10

1684 Words
الشمس تميل إلى أسفل ، موسيقى الغروب العظيمة المهيبة تبلغ درجة من الرضا والسلام حتى يخيل أنها السكينة والهدوء . وفي هذا الهدوء تتناهى إلى السمع بوضوح أصوات حفيف يتخللها صوت ما لتيار هواء نازل يمس سطح الماء الأملس الناعم . هناك أيضا ، على الشاطئ ، في تلك الغابة فوق الجبل يصوصو عصفور بصوت مفطور ، اسمعه ، ليس متوافقا مع الإيقاع العام للموسيقى ، لقد صوصو ثم تلعثم ولفه الصمت . أتلفت حولي في جزع: ماذا سيحدث له . أرى وأسمع كل شيء ، أشعر بنفسي قادرا على فهم وادراك السر الرئيسي الموحد والمفرق لكل شيء ، ذلك السر الذي ولدت منه الحياة من البداية حتى النهاية . . * خطر لي أنني بهذه الطريقة سوف أتمكن من تحديد اللحظة التي يصل فيها إلى خلع غطاء الصندوق, وأيضاً متى سيكون قد أزاحه بالكامل, ومتى سيضعه على الفراش السفلي في غرفته . هذه النقطة الأخيرة توصَّلت إليها من خلال الصوت الذي يص*ر عندما يصطدم غطاء الصندوق بحافة الفراش الخشبية, حين يحاول الفنان أن يضعه عليه بكل هدوء, إذ لم يكن له مكان على أرض الغرفة .  بعد ذلك سيطرت فترة هدوء شامل ولم أعد أسمع شيئاً حتى مطلع الفجر, ما عدا . . ماعدا صوت نحيب مكبوت تناهى إلى مسامعي بصعوبة, تمتمة خافتة إلى درجة أنها تكاد لا تُسمع إلا بجهد مضن, هذا إن لم تكن الأصوات الأخيرة من وحي خيالي .  أقول إنها أصوات تشبه النحيب أو التأوهات الحبيسة في الصدور, لكن, بالطبع, لم تكن شيئاً من هذا القبيل .  أفضّل أن أعتبرها أصواتاً تخرج من أذنيّ ولا أصل لها من الواقع . كان من عادة السيد ( بولس ) أن يترك العنان لميوله مهما جنحت, خصوصاً ما تعلّق منها بالحماسة ا***ذة لمختلف ضروب الفن, وهكذا فهو يفتح الصندوق كي يشبع عينيه من التحفة الفنية النادرة التي في داخله؛ على أية حال لم يكن في هذا الصندوق ما يجعله ينتحب . لذا أكرر بأن تلك الأصوات كانت من هلوسات خيالي الخاص الذي هيّجه شاي القبطان ( مايكل ) جازاه الله . قبل الفجر بقليل, في تينك الليلتين المذكورتين, مرة أخرى ، سمعت السيد ( بولس ) بوضوح يعالج الغطاء ويعيده إلى الصندوق ويُركَّب المسامير إلى أمكنتها بمفك البراغي . وكان بعد أن ينتهي من كل هذا يندفع خارجاً بكامل ثيابه ويدعو زوجته من غرفتها ، كأن شيئًا لم يكن . مضت سبعة أيام ونحن في البحر . وكنا قد مررنا بمضيق ( هاتيراس ) عندما نزلت بنا ضربة سوء جو عنيفة من الجنوب الغربي . وكنا إلى حدِّ ما مستعدين لها, إذ كان الطقس يسوء تدريجاً يوماً بعد يوم . أبحرنا في خضم هذا الجو المُعادي بأمان وحذر لمدة يومين كاملين, برهنت السفينة خلالهما على أنها بناء بحري من النوع الممتاز إذ لم يدخلها من الماء قيد أنملة .  وفي الساعة الأخيرة انقلب الأمان المؤقت إلى إعصار مزّق الأشرعة وتركنا نتخبط بين الأمواج التي غمرت مياهها السفينة والسكينة .  أدى هذا إلى فقدان ثلاثة رجال كانوا في مطبخ السطح, وضياع كل المتاريس التي في الجهة اليسرى . *  وما كدنا نسترجع وعينا, بعد أن تمزّق الصاري الأمامي إلى هلاهيل, حتى ساد البحر سكون يتخلل العاصفة لفترات قصيرة غير مؤثرة, فأمضينا بعض الوقت في شبه أمان حتى أخذت السفينة بعد ذلك تطفو على الماء بثبات واتزان . غير أن الإعصار لم يهدأ أو يفتر, وما كنا لنترقّب هدوءه بكثير من الأمل . لم تكن أحزمة الأشرعة محكمة الربط, فضلاً عن أنها كانت قد تقلقلت بشدة . وفي اليوم الثالث من العاصفة, حوالي الساعة الخامسة عصرا, انقلع, إثر هبة ريح عنيفة مفاجئة, صاري المؤخرة وسقط على المتن . حاولنا خلال ساعة أو أكثر أن نتخلص منه بلا فائدة بسبب تأرجح السفينة, وقبل أن ننجح في الخلاص منه, أسرع النجّار يعلن لنا أن الماء في السفينة أصبح على علو أربعة أقدام, وقد ازداد موقفنا حرجا حين وجدنا أن المضخات قد تعطلت ولم تعد صالحة للعمل فبلغ منا اليأس مبلغه وساد السفينة جوّ من الغرابة والاضطراب, لكننا رحنا نبذل غاية ما في وسعنا لتخفيف الأحمال, فأخذنا نلقي في البحر كل ما تصل إليه أيدينا, حتى أننا اضطررنا إلى قطع الصاريين الباقيين .  أتممنا هذه المهمة الثقية لكننا لم نتمكن من القيام بأي عمل لإصلاح المضخات, وأخذ تدفق الماء يزداد عنفًا ومنسوبه يزداد ارتفاعاً . مع مغيب الشمس خفّت حدة الإعصار وهدأ معه عنفوان البحر, وهكذا راوحنا نسيم الأمل في أن ننقذ أنفسنا باستخدام القوارب . وحوالي الثامنة مساء هبت الريح وبدّدت الغيوم فأطلّ القمر بتمامه وكأنه قطعة من حُسن الحظ جاءت من السماء تنقذنا من حضيض الضياع . *  وعلى ضوء القمر وبعد جهد وشقاء نجحنا في أن نسحب القارب الطويل من جانب السفينة وحشرنا فيه جميع البحّارة وغالبية الركاب . تحرّكت هذه الدفعة بسرعة, وبعد عذاب ومشقات كثيرة وصل أفرادها إلى ( أوكراكوك ) في اليوم الثالث بعد الحادث ولم يبق في السفينة سوى أربعة عشر راكباً مع القبطان, بعد أن قرروا استخدام قارب النجاة الصغير الموجود في المؤخرة . وكان أن أنزلنا القارب دون صعوبة, ومن العجيب أنه حين لمس وجه الماء لم ينقلب, إذ كان فيه, عندما طفا, القبطان وزوجته, والسيد ( بولس ) وآله, ضابط م**يكي وأسرته المكونة من زوجته مع أطفالهما الأربعة, وأنا وخادم ز**ي؛ ولم يكن في القارب بالطبع أية مساحة تتسع لأي شيء سوى القليل من الأدوات التي يتحتم وجودها, وبعض الأجهزة والثياب المحزومة على ظهورنا .  لم يجرؤ أحدنا في مجرد التفكير بأن ينقذ أي شيء آخر .  وكم كانت دهشة الجميع عظيمة حين وقف السيد ( بولس ), بعد أن ابتعدنا بضعة أمتار عن السفينة, وطلب من القبطان بكل سذاجة أن يعود بالقارب إلى السفينة لإحضار صندوقه المستطيل؛ وكرد فعل متوقَّع صاح القبطان بدهشة: -"بالله عليك اجلس يا سيد ( بولس ) . ستهلكنا إن لم تجلس بهدوء؛ لقد بلغ الماء حافة القارب ." غير أن السيد ( بولس ) صرخ بجنون وهو لا يزال واقفًا: -"الصندوق! . .لا يمكنك يا قبطان ( مايكل ), يجب أن لا ترفض طلبي . سيكون وزنه خفيفًا ، أرجةك ، إنه لا شيء ، مجرد لا شيء . ورحمة والدتك ، بحق السماء ، بحق أملك في النجاة, أرجوك أن نعود لنأتي بالصندوق!" . بدا القبطان لبرهة وجيزة وكأنه تأثر بكلمات الفنان, لكنه عاد لرشده واستعاد ملامح الجد ثانية وقال بصرامة لا تقبل النقاش: -"أنت مجنون يا سيد ( بولس ) . لا أستطيع أن أصغي إليك من الأساس . اجلس, أقول اجلس وإلا ستغرق القارب بنا يا أ**ق . قف, أمسكوه ، اقبضوا على هذا المخبول! إنه على وشك أن يقفز إلى الماء! هيا, . . ا****ة ، لقد توقعت ذلك . رمى بنفسه!" . فبينما كان القبطان يقول هذا, قفز السيد ( بولس ) إلى الماء فعلاً . وبما أننا كنّا لا نزال قريبين من مكان الحطام, فقد تمكَّن, بعد جهد يفوق طاقة البشر, من أن يمسك بحبل, يتدلَّى من السلاسل الأمامية للسفينة .  وبعد قليل أصبح على المتن واندفع إلى الداخل باتجاه الغرف . في هذه الأثناء كانت المياه قد دفعتنا بعيداً عن السفينة وأصبحنا تحت رحمة ثورة أمواج البحر الهادرة, الذي كان لا يزال يكشر عن أنيابه . حاولنا جهدنا أن نعود إلى الوراء لكن قاربنا الصغير كان يرتجف كورقة في مهب العاصفة . واتضح لنا بلمح البصر أن مصير الفنان المنحوس بات معروفاً .  وبينما كانت المسافة التي تفصلنا عن السفينة تتزايد رأينا الرجل المجنون ( إذ كنا قد اعتبرناه مجنوناً لا أكثر ) يظهر على السطح, ويجر بقوة لا يملكها بشري صندوقه المستطيل, ثم لفّ الحبل حول الصندوق أولاً ثم حول نفسه عدة مرات, واندفع به إلى البحر الذي ابتلعهما معاً بسرعة فجائية ، مرة أخيرة ونهائية وإلى الأبد!   وهاهي تتكشف لي بكل همومها المرة وأحمالها الثقيلة ، أخطو على أقرب الطرق أعرف أنني أيضًا سوف أنقضي وأعود كما كنت عندما لم أكن بعد ، وإنما بعد أن ينقضي الأمر بدلاً من أن يكون الأمر في انتظار ما يأتي ، ذلك يجعلني سعيدًا . أغرق في ظلام وحدتي وكثيرًا الآن ما تتعثر تمتمتي وتموت وأبكي من السعادة إذ أمضي إلى الأمام ومن الحب لهذه الأرض التي حملتني طويلاً ، والتي سرعان ما سوف أصبح مثلها عديم الشكوى . تحت السطح مباشرة سوف أكون ، متجمعًا كلي في البداية ، ثمَّ متفرقًا أنساب مشتتًا عبر الأرض كلها ، وربما في النهاية عبر صخرة إلى البحر ، بعضًا مني . . طـن من الديدان في فدان من الأرض . تلك فكرة رائعة ، طن من الديدان ، أؤمن بهذه الفكرة ، من أين أتيت بها ، من حلم ، أو من كتاب قرأته في ركن عندما كنت صبيًا ، أو كلمة سمعتها ، بينما كنت أمضي ، أو في طوال الوقت ومكبوتة تحت حتى يمكنها أن تمنحني البهجة . هذا هو طراز الأفكار البشعة التي عليَّ أن أصارعها في الطريق كما قلت . والآن أليس هناك ما يضاف إلى هذا اليوم بالجواد الأبيض والأم البيضاء في النافذة؟  أقرأ مرة أخرى من فضلك وصفي لهما ، قبل أن أصل إلى يوم آخر في وقت يأتي بعد ذلك ، ليس هناك ما يضاف قبل أن أتحرك إلى الأمام في الزمان ، فاتت المئات ، بل آلاف من الأيام على نحو لم أكن بقادر عليه عندئذ ، بل كان عليَّ أن أمر بها بأي شكل حتى جئت إلى اليوم الذي أجيء إليه الآن ، لا ، لا شيء ، كل شيء قد ذهب إلا أمي في النافذة ، والعنف ، والغضبة ، والمطر . فلأمضِ إذن إلى هذا اليوم الثاني ، ولنتخلص منه ونزيحه من الطريق ، ولنمض إلى ما بعده . ** * توقف بنا الزمن . ظللنا برهة, أيدينا على المجاديف وأعيننا مسمَّرة على مكان المأساة . وجمدنا في صمت استمر مدة ساعة, صمت مثقل بالحزن . وأخيراً تجرأت أن أتفوه بشيء فقلت: "هل لاحظت يا سيادة القبطان كيف غرقا فجأة؟ ألم يكن ذلك شيئاً غريباً؟ لقد خامرني بعض الأمل في نجاته عندما شاهدته يربط نفسه إلى الصندوق ويرمي بنفسه في الماء ." غمغم القبطان وعينه معلقة بمكان الفاجعة: "كما يغرق الرصاص . على كل حال لن يلبثا طويلاً حتى يطوفا على وجه الماء, لكن ليس قبل أن يذوب الملح ." شهقت مستغربًا: "الملح؟!" فعقد القبطان حاجبيه, مشيراً إلى شقيقتيّ المرحوم وزوجته ، وقال: "اخرس ، سنتكلم عن هذا فيما بعد ." نجونا في النهاية, ولكننا قاسينا الأمرّين . حالفنا الحظ, كما حالف رفاقنا في القارب الذي سبقنا . وحين نزلنا إلى البر كانت حالتنا أقرب إلى حالة الموتى منها إلى الأحياء . بعد أربعة أيام من الأهوال نزلنا على الشاطئ المقابل لجزيرة ( رواندك ) . بقينا هناك أسبوعاً, وتسنَّى لنا أخيراً أن نستأنف عودتنا إلى نيويورك . وبعد شهر من غرق الباخرة ( الاستقلال ) تقريباً التقيت القبطان ( مايكل ) مصادفة في برودواي .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD