4

1199 Words
فربحت الحياة ولم أخسرها. وتوالت المعجزات, الواحدة وراء الأخرى, وتبدّل كل حظ عاثر إلى مفاجأة سعيدة. أما رامبو فبالرغم من سقوطه في حضن أرض حافلة بالأجواء والمناظر العجيبة وعالم سحري غريب ومدهش كقصائده, إلا أن هذا لم يزده إلا مرارة وانغلاقاً على نفسي وكراهية للعالم. رامبو أعاد الأدب للحياة, أما أنا فأردت أن أعيد الحياة للأدب!. أما الرابط بيننا فهو تقوى الخاصية الإعترافية, كذلك الإنشغالات المروحية. والإهتمامات السلوكية, وأيضاً الاستمتاع باللغة والموسيقى أكثر من التلذذ بالأدب. مع رامبو أحسست بطبيعة بدائية تعلن عن نفسها بأغرب الطرق. وصف (كلوريل) (رامبو) بأنه (صوفي في حالة توحش) وهو وصف غريب لا مثيل له. إن (رامبو) لا ينتمي إلى أي مكان.. وكان لدى هذا الشعور نفسه تجاهي. المناظرات لن تنتهي, وسوف أتناولها بمزيد تفصيل, ذلك لأنني أثناء قراءة السير والرسائل رأيت وجوه الشبه واضحة إلى حد لم أستطع معه أن أقاوم إغراء كتابة ملاحظات عنها.. ولا أظن أنني صاحب بدعة.. في العالم الكثير من (رامبو) وأن عددهم يزداد مع الزمن. وأرى أن النمط الرامبوي سوف يحتل في المستقبل محل النمط الهاملتي أو الفاوستي. وأحاول أن أركّز على هذه النقطة في طباعه, لأنها يمكن أن تفسر العديد من تصرفاته السيئة المنسوبة إليه, وعلى ضوئها يمكن أن نفهم الكثير. إنه لم يكن بالرجل البخيل, ولا بالقاسي على نفسه كما يؤكد بعض الذين تطوّعوا بكتابة قصة حياته. كذلك لم يكن قاسياً على الآخرين أكثر مما كان قاسياً على نفسه, كان رجلاً كريم الأخلاق ويقول (باردي) أحد مستخدميه القدماء: (كان إحسانه بذلاً طبيعياً لا يتظاهر به. وربما كان هذا الإحسان من الأشياء القليلة التي يفعلها دون احتقار أو استخفاف). وثمة كابوس آخر كان يؤرق لياليه: الخدمة العسكرية! فمنذ أن بدأ رحلته وحتى يوم وافته المنية كان يطارده الخوف من السلطات العسكرية. وكان كذلك وهو في مستشفى مارسيليا قبل شهور قليلة من وفاته, مرعوباً من فكرة أن تكشف السلطات العسكرية المكان الذي يختبئ فيه ومن ثم ترسله إلى محاكمة عسكرية تنتهي بالسجن..كان هذا الرعب يرهق مضجعه ويستعبده كخادم لديه. يقول: (أيكون السجن هو ما أعانيه؟ إنني أفضّل الموت!) وكان في سبيل هذا يتخذ كافة الاحتياط بدرجة مبالغ فيها بعض الشيء, فكان يرجو أخته ألا تكتب إليه إلا في أضيق الحدود وعند الضرورة القصوى, وأن تكتب على الخطابات (مرسل إلى رامبو) فقط ولا تكتب اسمه كاملاً (مرسل إلى (آرثر رامبو).), بل وأكثر من هذا؛ جعلها تنتقل إلى مدينة مجاورة إلى مدينتها في كل مرة تحاول فيها أن ترسل إليه خطاباً حتى لا تتبع الشرطة العسكرية البريد وتصل إليه! إن دخائل شخصيته تتعرى أمامنا في هذه الرسائل المتجردة تماماً من أي قيمة أدبية أو غرض فني, نرى فيها جوعه النهم إلى التجربة, وحب استطلاعه الذي لا حدود له, ورغباته التي لا تنتهي وإزدراءه النفس وزهده وقناعته, كوابيسه, وسخطه, وتمرده, وتوحّده. وإحساسه العارم بأنه بلا جدوى.. بأنه منبوذ. وفوق هذا كله نرى أنه -مثل كل المبدعين الفنانين- لا يتعلم من التجربة ولا يستفيد, وما يمر به ليس أكثر من سلسلة لا تنتهي من العذابات والتجارب المكررة. إننا نراه يعيش في وهم ضخم هو أن الحرية يمكن أن نحصل عليها بوسائل خارجية. يعيش حياة المراهق كما تطول, يرفض المعاناة ولا يقيم لها وزناً. ويجب علينا أن نقارن طوافه بطواف (كابيزا دي فاكا) حتى نستطيع أن نفهم مدى فداحة فشله الذريع في النصف الأخير من حياته. ولكن دعونا من هذا الآن ونتركه في الصحراء التي خلقها بنفسه لنفسه. وما عنيته بإشارات وتناظرات واسترجاعات ومقارنات هو ما سوف نتكلم عنه الآن. ولنبدأ بوالديه: كانت السيدة (رامبو) مثل أمي, امرأة باردة من أصل الشمال, كثيرة النقد, متكبرة, غير متسامحة وطُهريّة. أما أبي فكان من أصل الجنوب, من والدين باقاريين بينما كان والديّ (رامبو) بورجنديّا وكان الأب والأم دائماً في حالة خلاف حاد يصل إلى حد التشاحن أحياناً, بما في ذلك التوابع التي تعود على الإبن في أغلب هذه المواقف. إن الطبع المتمرد الهمجي الذي لا يمكن كبح لجامه يجد له منفساً هنا. ومثل (رامبو) بدأت في وقت مبكر أصرخ: (ا****ة على الرحمة!). كان هذا هو موت كل شيء يرضى به الوالدان ويقبلانه. ليس هذا فقط بل كنت أهين أصدقائها أمامها حتى عندما كنت صبياً. ولم يتوقف الصراع العدواني حتى وأبي على فراش الموت بالفعل.. وعندما عرفت كم أشبهه. مثل (رامبو) لعنت مسقط رأسي, وسوف أظل ألعنه حتى اليوم الأخير في عمري. كان هاجسي المبكر هو: كيف أهرب من بيتي, ومن المدينة التي أكرهها, ومن الوطن ومن مواطنيه الذين لا تربطني بهم أية صلة. ومثله -أيضاً- كنت أسبق عمري, أردد القصائد بلغة أجنبية وأنا ولداً.. تعلمت المشي والكلام قبل الأوان.. قرأت الجريدة قبل أن أذهب إلى روضة الأطفال.. كنت مبكر النضوج.. وكنت أصغر تلميذ في الصف.. وأفضل تلميذ كذلك. وكنت الأكثر تفوقاً والمفضل لدى معلميّ ورفاقي.. لكني, مثله أيضاً, كنت أنظر إلى الجوائز الصغيرة التي تقدم لي بإزدراء, ولقد طردت من المدرسة مراراً بسبب السلوك الغير قويم. وكان يبدو أن رسالتي في المدرسة هي السخرية اللاذعة من المعلمين والمُقرر, وكانت المدرسة, بكل ما فيها, سهلة جداً, يسيرة جداً, غ*ية جداً, بالنسبة لي بالطبع.. وأحسست بأنني قرد مدرّب! وكنت أقرأ بنهم شديد منذ طفولتي.. وفي عيد الميلاد لم أكن أطلب شيئاً سوى الكتب.. عشرين كتاباً أو ثلاثين في كل مرة.. وحتى بلغت ما يقارب الخامسة والعشرين, لم أغادر الدار إلا وتحت إبطي كتاباً. كنت أقرأ واقفاً, وأنا في طريقي إلى العمل, وأحفظ أبياتاً كثيرة لشعرائي المفضلين. وأتذكر أن مسرحية (جوته) الخالدة (فاوست) كانت من بين هذه الكتب. وكانت المحصلة النهائية والنتيجة الأخيرة لإمتصاص الكتب المستمر هذا هي أن ثورة أبعد اشتعلت بداخلي, والتهبت رغبتي الخامدة في السفر والمغادرة وخلقي عدواً لأهل الأدب. احتقرت كل ما يحيط بي.. وبالتالي ابتعدت تدريجياً عن أصدقائي.. ووجدتني أفرض على نفسي نمط متوحَّد حاقد يوصم صاحبه بدمغة (الغربة).. ومن سن الثامنة عشرة (السن التي تأزمت فيها حياة رامبو) أصبحت شقياً بالكامل, محطماً بائساً, ملعوناً, ولم يكن هناك بارقة أمل في الخلاص من هذه الحال إلا بتغيير طروفي تغييراً جذرياً. في الحادية والعشرين, هربتُ.. ولكن ليس طويلاً.. ومن جديد -مثل رامبو- كانت الهروبات المتاحة لديّ ذات نتائج مشهود لها بالإخفاق.. وكنت دائماً أعود إلى الدار بإرادتي أو بغير إرادتي.. وفي وضع يائس تماماً. كان يبدو لي أن طريقي مسدود من كل جانب وليس ثمة مخرج واحد أتحرر من خلاله. اشتغلت بمعظم الأعمال الغريبة والمهن ا***ذة, بمعنى آخر, اشتغلت في كل شيء لا يناسبني. ومثل رامبو في المحاجر القبرصية, عملت بالدمش والمعول, عامل باليومية, متنقلاً كالمرتزقة, أفّاقاً بلا استقرار. بل أشبهت رامبو حتى في نقطة هروبي من الدار.. فكنت أزمع -مثله- أن أحيا حياة حرة طليقة لا أقرأ فيها كتاباً مرة أخرى, أعتمد في **ب عيشي على عرق جبيني, أن أكون رجل الأجواء المفتوحة, رجل بلا موطن, لا بل ولا عاصمة. إلا أن أفكاري دائماً ما كانت تخونني. وكان قدري دائماً أن أكون (الكاتب) سواء كان هذا بإرادتي أو بدونها. وعلى الرغم من قدرتي على التعامل مع أي مخلوق (خاصة الفرد العادي) إلا أنني أبقى دائماً في النهاية الرجل الذي يثير الريبة في كل ما يقول ويفعل. وكذا كانت زياراتي إلى المكتبة: أطلب دائماً الكتاب الخطأ.. ومهما كانت المكتبة هائلة الحجم وشاملة لأنواع الكتب, فإن الكتاب الذي أريده لن يكون فيها أبداً ومهما حاولت. وكان هذا الكتاب يمتنع عني أو يمنعوه عني. وخطر لي في تلك الأيام أن كل ما أنشره من أغراض الحياة محرّمُ عليّ. لا أنكر أنني كنت مذنباً في معظم الحالات وأكثر الجرائم كنفاً. كانت لغتي نابية وألفاظي ب**ئة, حتى أنني قد جُررت إلى قسم الشرطة وأنا في السادسة من عمري لإستعمالي كلمات إباحية.. هذه اللغة صارت عندي أكثر بذاءة وسلاطة!. وهزّني من الأعماق أن قرأت عن رامبو أنه كان يذ*ل رسائله وهو شاب بعبارة (من من التعمي عديم القلب), كانت (عديم القلب) صفة تخلب لبي وتثير غرامي وأهيم بها شغفاً..
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD