خواطر احزان المدينة

1227 Words
استفاقت من نومها، ومن تلقاء نفسها، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط. كانت جميلة ناعمة مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج لسنوات طويلة؛ كذلك هي لم تفعل. فقط خلعت قناعها، فتحت عيناها المُشعّتين، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة، وضعت البطانية جانبا، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة، ثمّ لبست سترتها ذات الفراء. تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية خالصة، وغادرت من غير كلمة وداع واحدة، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية. الضْجر من حياة الريف؟ يعود الجميع إلى المدينة.. المَلك والمَلكة.. وكل الأميرات الصغيرات.. في خلفية السيارة.. جلبة وأغنيات.. أنا وأنت وهو وهي.. هناك حيث لا أحد يعرف المستقبل.. من يمكنه التنبؤ؟ حتى النباتات لا تعرف.. لكن الأميرات سيعشن رغم كل شئ.. اليوم تعيس بما يكفي.. وخارج نافذة السيارة، تنسحب المراعي والأبقار في خفة.. كل شئ يذهب إلى الوراء في هدوء.. لكن الهدوء ليس هو الحقيقة.. اليأس هو الحقيقة.. هذا ما يعرفه الملك والملكة.. كل الأمل قد راح.. لو أننا أردنا أن نجده مرة أخرى؟ علينا أن نعود إلى حيث فقدناه. في بعض الأحيان، مع بداية الربيع، بالكاد تصِلُني الشَّمس. أراها ترتفع من بعيد. ثم تنمو الأوراق عليها حتى تُغَطّي كل شيء. تتسلل أشعة الشمس بين الأوراق، تترنّح كمن يضرب كوبًا بملعقة معدنية. هذه حياتك عندما يكون لد*ك قلب كالصخر. مثلي: في الظل، تزْحَفُ على كتلة الحجر الجامدة، تحت تيجان هائلة لشجرة صحراوية. لا يحتاج الجميع إلى الضوء بنفس القدر بعضنا يصنعُ ضوءَه الخاص: ورقة فضية كطريق لا يستطيع أحدٌ أن يسلكه، بُحيرَة فضية ضَحْلة تحت ظلام الشجرة. لكن هذا أنت تعرفه مُسْبَقا. أنت ومن يُفَكِّر الذين يعيشون من أجل الحقيقة، وبالتالي، إنهم يحِبّون كل ما هو بارد جامد كالصخر. *** على رصيف الخامسة عصرا الخالي، نظيف جاف ومقبض، مترو أنفاق المدينة أول الشتاء في يوم عطلة، كأنه جوف ماسورة مسدس عملاق من البورسلين، رائحة الكهرباء الميتة كذكرى لبرق يوم أغبر بارد تفعم المكان وتختفي في الحفرة المظلمة بنهاية النفق. على هذا الرصيف وقف ثلاثة أشخاص بخلاف الشاب. فتاة ملونة زاهية الملابس، بلوزة وردية وتنورة بيضاء قصيرة، حذاء أبيض عالي الكعب تحت جوارب سوداء طويلة، كهل في حلة رماية وحقيبة أوراق وحذاء مترب، ز**ي في بدلة شاحبة بدت تحت النيون بدرجة مزرقة مضيئة كأنه رجل في نيجاتيف كاميرا. الشاب في معطف المطر، شعره أ**د مزيت، عيونه زرقاء محددة برموش سوداء قصيرة، جلد أحمر خام خارج توا من ساونا أو صالة ديسكو. نظر الشاب نحو الأشخاص الثلاثة، الرجلان بائسان نواياهما بريئة، فثبت نظره على الفتاة. "فتاة عاملة" تمتم لنفسه "تتجه غربا لتلحق بالوظيفة مبكرا." ثم رأى حقيبة المكياج المربعة. "ستربتيز" صحح لنفسه. من نقطة بعيدة في بطن النفق جاء العواء المزمجر الأول للقطار. عيناه مثبتتان على الفتاة. شعر بشكل ما أنه مسيطر على الوضع -إنها محمية بثياب الشارع وسرعان ما سوف تكون عارية على الملأ. زادت إثارته. في جيب معطفه قبض على شيء، وجهَّزه. ابتعد الرجلان الآخران عن حافة الرصيف. خطف نظرة سريعة من فوق كتفه عبر الفراغ العملاق نحو الرصيف الآخر يرى ما إذا كان البر خالياً. في بعض الأحيان لا يصعد كافة الركاب على السلم، أحياناً تفوت بعضهم المحطة فيعبرون الجهة الأخرى لأخذ القطار المقابل عائدين لكنه الآن خالي، ولا قطار. ومع ذلك ربما يأتي قطار الأن؟  *** عندما استيقظتُ كنتُ في غابَة. بَدا وكأَّنَ ساد السواد، السَّماءُ بين كَثيفَة الأضْواء. لمْ أَعرِف شَيئا. فقَط يُمكنُني أن أرى. وعِنْدَ النَّظّر إلى كُلِّ الأنوار في قبة السّماء توحدت انصهرت ذابَتْ في شيء واحِد، نار، تشتعِلُ في أشجار الصَّنَوْبَر البارِدَة. هل هناك أرواحٌ تطلبُ عزرائيل؟ أعتقِدُ أَنِّي إذا واصلتُ الثرثرة سأجيبُ على السُّؤال، أَرى هذا الّذي يَرَونَه، سُلَّم يَصِلُ إلى شَجَرِ الصَّنَوْبَر ، ذلك ما يَحُثُّهُم على استِبْدال حَيَواتِهم. بأي حياة أخرى بأي شيء آخر. *** كلمني أيها القلب العليل: لماذا تخترع المهمات السخيفة؟ تنتحب في الجراج المعتم في كيس قمامة! إنها ليست مهنتك، أن تأخذ معك كيس القمامة. مهنتك هي أن تفرغ غسالة الأطباق. ها أنت تزهو من جديد. بالضبط كما كنت تفعل في صباك.. أين حماسك الرياضي؟ أين عنفوانك الساخر؟ ضوء القمر الشاحب يضرب النافذة الم**ورة. قمر صيفي هزيل يهمس من جوف الأرض لحن عزب ولا تجيبين زوجك عندما ينادي، أم هي طريقة القلب التي يتصرف بها عندما يحزن.. يبقي وحيداً مع كيس القمامة؟ لو كنت مكانك لنظرت للأمام. بعد خمسة عشر عاما، صوته قد وهن. ذات ليلة إذا لم تجيبي، فسوف تجيبه امرأة أخرى. وكيف يمضي الوقت؟ نمشي في الحديقة الأمامية، نتظاهر بأننا نداعب العشب، فوق الركبتين، نسحب كتل البرسيم من أحواض الزهر. في الواقع نبحث عن الشجاعة، عن دليل. الحياة، حياتنا، سوف تتغير، مع أنها مستمرة إلى أبد الآبدين. كل هذا من أجل ورقة نبات رمزية.. وسرعان ما سوف ينتهي الصيف.. تموت الأشجار.. تتحول إلى كتلة صفراء فاقع لونها.. بينما تعزف الطيور السوداء لحن التجوال.. تريد أن ترى يدي؟ خاوية بيضاء من غير سوء عند أول إنذار. أم أن القصة كانت دائما.. هي الاستمرار بلا أثر؟   *** أغلقت فم الرجل بيدها : " اسكت اسكت  ، فأل الله ولا فألك ! " كانت تعرف أن بعدها " خشبة الإعدام " ولا تريد أن تتخيل ذلك  . التفت بعنق الرجل بلهفة وهي تشهق بالبكاء  . احتضن الرجل المرأة الملتفة بعنقه  ، وضغطها على ص*ره بقوة  ، فطقطق عظامها  ، امتنت المرأة بل وارتاحت لذلك  . إنها تحب هذا الرجل  ، تحبه كما لم تحب أي رجل آخر  ، حتى زوجها  .   كانت المشاعر والأحاسيس نفسها تعتمل في داخل الرجل  . قال في نفسه : - " أحبها ! "  ، وبدلاً من فراقها في أحد الأيام  ، ليته ينفذ ما تحدثوا عنه مرات ومرات  ، فيأخذها هي وابنها  ، بعد منتصف إحدى الليالي  ، ويعبر بهما إلى الطرف الآخر من الجبل ! أشبع المرأة قُبلاً  . فقالت : " روحي  . " كانت لحية الرجل قد طالت  ، لكنها كانت تستمتع بحك وجهها بهذه اللحية الخشنة  ، وتحس بقربه منها أكثر وأكثر  . قال الرجل " إذا فقدتني يوماً  .  .  . " - " أموت  . " - " الحكمة في عدم الموت  ، في الحياة ! " - " أعرف  ، ولكن يبدو لي أنني أموت ! " - " لا تدعيه يبدو كذلك  ، الموت سهل  ، الحياة صعبة  ، وعلى ابن آدم أن يتمسك بالصعب  ، وأن لا يستسلم بسهولة  . لماذا قتلتُ عثمان ؟ كانت الأمور بالنسبة لي طبيعية  . أنا قتلته من أجل أبناء قريتي المظلومين  ، من أجل مصلحتهم  . ولهذا السبب أيضاً حرَّضت على إحراق المزرعة ! " - " ما أحلى كلامك  . " - " لكني أدرك الآن أن الأمور لا تحل بالحرق والهدم والقتل  . هذه أعمال عجيبة جداً  ، إني أدرك ذلك الآن  ، كان في قريتنا رجل يدعى الأسطى ( محسن )  ، هو سائق جرار  ، لكنه كان يحسن مختلف الأعمال  ، إذا نظرت إليه فإن شكله لا يملأ العين لكنه يتكلم مثل كتاب  ، هو هكذا قال  .  .  .  .  . " - " ماذا قال ؟ " - " قال لي الضرب والقتل والحرق والهدم لا يحل أي مشكلة  ، فأقلع عن أفكارك هذه  . لكني لم أسمع نصيحته  . لقد كان الرجل على حق  . " - "  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  . ! " - "  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  .  . ؟ "
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD