لم أكذب ، لولا وجود رائحتك يا قاسم ، في هذا الظلام الحالك الذي يتناوب فيه القمر مع الغيوم السوداء ، كيف كنت سأحدّد الجهة وأجد الطريق إليك؟
إنك لن تصدّق يا ولدي ، أني عندما كنت آتي إلى المنزل وأنت فيه ، لم يكن من الضروري أن أعلم بوجودك من ملابسك أو حذائك أو صوتك ، إن رائحتك هي التي كانت تفشي خبر وجودك دون أن تعرف .
وكأن هذه الرائحة هي التي تجعلني أزحف نحوك ، هذه الأضواء الكاشفة التي تُطلق من خنادق العدو المظلمة هي التي تصعّب الأمر على أبيك .
إن الصحراء ككف اليد وإضاءة هذه الأنوار تكشف كل حركة في الصحراء الواسعة . إن العدو يريد أن يبقى يقظاً لكنه كالإنسان الذي يسير في نومه ، سقوطه شيء مؤكد . عندما ينقطع صوت المدافع والدبابات يسيطر على الصحراء سكوت مرعب ، كأن قلب الأرض يتصدع . إن العرق الذي يتصبب من جبيني يلهب عينيّ إلى هذا الحد الذي يبطئ زحفي الهادئ .
إن الصحراء ، مع أنها تبدو للعين رحبة إلى هذا الحد ، ليست مستوية ، فيها ارتفاع وانخفاض ، لا يا بنيّ لم أتعب ، أريد أن أجفف عرقي وأعيد بعض الرمق لقدميّ .
حتى لو تعبت فلأتعب ما العمل؟ إنني رجل مسنّ ، أقول الحق ، إن ما أحضرني إلى هنا ليس قوّتي ، بل هو عشقك الذي جذبني ، وإلا كيف أستطيع أن أقطع هذا الطريق كله زحفاً وهذا العشق إن لم يوصلني إليك لن يتركني . بهذه الطريقة يرتاح فكري ، ليصبح خيالك رفيقي .
كم هو لطيف هذا النسيم الذي أخذ يهب . إن مقداراً كهذا من الرطوبة بالنسبة للجنوب غنيمة في شهر آذار . لكن للأسف . عندما يلفح ركبتيّ ومرفقيّ يفقد هذا الطعم ويتبدل التهاباً .
كأن هناك بلل! . .
هذا من المرفقين ومن هاتين الركبتين لقد انسلخ الجلد والقماش ، لشدة الزحف وظهر الدم . أقسم أن هذا الدم يصلح للتطهّر من أجل صلاة الصبح .
إن النظر من المنظار لا يظهر كل هذه المسافة ، في هذا السواد المحض لا يمكن التشخيص كم بقي من المسافة .
هذه الحجارة الحادّة ، تجعل حركة عقارب الساعة بطيئة وربما ذهابي أيضاً .
إن المقلق في الأمر هو خوف أن يفاجئني طلوع الصبح ، مع أن طلوع الصباح كان محبّباً بالنسبة لي ومنتظراً كل ليلة ، لكن في هذه الليلة أنت أجمل من الصبح في انتظاري ، سآتي ، سآتي وأروي عطش شفتيّ بضريح عينيك . هذا الصوت صوت ماذا؟ صوت كلام؟ في هذه الصحراء الموحشة؟
كم كنت بلا فكر حين لم أصطحب بندقية أو شيئاً ، فكيف لو وصلت إلى خنادق المعتدين؟
ليتني على الأقل قلت لأحد إني ذاهب . فربما لن أعود . . فلو وجدتْ جثتي أمام خنادق الأعداء ليعلموا لِمَ أتيت . لكن لا . . فهذا تفكير طفولي ، المهم هو أن الله يعلم ، المهم هو أن أكون أبيض الوجه في أعتابه ، هو يعلم لِمَ أتيت فإن لم يقبلني في جملة أحبّائه فلن يعدّني في زمرة أعدائه . يعلم أني أتيت لآخذ جثة ولدي من براثن نيران العدو . إلهي ، إلهي! أنت تعلم . وهذا يكفيني ، أنت ساعدني ويكفي ، يجب ألا يكون لقلقي من معرفة الآخرين وجود في قلبي ، الآن ليس هناك ما أفعله غير الهدوء والتنصّت من أين يأتي الصوت .
إن التحرّك والاقتراب خطر ، يجب أن تكون الآذان صاغية فقط .
من المحراب إلى ذي الفقار . . من المحراب إلى ذي الفقار من المحراب إلى ذي الفقار…
والله إن هذا الخندق يعود لأصحابنا إذ ، . من أين للعدو أن يعرف ماهو المحراب وما ذو الفقار .
الآن كيف سأبرّر لهم حضوري؟
السلام عليكم يا أبنائي! . . هذا أنا فلا تخافوا…
من أين لكم أن تعرفوا اسمي؟ وكيف عرفتموني في هذه الظلمات؟ هل في صوتي علامة؟ لا ، لن أجلس ، فلم آتِ لأبقى… ماء؟ لم آتِ من أجل أن أحضر لكم الماء ، لكن عندي . عندي قربة ماء ، فلتشربوا هنيئاً . لقد أصبتم ، أتيت من أجل قاسم… ليس فقط لأراه . . لقد أتيت لآخذه . . إني أعلم كل شيء ، لكن هو قلب الأب ومحبته . . فالقلب دائماً لا يستكين للكلام المنطقي . . أحياناً يعرض عن أوامر العقل . على كل حال أتيت من أجل هذا .
لا ، هذا محال ، لا أقبله ، إن قلتم ارجع سأرجع لكن لن أسمح لكم أن تتقدموا . أقسم عليكم بروح الإمام ألاّ تصرّوا . . نفّذوا عملكم الذي هو أثمن من العبادة . . حسناً . . أرجع إلى هنا .
في أمان الله . . انتبهوا لأنفسكم . . نحتاج لدعائكم . . عليّ معينكم . . الله حافظكم .
من هنا معلوم أنه يجب ألا أبقى كثيراً ، هذا ما سيقولوه لي . أتيت يا قاسم!
كأن الفجر سيبزغ ، يجب ألا يقترب السحر إلى هذا الحد ، كم مضى من الليل؟
لا ، هذا القمر ، إنه ينظر من خلف الغيوم ليرى وجهك .
في خنادق كهذه يجب أن توجد مدافع ودبابات مكان القنابل .
عسى أن يبقى جسدك سالماً ، أمام هجوم ألسنة اللهب هذه ، وهو في أمان .
هذه الرائحة ، رائحتك ، وهذا الجسد يجب أن يكون جسدك ، أشكرك يا إلهي أنّ كل هذه المشقة لم تذهب سدى ، السلام عليك يا قاسم! السلام عليك يا بني! أيها الشجاع! أي رائحة عطرة تفوح منك ، ألم يمر على إسلامك الروح خمسة أيام بلياليها؟ فمن أين رائحة العطر والورد هذه؟ دعني أقبّل جبينك أولاً ، لا بل يد*ك ، لالا في البداية قدميك ، قدميك اللتين وهبهما الله لك لتذهب ولم يهبني مثلهما…
كنت عمرك كلّه تقبل يديّ دون أن أستحقّ ، فدعني مرّة أقبل قدمك التي تستحقّ أن تقبّل وتستنشق رائحتها عمراً…
مع أن ضوء القمر يمنح وجهك جلاءً من نوع آخر ، إلا أن العدو سيكتشف أمرنا .
لقد كنت قد أحضرت الماء لأغسل دماء محاسنك ، لكن الحرّاس ، إخوتك ، كانوا عطشى ، فكأنّ الله قد وضع لهم الماء في قربتي . يمكن غسل محاسنك عند ذهابنا إلى البيت . كان إعطاؤهم الماء أكثر ضرورة ، إنك ضيف حوض الكوثر يا قاسم .
من أجل هذا نمت هادئاً إلى هذا الحد . لقد رأيتك في المنام مرّات لكن لم أر فيك هدوءاً ملكوتياً بهذه الصورة من قبل .
كيف حال أمك؟ كأنكما معاً؟ أليس كذلك؟…
لقد اجتمعت مع إخوتك وأخواتك… أما أنا فبقيت وحيداً
لي كلام كثير معك ، لكن قوله غير ممكن هنا .
عندما آخذ جنازتك لن أدعهم يدفنوك سريعاً . .
سأبقيك يوماً وليلة لأتكلم معك . في هذه الليلة المقمرة ليس الجلوس معك بالعمل الصحيح .
أنا أيضاً أستلقي ، لكن ليس في هذه الجهة ، أنام في ذاك الطرف حتى لو رآنا العدو لا يلحق بك الأذى .
آه! جنائز جنازة أخرى في هذه الصحراء .