11

1688 Words
وتطرّق حديثُنا طبعاً إلى تلك الكارثة التي نجونا منها بأعجوبة, وإلى المصير المؤلم الذي لاقاه المسكين ( بولس ) . وعندها عرفت التفاصيل التالية: كان الفنان قد حجز الغرف الثلاث لنفسه وزوجته ولأختيه والخادمة . وكانت زوجته كما كان يحكي عنها تماماً . . سيدة بديعة الحسن ، واسعة الإدراك ، مُبهرة . * في صباح اليوم الرابع عشر من يونيو ، اليوم الذي زرت فيه السفينة ، مرضت السيدة الجميلة فجأة وماتت, فجُنَّ الزوج المسكين من فرط الحزن . لكن الظروف لم تسمح له بأن يؤخر سفره إلى نيويورك, وكان من الضروري أن يحمل جثمان زوجته الحبيبة إلى أمها . والمعروف أنه يصعب على الركاب تقبّل مثل هذا الأمر, إذ لو عرفوا به لكان معظمهم فضَّل مغادرة السفينة على السفر برفقة جثة راقدة في تابوت . وإكراماً للزوج في هذا المأزق رأى القبطان ( مايكل ) أن يشحن صندوق الجثمان على أنه متاع, وذلك بعد أن يحفظ جيداً وتوضع معه كمية كبيرة من الملح تناسب حجم الجثة .  ولم يكن قد شاع بعد خبر موت السيدة . بعد أنه كان معروفاً أن السيد ( بولس ) قد حجز مكاناً لزوجته, فقد أصبح لزاماً أن يشغل شخصٌ ما مكانها . واستقرّ الرأي على أن تقوم بهذا الدور خادمة السيدة المتوفاة . ولذا فالغرفة الإضافية, التي حجزت منذ البداية باسم الخادمة, بقيت محجوزة, وفي هذه الغرفة كانت تنام الزوجة البديل . وفي أثناء النهار كانت تقوم قدر ما تمكّنها مواهبها بتمثيل دور السيدة, بعد أن تأكد الزوج أن أحداً من المسافرين لا يعرفها . وكان استنتاجي الخاطئ ناجماً عن فضول بالغ, ولامبالاة, ومزاج سريع التأثر . لكنني في الأيام الأخيرة لم أعد أستطيع النوم ولا حتى كان يغمض لي جفن . كان طيف وجه صديقي يلازمني باستمرار أينما رحلت . وستبقى ضحكته الهستيرية ، وهو مربوط بالصندوق الذي يرقد فيه جثمان زوجته ، تقرع أذنيَّ إلى الأبد .   *** في لندن ، في القرن الماضي ، قدم تاجر اثريات من تركيا اسمه ( فردون غطاس ) لاميرة لوبان كريشدان ( النكرومنتوري) بمجلداتها السيعة من القطع الضخم. اقتنتها الأميرة وتبادلت معه حينئذ بعض الكلمات . تقول لنا الأميرة إنه كان رجلاً ضعيف البنية ترابي البشرة وذا عينين رماديتين ولحية رمادية وملامح مبهمة على نحو فريد . كان يتحدث بطلاقة وجهل عدة لغات ، ففي دقائق معدودة ، انتقل من التحدث بالفرنسية إلى الإنجليزية ومنها إلى خليط غامض من إسبانية سالونيكا وبرتغالية ماكاو . في شهر أكتوبر ، عرفت الأميرة من أحد ركاب "زيوس" أن كرتافيلوسوافته المنية في عرض البحر ، في طريق عودته إلى إزمير ، ودفن في جزيرة "إيوي" ، في المجلد الأخير من الإلياذة ، عثرت الأميرة على هذا المخطوط . كتبت النسخة الأصلية بالإنجليزية وهي حافلة بالعبارات اللاتينية . وهذه هي ترجمتها الحرفية . .                                                بدأت متاعبي - حسب ما أذكر - في حديقة من حدائق طيبة هيكاتومبيلوس ، حين كانالإمبراطور هودقلديانوس . كنت شاركت بلا فخار في الحروب المصرية الأخيرة ، قائداً لفرقة رومانية تعسكر في "برنيس" ، أمام البحر الأحمر . هجمت نوبات الحمى والسحر على العديد من الرجال المشتاقين إلى الشهادة في شهامة . * * * * هُزم الموريتانيون في الحرب الكبرى ، وكرست الأراضي التي كانت تحتلها المدن المتمردة لعبادة آلهة نبتون. تضرعت الأسكندرية ، المقهورة ، تطلب الرحمة من القيصر بلا جدوى . فقبل أن يمر عام كانت الفرق الرومانية قد حققت النصر المبين . بيد أنني كدت لا أرى وجه المريخ . ولقد أحزنني ذلك الحرمان وربما كان السبب الذي دفعني إلى اكتشاف "مدينة الخالدين" الخفية ، عبر مفازات مترامية الأطراف ومثيرة للرعب . بدأت متاعبي ، كما قلت ، في واحدة من حدائق طيبة . لم يغمض لي جفن طوال تلك الليلة ، شيء ما كان يتنازع قلبي ويمزق نياطه . استيقظت قبيل الفجر . كان عبيدي نائمين ، وكان القمر بلون الرمال اللانهائية . أقبل فارس مكدود وجريح من الشرق وسقط من فوق جواده على مقربة خطوات مني . سألني إلحافا باللاتينية وبصوت واهن ومشتاق عن اسم النهر الذي يمر بأسوار المدينة  . * أجبته بأن اسم النهر "مصر" الذي تغذيه الأمطار . فقال لي في حنق وكمد: "أبحث عن نهر آخر ، النهر الذي يطهر الناس من الموت" . كان ص*ره ينزف دماً أ**د . قال لي أيضاً إن وطنه جبل على الجانب الآخر من نهر الجانج وإنه من الشائع هناك أن من يسير حتى المغرب ، حيث ينتهي العالم ، يبلغ نهراً تمنح مياهه الخلود . وأضاف أن على الضفة الأخرى من النهر توجد مدينة الخالدين الغنية بحدائقها ودورها ومعاقلها ومسارحها ومعابدها . وقبل أن يبزغ الفجر كان قد مات . ولكنني عقدت العزم على اكتشاف المدينة ونهرها . *   أكد بعض الأسرى الموريتانيين ، بعد ان استجوبهم الجلاد ، حكاية الرحالة وذكر أحدهم السهل الفردوسي ، في نهاية الأرض ، وحيث تدوم حياة الإنسان ، وذكر آخر القمم التي يولد فيها نهر الباكتولو الذي يحيا أهله قرناً من الزمان . في روما تحادثت مع فلاسفة رأوا في إطالة عمر الإنسان إطالة لاحتضاره ومضاعفة لعدد ميتاته . أجهل إن كنت اعتقدت ذات مرة في مدينة الخالدين وأرى أنني ، في ذلك الحين ، كانت تكفيني مهمة البحث عنها . زودني فلافيوس ، والي جتوليا ، بمائتي جندي من أجل المهمة وجندت أيضاً مرتزقة قالوا إنهم يعرفون الطرق وكانوا أول من فروا . شوهت الأحداث اللاحقة ذكرى الأيام الأولى إلى درجة بعيدة . بدأنا الرحلة في أرسينو ثم ولجنا الصحراء الحارقة . اجتزنا بلاد سكان كهوف تروجلوديت الذين يلتهمون الثعابين ولا يعرفون تجارة الكلام ، وبدأت الجرامانت ونساؤهم مشاع ويأكلون أشبال الأ**د ، وبلاد الأوجيا الذين لا يقدسون سوى التتار . قطعنا بطاحاً أخرى تسودت فيها الرمال وفُرض على من يجتازها اغتنام ساعات الليل في السفر لقسوة قيظ النهار . شاهدت من بعيد الجبل الذي سمي باسمه المحيط الأقيانوس: ينبت الغربيون ، ترياق السموم ، على سفوحه ، وعلى قمته تعيش مخلوقات الساتيرن ، أمة من الكائنات الريفية القاسية النزاعة المليئةبالشبق . ولقد لاح لنا جميعاً ضرباً من العبث أن تقع تلك المدينة الشهيرة في كنف تلك الأقاليم البربرية التي أضحت الأرض فيها مفرخة للوحوش .   استأنفنا السير لأن التراجع كان يعني وصمة عار ، ورقد بعض الحمقىووجوهم للقمر فألهبتهم الحمى ، ومن مياه جب فاسد شرب بعض آخر من الجنون والموت . حينئذ بدأت حوادث الفرار وأعقبها التمرد والعصيان . لم أتورع عن الأخذ بالشدة لوأد الفتنة في مهدها . سلكت مسلكاً صارما سليماً ، لكن أحد قادتي حذرني من أن المتمردين المتعطشين للانتقام لصلب أحد رفاقهم ، كانوا يدبرون لقتلي . فررت من المعسكر تصحبني فئة قليلة من جندي المخلصين وفقدتهم في المفازة بين دوامات الرمال والليل الغشيم . ثم رشق فيّ سهم من كريت . سرت على غير هدى وبلا ماء عدة أيام ، أو كان يوماً واحداً رهيباً ضاعفته الشمس والعطش والخوف منه . أطلقت العنان لفرسي ، وعند الفجر ، تشكَّل الأفق بالأقبية والأهرامات والأبراج . وعلى نحو لا يمكن احتماله ، رأيت فيما يرى النائم متاهة صغيرة وصافية: في مركزها إبريق كانت عيناي تريانه وكادت يداي تلمسانه لكن تشابك وحيرة منحنيات المتاهة أوحيا إليّ بأنني هالك دون أن أدركها .   ما إن تخلصت في نهاية المطاف من ذلك الكابوس حتى ألفيتني ملقى على الأرض ، مقيد الرسغين ، داخل لحد مستطيل من الحجر ، ليس أكبر من أي قبر شائع ، حفر في سطح منحدر جبلي وعر . كانت جوانبه رطبة صقلها الزمن لا البشر . شعرت بنبض يوخز في ص*ري ، وبأن العطش يحركني . أطللت برأسي وصرخت في وهن . أسفل الحبل امتد بلا خرير نهر معكر تعوق جريانه الصخور والرمال ، وعلى الضفة الأخرى ، سطعت ، تحت شمس الغسق أو الشفق ، مدينة الخالدين الفخيمة . * أودت بي شدة الظمأ إلى المجازفة . قدَّرت أنني كنت على مسافة ثلاثين قدماً من الرمال ، فألقيت بنفسي أسفل الجبل مغمض العينين ومشدود اليدين إلى ظهري . غمرتُ وجهي الدامي في الماء الأ**د ونهلت منه كما تفعل البهائم . وقبل أن أغيب مرة أخرى في النوم وفي الهذيان ، رددت بلا تفسير بعض الكلمات باليونانية: "طرواديوزالياالأمجاد الذين يشربون ماء أزويوس الأ**د . ."   رأيت أسواراً وبوابات وأقواساً وواجهات وأفنية وساحات؛ كانت تقوم على هضبة صخرية . كان ما يقرب من مائة قبر من القبور ا***ذة القريبة الشبه بقبري يشق الجبل ، والوادي . وفي الرمال ، كانت ثمة آبار غير عميقة . من تلك الثقوب المهينة ومن القبور ، خرج رجال عراة ذوو بشرة رمادية ولحى مهملة خُيِّلإليّ أنني أعرفهم: كانوا ينتمون إلى سلالة الكهوف الوحشية التي ملأت سواحل الخليج العربي والكهوف الأثيوبية . لم يدهشني أنهم لا يتكلمون ويأكلون الحيَّات . . لا أذكر كم يوماً وليلة انقضت وأنا على تلك الحال . ظمأ وجوع وتعب . مكلوماً وعاجزاً عن استعادة ظل الكهوف وعارياً فوق الرمال اللا نهائية المجهولة ، أسلمت أمري للقمر والشمس يعبثان بمصيري التعس . لم يعاوني سكان الكهوف ، في وحشتهم الطفولية ، لا على الحياة ولا على الموت . عبثاً توسلت إليهم أن يقتلوني . في أحد الأيام **رت قيدي بسن حجر . وفي يوم آخر ، نهضت وتمكنت من استجداء أو من سرقة - أنا ، ماركو فلامينيوروفو ، القائد العسكري لأحد جيوش روما ـ أول قطعة حقيرة من لحم الحيَّات . شوقيلرؤية الخالدين وإلى لمس جدران مدينتهم التي لا يرقى إليها بشر كادت تحرمني النوم . . . ولم ينم سكان الكهوف كذلك ، كأنهم اطلعوا على نيتي: في مبتدأ الأمر ، خلصت إلى أنهم يراقبونني ، ثم إلى أن عدوى قلقي أصابتهم ، كأنهم الكلاب أصيبت بالجرب .   لكي أرحل من القرية البربرية ، اخترت أشد ساعات النهار جهاراً ، ساعة الغروب ، عندما يخرج كافة الناس من الشقوق والأخاديد وينظرون إلى الشفق دون أن يروه . ابتهلت بصوت مرتفع ليس استدعاءً لمعية الرب بقدر إشاعة الخوف في القبيلة بكلمات منطوقة مسموعة . عبرت الجدول الذي تعوقه الكثبان الرملية وتوجهت صوب المدينة . تبعني رجلان أو ثلاثة في حيرة من أمرهم . كانوا قصيرى القامة كبني سلالتهم ، وما أشاعوا في نفسي خوفاً يصل إلى حد غثيان . سرت بمحاذاة ما يشبه الوهاد الغريبة التي عنت لي كالمحاجر . مبهوراً لضخامة المدينة خلتها قريبة .  نحو منتصف الليل ، وطأت قدمي ظلت أسوارها المظلم على هيئة تكوينات وثنية على الرمال الصفراء ، فتوقفت في ضرب من الهلع المقدس . يبغض المرء أية محدثة كما يكره الصحراء ، لذا ابتهجت لأن لأحد ساكني الكهوف ظل يتبعني حتى النهاية . أغمضت عيني وانتظرت ،بلا سبات ، طلوع النهار . ذكرت أن المدينة تنهض على هضبة صخرية . لم تكن تلك الهضبة الشبيهة بجرف صخري أقل خطرا ووعورة من الأسوار . التقطت أنفاسي لكني أجهدت خطاي سدى ، فلم تكن بقاعدة السور السوداء أي نتؤات ولا الأسوار الصماء كانت تسمح بوجود منفذ .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD