ومن خلال شهوته للحم المحترق المقرمش سمع صوت أمه المرتجف لكنه لم يشعر بارتجافه ، وبلمحة عثر على خرقة المائدة ، فمدَّها أمام الأريكة . وبقطعة من الخبز انقض على اللحم المحترق . كان اللحم محترقاً لكنه يقرمش بين أسنانه ، وكان يحب جداً اللحم هكذا ، وعندما يذهبون إلى المدينة البعيدة ، البعيدة جداً ، حيث ستصبح لديه دراجة بثلاث عجلات ، سوف يجعل أباه يشتري له اللحم ، وسوف يطلب طبخه هكذا وسوف يأكله ويقرمشه هكذا . عندما يأكل الطفل لحماً كثيراً يكبر بسرعة ، وعندما يكبر بسرعة يصبح رجلاً كاملاً ، وعندما يصبح رجلاً كاملاً لا يخاف من أحد ، وعندما لا يخاف من أحد يستطيع أن يضرب من يشاء ، وعندما يضرب من يشاء يصبح لديه مال كثير ، وعندما يصبح لديه مال كثير . . . .
استمر شريط الخيالات هذا إلى أن صعد أبوه وأمه بشعريهما المبللين . وكانا يبدوان متعبين جداً .
***
استلقى الرجل على الأريكة : " أوه ! "
نظرت إليه المرأة بحدة وقد طار صوابها . أما الرجل فلم يرها .
أشبع الطفل بطنه تماماً : " ماما ! "
ردَّت المرأة المتعبة : " نعم ؟ "
- " لا تغسليني ، ألا يمكن ؟ "
لم يكن في نيتها غسله ، مع ذلك قالت لكي لا يشك : " لا يمكن ، كيف يمكن عدم غسلك يا روحي ؟ إنك متسخ ! "
- " لا لست كذلك ! "
ما أسوأ هذا ، هل هذه المرأة أمه ، أم أنها ( زينب ) المخبولة ؟
- " منذ كم يوماً اغتسلت ، ليس البارحة ، قبل البارحة . "
سكتت المرأة ولم تجب .
أما الطفل فأردف : " لن تغسليني أليس كذلك ؟ ماما ؟ ألن تغسليني ؟ "
- " مادمت لا ترغب بذلك ، فامسح يد*ك وفمك ونم ! "
غلب النعاس الطفل تماماً ، فمسح يديه وفمه ، وتكوَّم على الأريكة .
أحضرت المرأة خرقة المائدة ، ومدَّتها من جديد ، ووضعت فوقها الخبز والماء والكاسات والشوكات والملاعق . . .
تربَّعا متقابلين حول المائدة ، فقال الرجل : " أحبُ البامياء كثيراً . "
لمست المرأة شعرها المبلل بيدها وقالت : " وأنا كم تحبني ؟ "
- " لا أحبك أبداً . "
- " أنا ، لا تحبني ؟ "
- " طبعاً أنت . "
- " أنا ؟ "
- " نعم أنت . "
- " وأنا أزعل ! "
- " ازعلي . "
نظرت إليه بقسوة نظرات جادة : " أزعل ؟ "
قال الرجل متقصداً العناد :
- " إن زعلت فازعلي . "
انزعجت المرأة ، وانسحبت من المائدة .
فمال الرجل عليها وأمسك برسغها :
- " مجنونة ! "
- " لماذا ؟ "
- " ألا تعرفين إن كنت أحبك أو لا أحبك ؟ "
- " المعرفة وحدها لا تكفي ! "
- " ماذا إذن ؟ "
- " قل أحبك ، قل أحبك كثيراً ، قل لم أحب حتى الآن امرأة كما أحببتكِ ! "
- " لا أستطيع قول ذلك . "
- " لماذا ؟ لو كنت تحبني لقلت ، الرجل المحب يصبح كرواناً . أنت لا تحبني ، أنت فقط تشبع رغبتك بي . "
- " وأنت هل تحبينني ؟ "
هزَّت كتفيها :
- " لا أعرف . "
- " أرأيت ؟ ألا يجب أن تكوني أنت أيضاً مثل الكروان ؟ "
***
نظر بطرف عينه إلى الطفل الممدد على الأريكة :
- " لقد غفا ! "
أجفلت المرأة :
- " ماذا يعني ؟ "
- " لا شيء ، يعني . . . "
- " لقد اغتسلنا للتو ، كل ، هيا كل ! "
- " إني آكل ، ولكن . . . "
- " ولكن ؟ ألأنها محترقة ؟ ليتك انتبهت وما حرقتها ، وهل الذنب ذنبي ؟ "
- " دعينا من الذنب الآن ، إني أشتهي أن آكلك ! "
نظرت بطرف عينها إلى يدي الرجل ، وفكرت كم من النساء أمسكت بهن هاتان اليدان القويتان وهصرتاهن وطقطقتا عظامهن كما هصرتاها وطقطقتا عظامها ! دبت في داخلها غيرة أنثوية . لم تكن بقية النساء ذوات أهمية ، ولكن زوجته ؟ . . سألته : " هل كانت زوجتك جميلة ؟ "
نظر إليها : " وزوجك ؟ "
- " لا شأن لك بزوجي ! "
- " وأنت لا شأن لك بزوجتي . . . "
***
مرت فترة صمت .
كان الطفل المستلقي على الأريكة قد أدار ظهره لهما ، وسحب رجليه وألصقهما ببطنه مثل علامة استفهام كبيرة . وتخيَّل نفسه ممتطياً دراجته ذات العجلات الثلاث في زقاق صغير لا يعرفه في المدينة الكبيرة في البعيد البعيد . هناك سوف يضرب الزمور كثيراً ، حيث لن يكون هناك علي ابن شريفة ، ولا أولاد يعيرونه بين الحين والحين بعدم وجود أب له ، ويسبون ويشتمون وهم يرمون بيته بالحجارة . هناك هو أيضاً سوف يكون طفلاً صاحب دراجة بثلاث عجلات ، مثل أي طفل آخر صاحب دراجة بثلاث عجلات ، وسرعان ما غط في نوم عميق .
وبعد كم من الوقت ، تفقدته المرأة ، ولما رأت نومه الهادئ عادت إلى الرجل مسرورة :
- " تعال ، تعال إكراماً لله وانظر إلى هذا النوم الهادئ ! "
وبلا رغبة ذهب الرجل إليها ، وأحاط خصرها بذراعه .
قالت المرأة مجفلة :
- " كن عاقلاً ! "
- " ماذا حدث ؟ "
- " اسحب يدك ! "
لم يجبها ، ولم ينظر إلى الطفل . غسل يديه وفمه بالماء والصابون في طست بجانب الغرفة ، وفيما كان يجفف يديه وفمه بمنديله ، اتجه بهدوء وصعد السلم . وألقى بنفسه على فراشه .
راقبت المرأة الرجل وهي بجانب طفلها ، هل غضب يا ترى ؟ لماذا ؟ هل لأنها قالت له : " اسحب يدك ! " ، وما الذي يغضبه في هذا ؟ ألم تعاشره معاشرة الأزواج ، وليس بينهما عقد زواج ، وليس هو بزوجها رسمياً بعد ؟ انزعجت .
لكنه مليء دماً وحيوية وحرارة ورغبة ، نعم إنه شاب قوي . ولقد استمتعت معه ، ولكن لكل شيء حد . التصقت بابنها .
دب في نفسها شعور بالانزعاج لأنها أغضبته ، لو لم يستمتع لما مدَّ الرجل يده ، وبما أنه استمتع . . . ثم ماذا سيحدث ؟ . . مرة ، أو مرتان ، أو ثلاث مرات ، بالزائد بالناقص ما الفرق ؟
نظرت إلى ابنها من جديد . ثم ، اتجهت إلى السُّلَّم ، وصعدته في لحظة .
***
التأم جرح ( حبيب ) ، وتكوّنت فوقه قشرة بنية من الدم الجاف ، سقطت أثناء الحك ، وبدا مكانها وردياً .
سألته بعد أن قبَّلت الموضع الوردي مرات لا يعرف أحد عددها :
- " وإذا ما بادروا فعلاً إلى مداهمة البيوت وتفتيشها ؟ "
لم يكن يرغب في فتح هذا الحديث ، إذ كان يعرف أنه إذا ما بوشر بتفتيش البيوت ، فسيأتي الدور على بيت ( سارا ) ، وعندها سوف يكتشفون وجوده ، فتوضع القيود في يديه ، وربما يساق بين دركيين ويرمى في سيارة جيب عسكرية ويؤخذ إلى ( أضنه ) . وبعدها ؟ بعدها المحكمة ، والمحاكمة ، ثم خشبة الإعدام في صبيحة أحد الأيام !
- " إذا ما بادروا إلى تفتيش البيوت فسوف يعثرون علي ويأخذونني . "
سألته رغم أنها كانت تعرف جيداً : " إلى أين ؟ "
- " إلى السجن ، والمحكمة والمحاكمة ، وبعدها . . . " ***