الحب بلا طائل

1794 Words
خفتت الأضواء ليعرضوا على الشاشة فيلم لم يكن لينتبـه إليه أحد، و كنّا ولا أحد شريكنا في ظلمة هذا العالم. لقد ولّت عاصفة القرن وكان ليل الأطلسي صافيا خرافيا، وكانت الطائرة تبدو جاثمة كجثة محنّطة بين النجوم. انتهزت الفرصة كي أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر، ولم أكن ألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتها عبور ندف السحاب فوق جدول رائق. كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا تُرى نظرا في غياهب لون بشرتها الذهبي. لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين، وأظافرها الوردية تع** أمارات صحة لا باس بها. وكان يُزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أو ارتباط آني لا يعني الكثير عندها. ورحت على وقع تأثير الشمبانيا أردّد في سرّي مآثر جيراردو دييجو الخالدة عن المرأة والحب والجمال. خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها، وألقيت بجسمي عليه، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية في شهر العسل. إلى رحلة الأندلس وبلاد الأندلس ومجدها الغابر... ***   كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا، على صورتها ومثالها، لم يكن سوى عطر جمالها الفتَّان. لقد كان شيئا مدهشا حقا. لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة بديعة للكاتب ياسوناري كاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابل قضاء ليلة في التف*ج على أجمل فتيات المدينة وهنّ م**رات ومستلقيات عرايا كما ولدتهن أمهاتهن على نفس السرير، يتعذبون من نار الشوق وحرقة الشغف وعذاب الحب بلا طائل ولا يستطيعون إيقاظهن أو لمسهن، بل ولا يجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم في الأساس هو رؤية الفتيات العاريات وهنّ نائمات. في تلك الليلة، وأنا أراقب الجمال النائم، لم أصل فقط إلى إدراك معنى التألُّم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارته إلى أبعد مدى؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت حواسي بفعل الشمبانيا: "ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر". *** أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشمبانيا وتفجيرات الفيلم الصامتة؛ وعندما استيقظت كانت رأسي تؤلمني بشدّة. ذهبت إلى الحمّام، وألفيت المرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة. كانت نظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق، وللحظة، انتابني شعور عدواني ممتع ألا التقطها. ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائدة في دمي، حتى رحت أتأمّل نفسي في المرآة، فوجدتني قبيح المنظر كالشيطان وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذه الدرجة. فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابق الأجواء بكامل سرعتها إلى الأمام. ظهرت فجأة إشارة: "التزموا أماكنكم"، فأسرعت إلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الاضطراب، لعلّه يلجأ إلى حضني ليحتمي به ويدفن فيه هلعه وارتعابه. وأثناء حركتي الخاطفة، كدت أن أدوس على نظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت في الواقع؛ بيد أنّني غيَّرت موضع قدمي في آخر لحظة، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعد ذي الرقم أربعة. ***   قال القزويني: "ومن عجائب الدنيا أمران: أحدهما المملكة الإسلامية بالأندلس مع إحاطة الفرنج من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من المسلمين، والآخر المملكة النصرانية بساحل الشام مع إحاطة المسلمين من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من الفرنج." أما العجيبة الأولى فقد جعلت من تفرد المجتمع الأندلسي بالخليط المتداخل من عديد أجناس معجزة فنية جمالية في إطار من الزخارف العربية تواضعت إلى جانبها همجية الأجناس الأخرى التي ظنت أن سر استقامة حياة العرب يعود إل عنايتهم بلغتهم أكثر من أي مظهر أخر، وفي رسالة كتبها ألبرتو القرطبي يشكو فيها ولع النصارى في الأندلس بالأدب العربي جاء : "فلا تكاد تجد بين الألف منهم واحدا يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتابا سليما من الخطأ، فأما عن الكتابة في لغة العرب، فإنك واجد فيهم عددا عظيما يجيدونها في أسلوب منمق". واتصال العرب بالنصارى في الأندلس جعلهم أكثر وعيا بوضعيتهم كنموذج لكافة المسلمين فحاولوا الخروج عن المألوف من عادات الشرق التي نُسبت بالخطأ إلى فروض الإسلام، فتركوا العمائم في شرق الأندلس ولبسوا الأبيض في المآتم، قال شاعرهم: ألا يا أهل الأندلس فطنتم       بلطفكم إلى أمر عجيب لبستم في مأتمكم بياضا         ظهرتم منه في زي غريب صدقتم فالبياض لباس حزن      ولا حزن أشد من المشيب (المقتبس من أبناء أهل الأندلس لأبي مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور محمود على مكي، دار الكتاب العربي ببيروت، (1393 هـ)) ثمة نزعة لبلورة الشخصية الأندلسية والاستقلال عن المشرق، فقال الشقندي: "لو وزع شعراء ووشاحو وزجالو أشبيلية وحدها لغطوا بر العدوة! " وكتب (الحميري) في مقدمة كتابه (البديع في وصف الربيع): "وأما أشعار أهل المشرق فقد كثر الوقوف عليها، والنظر إليها حتى ما تميل نحوها النفوس، ولا يروق منها العلق النفيس، مع أني أستغني عنها، ولا أحوج إليها بما أذكره للأندلسيين من النشر المبتدع والنظم المخترع." ووضع ابن عبد ربه كتابه المعروف (العقد) يخاطب فيه المشارقة يُعرِّفهم بأدب الأندلس وأخبار أهله وأثارهم، ومن جهة أخرى يُلطِّف الأجواء بين أدباء الأندلس في شعورهم بالانفصال والحاجة إلى الاستقلال التام، فعمد إلى ذكر أخبار الأقدمين من المشارقة جنبا إلى جنب مع المحدثين من الأندلس، فقال: "وقرنت به غرائب من شعرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته، وبلدنا على انقطاعه حظ من المنظوم والمنثور". بل لا يخلو شعر ابن حربون من أصناف الشعر الموحدي الفخور بالأنساب العربية القديمة ومما قال: إذا ما أردت العيش في عرصاتهم     دنوت فصافحت العلا والمكارما هم قيس عيلان الذين تلبسوا          بخلع الملوك الساقيات القوائما فما منهم إلا على الهول مقدم     كذاك عظيم القوم يخشى العظائما وابن حربون تحيط به هالة من الغموض جديرة بالدراسة والتمعن في شخص (الشاعر الأندلسي الحائر) الباحث عن الذات وعن الهوية، حتى اسمه (حربون)على وزن (فعلون) من باب التصغير وتقليل الشأن، لكن الإسبانية تزيد الواو للتعظيم! لكن المصادر وإن لم توثق بداياته فقد دوّنت شعره وكتاباته، فبقى من شعره ما بقى أما كتاباته فقد اختفت ولم يعثر لها على أثر، والمؤكد أنه عاصر الثورة التي اشتعلت في جنوب البلاد ضد المرابطين وعايش حكم دولة الموحدين وكان يتمتع عندهم بسمعة طيبة قال عنها الرصافي البلنسي: هذي مساعي ابن حربون وكيف  بها  فبارها شرفا أو سار فهل نسائم مسك تنثرون معي    أم تقطفون معي أكمام أزهار من المسموح به إذن، حسب رأي هوسرل، إن كنا نحب المفارقات، بشرط أن نفهم كما يجب الدلالة الغامضة لهذه الجملة، أن نقول بحق إن الخيال هو العنصر الحيوي للظاهراتية شأنها شأن كل الأمور الجوهرانية. وليس من شك أن النزعة الثنائية الدوغمائية للواقعي واللا واقعي التي استحكمت على أرض الأندلس، ستجعل من يتناول الآثار المكتوبة وما تحمله من وعي خيالي طموح، يقلل من شأن وأهمية هذا النشاط التحليلي بسبب الفقر الجوهري لعناصر هذا الأخير، "إن ما يظهر للوعي المتخيل ليس مشابها أبدا لما نراه في الإدراك. فالمادة تضعف في تحولها من وظيفة إلى أخرى لأني أسقط الكثير من الخصائص. إذ أن ما يشكل – في الأخير – الأساس الحدسي لصورتي لن يشكل أبداً الأساس الحدسي للإدراك. ويظهر من الآن في مادة الصورة ضعفا جوهريا". (يوسف الإدريسي، الخيال والمتخيل في الفلسفة والنقد الحديثين، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2005). لقد شكلت التداخلات المفهوماتية بين النصارى والمسلمين في الأندلس على مستوى، وبين العالم والمتعلم من هذا الفريق وذاك الفريق على مستوى أخر، وما خلقته هذه الرحلة من ضبط هندسي للمعمار العربي الجمالي وأناقة حيادية نظيفة للفكر الهمجي الغربي، عجلت بظهور تيارات وليدة في الفن والفلسفة والأدب تشي بتفجير قيم معرفية وفنية جديدة كالحلم، لولا النهاية المعروفة. إن نزعة (الأندلسية) وبالرغم من القلاقل التي عاشتها البلاد لا سيما بعد زوال دولة بني أمية قد كانت ذات أثر فاعل في بلورة الطابع الذي ينتمي للبلاد الأندلسية، زاد في اشتعالها محاولة الشخصية الأندلسية الاستقلال عن المشارقة "ولهذا نجد أنها قد حاولت الظهور بشئ يميزها، ظهر ذلك فيما أحدثه من فن جديد (الموشح) ومحاولتها الاستقلال: في أمثالها وفي طبيعة لهجتها ولغتها". (تاريخ النقد الأدبي في الأندلس، الدكتور محمد رضوان الداية، مؤسسة الرسالة ببيروت، الطبعة الثانية، 1401 هـ). غلب المواطن العربي نظيره من البربر واليهود والصقالبة والنصارى بقوة ما يحمله من دين وعلم وسلوك أخلاقي وديني ظاهر في السلوك اليومي، فكان البربري يتعجب عندما يرى المسلم لا يكون عنده إلا قوت يومه، فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه كي لا يظهر بمظهر غير لائق، وما كانت في أخلاقهم العصبية القبلية التي عند المشارقة لدرجة أن الانتماء لفكرة الوطن جعل بعض المسلمين يعملون ضمن جيوش الممالك النصرانية بالتبادل، فقد استعانت جيوش المسلمين بالسيد القبنيطور وهو (رودريجو دياف بيبار) وكان يخدم معه مسلمين كثيرين. "ولأن الأندلس قد ارتبطت بخصوصيات مكانية وسياسية واجتماعية، فإن الواقع يفرض عليها أن تبحث عن أدب يعبر عن شخصيتها القومية المميزة، وهذا في الواقع دفع المفكر الأندلسي للتفكير في إيجاد مثل هذا النوع من الأدب الذي أطلقنا عليه (الأدب الإقليمي)، على أنه ينبغي أن نعرف أن هذا النوع من الأدب وإن كان يعبر عن الواقع والحياة والناس في الأندلس، إلا أنه لم يفكر في يوم من الأيام بالانقلاب عن علاقته الجدلية بالثقافة العربية الإسلامية التي تمثل جذوره ومنطلقه الأساس، وإن حرص بعض الأندلسيين على انتسابهم إلى المكان ليس إلى العرق، ولا غرابة في ذلك، فالدين واللغة والتاريخ من العوامل الأساسية التي تربط البشر بعضهم ببعض مهما باعدت بينهم المسافات، وفرقت بينهم الرمال  والبحار والأهوية. " (الأدب الإقليمي في الأندلس، د. عبدالله بن على ثقفان، كتاب المجلة العربية، العدد 536، مايو 2021، المملكة العربية السعودية). لا عجب أننا، بعد كل هذه الأعوام، نشاهد مثلا نزعة الكتلان للاستقلال، تعيد كاتالونيا مشهد رغبة الأندلس قديما في امتلاك هوية خاصة بها، بمسلميها ومسيحييها، لا ترغب في مشاركة أسبانيا كتلتها السياسية أو قوتها الاقتصادية، ومازالت تحتفظ باسمها الموروث من العصر الوسيط وموقعها الوسط بين فرنسا وإسبانيا، تعاني بوضوح من أن إسبانيا لم تعترف أبداً بأنها دولة متعددة القوميات. ولا يشعر الكتالونيون بأنهم يتماهون مع الحكومة الإسبانية التي يسيطر عليها الآن حزب الشعب اليميني ما بعد الفاشي. وهناك أيضا الفرضية القائلة بأنه إذا كانت الحكومة تعمل على مستوى جغرافي أدنى، فإنها ستكون أكثر ديمقراطية! *** كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكر صفوه حركة الطائرة. وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الكاسحة في إيقاظها بافتعال أي عذر من أي نوع، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال آخر ساعة من الرحلة هو فقط رؤيتها يقظة، حتى ولو كانت غاضبة حانقة، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيد شبابي كذلك؛ غير أنّني لم أجد في نفسي الشجاعة الكافية لذلك، وقلت في باطني باحتقار شديد: "اذهب إلى الجحيم! لماذا لم أولد خروفا؟" ***   استفاقت من نومها، ومن تلقاء نفسها، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط. كانت جميلة ناعمة مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج لسنوات طويلة؛ كذلك هي لم تفعل. فقط خلعت قناعها، فتحت عيناها المُشعّتين، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة، وضعت البطانية جانبا، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة، ثمّ لبست سترتها ذات الفراء. تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية خالصة، وغادرت من غير كلمة وداع واحدة، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية.     ***
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD