قلب المعركة

1669 Words
لقد راق لها التزحلق وركوب الهاوية، ولكنها عندما ركبت على المزلجة، كما في المرتين السابقتين، كانت شاحبة مرتعدة الأوصال بالكاد تتنفس من فرط الهلع. وعندما تزحلقنا للمرة الثالثة، لاحظتُ أنها كانت تحدق في وجهي وتراقب شفتيّ. ولكنني وضعتُ منديلي على شفتي، وسعلتُ، وعندما وصلنا إلى منتصف التلة استطعتُ أن أهمس "أحبكِ يا ناديا". وبقت الأحجية كما هي. كانت (نادينكا) صامتة، تتفكر في شيءٍ ما. رافقتها إلى البيت، وحاولتْ أن تمشي ببطء، تخفف سرعتها وتنتظر ما إذا كنت سأقول لها تلك الكلمات أم لا، ولاحظتُ كيف أن روحها كانت تعاني، وكيف كانت تجتهد كي لا تقول لنفسها: "لا يمكن أن تكون الريح قد قالتها. ولا أريد أن تكون الريح هي التي قالتها". في الصباح التالي تركتْ لي رسالة جاء فيها: "إن كنت ذاهبًا للتزحلق اليوم، خذني معك. ن". ومنذئذٍ بدأتُ أذهب كل يومٍ للتزحلق مع (نادينكا)، وبينما نحن نطير بالمزلجة، كنتُ أقول في كل مرة بصوتٍ خفيض هامس ناعم نفس الكلمات: "أحبكِ يا ناديا." وسرعان ما اعتادت (نادينكا) على تلك العبارة وأدمنتها كالخمر المسكر أو الم**ر القوي الذي لا مهرب من أثره. لم تستطع العيش من دونها. نعم كان التزحلق فوق الربوة الثلجية يرعبها كما كان في السابق، ولكن الخوف والخطر أضفيا سحرًا غريبًا على كلمات الحب. تلك الكلمات كما كانت دومًا، لغزًا يحير النفس ويعذبها ب ***ة حرَّاقة. وبقيَ المشتبهان كما هما، أنا والريح. لم تكن تعرف أيا منا كان يمارس الحب معها، ولكنها بالتأكيد بدأت تفقد الاهتمام بذلك. ما دام الخمرُ مُعتقا مُسكرًا كلُ الكؤوسِ سواءُ. وحدث يومًا أن ذهبتُ إلى ساحة التزلج وحيدًا، وبينما أنا بين الجموعِ رأيتُ (نادينكا) تصعد الربوة الثلجية وتبحث عني، ثم نزلتْ من على الدرجات في خفر وحياء. كانت تخافُ أن تذهب بمفردها. ياالله كم كانت تخاف! كانت بيضاء كالثلج، ترتعد، وكأنها تقود نفسها إلى مقصلتها. ولكنها ذهبت، ذهبت دون أن تنظر وراءها، بإصرار. من المؤكد أنها قررت وضع الأمر في محك الاختبار أخيرًا. هل كانت تلك الكلمات الجميلة ستُسمع من دون وجودي؟ رأيتها شاحبة، انف*جت شفتاها بفزع، وركبت على المزلجة، فأغمضتْ عينيها لتقول للأرضِ وداعًا إلى الأبد. تزحلقت.. لا أعرف ما إذا كانت (نادينكا) سمعت تلك الكلمات أم لا. رأيتها فقط تنهض من على المزلجة باهتة المنظر شديدة الإعياء. وكان من السهل الجزم بالنظر إلى وجهها أنها لم تكن متأكدة ما إذا سمعت شيئا أم لا. لقد حرمها فزعُها وهي تطير إلى الأسفل حاسة السمع، وتمييز الأصوات، وإدراك ماهية كل شيء. وجاء شهرُ مارس في النهاية، ومعه أتى الربيع بألوانه الزاهية. أظلمت ربوتنا الثلجية وفقدت بهاءها، وذابت. وهكذا توقَّفنا عن التزحلق. لم يكن هناك مكانٌ آخر تستطيع فيه المسكينة (نادينكا) سماع تلك الكلمات، وبالتأكيد لا شخص آخر يقولها، حيث لم تكن هناك ريح، وكنتُ أنا ذاهبا إلى (بطرسبورج) لمدة طويلة، وربما للأبد. وحدث قبل يومين من رحيلي أن كنتُ جالسًا عند الغروب في الحديقة الصغيرة التي يفصلها عن فناء منزل (نادينكا) سورٌ عالٍ عليه مسامير. كان الجوما يزال باردًا، وبعض الثلج ركامٌ هناك قرب كومة السماد، وبدت الأشجار ميتة، ولكن عبق الربيع كان منتشرًا، والغربان تنعق وهي تأوي إلى منامتها. صعدتُ على السور ووقفتُ هناك طويلا وأنا أختلس النظر من خلال فتحة. رأيتُ (نادينكا) تخرج إلى الفناء وتحدق في السماء بعينين ملؤهما الشوق والحسرة المؤلمة. كانت رياح الربيع تهب في وجهها الباهت الكئيب. ذكّرَتها بالريحِ التي كانت تهبّ علينا على الربوة الثلجية عندما سَمِعَتْ تلك الكلمات ، اكفهر وجهها بالوجع وصارت ملامحه حزينة لأقصى درجة، وانحدرت دمعة على وجنتها، ورفعت الطفلة المسكينة ذراعيها وكأنها تتوسل إلى الرياح أن تجلب لها تلك الكلمات مرة أخرى. وفي انتظار الرياح قلت بصوتٍ هامس: "أحبكِ يا ناديا". وجاء الف*ج. يا لذاكَ التغير الذي حدث لـ(نادينكا)! اغرورقت عيناها بالدموع، ثم ملأت وجهها ابتسامة عريضة، فبدت مرحة وسعيدة وجميلة، ورفعت ذراعيها لتستقبل الرياح. بينما عدتُ أدراجي لأحزم أمتعتي. كان هذا منذ زمنٍ بعيد. (نادينكا) الآن متزوجة. لقد تزوجت -ولا يهم ما إذا كان ذلك باختيارها أم لا- ولديها الآن ثلاثة أطفال. ولم تنسَ أننا ذهبنا ذات مرة للتزحلق، وأن الرياح حملت لها الكلمات "أحبكِ يا نادينكا". بالنسبة لها، كانت هذه هي أكثر اللحظات المؤثرة والجميلة في حياتها. ولكن الآن وأنا أكبر سنًا أعجز عن أفهم لماذا نطقتُ بتلك الكلمات، وماذا كان هدفي من تلك المزحة. *** سرعان ما تسمّر في مكانه مرة أخرى وقد استولت عليه أفكار سوداء وتملّكه خوف جديد . .فإلى أين يذهب؟ . . ولمن يسلم نفسه؟ . .وكيف؟ . . وفي أي جهة؟ . .وتلاحقت أمامه صور مريعة للموت! لو أنه قد غامر بمفرده فإن الأخطار ولابد تنتظره في كل مكان . . خاصة وأن خوذته المدببة فوق رأسه! ماذا يكون من أمره لو قابل بعض الفلاحين بالمصادفة؟ . . إنهم إذا ما رأوا بروسياً وحيداً فسوف يقتلونه ككلب . .ثم أنهم سوف يمزقونه بفئوسهم ومعاولهم ويحولونه إلى عجينة تماماً كما يفعل المقهور الذي بين يدي عدوه بلا حول ولا قوة! بل ربما قابله بعض القناصة . .وهؤلاء أيضاً لا يعرفون معنى الشفقة أو الرحمة . . وكذلك لا يتسمون بالعدالة . .وسوف يقتلونه! . . لا لشيء إلا على سبيل التسلية واللهو . . ورأى نفسه بعين الخيال واقفاً لصق جدار وقد سدرت إليه اثنتي عشرة فوهة من فوهات البنادق . . *** بل ماذا يحدث لي إذا التقى بالجيش الفرنسي ذاته؟! قد يحسبه رجال الطليعة كشافاً خرج وحده للاستكشاف وبالتالي يطلقون عليه النار! . . وعلى الفور خيل إليه أنه يسمع صوت طلقات النار . . طلقات قادمة من بنادق الجنود المختبئة حوله في الأحراش . .ورأى نفسه يسقط وسط الحقول وقد أخترق الرصاص كل مكان في جسده! . . *** جلس وقد أرهقه اليأس ، وبدا أنه لا مخرج له هنا . .وكان الليل قد أدلهم . . الليل الحالك السواد . .راح يرتجف كلما سمع أقل حركة من الحركات التي تقع في الظلام . .وجاء أرنب يتجسس فأحدث صوتاً! . . وعندها كان قلب ( رمزي شندي ) بين قدميه ! . . وأوشك على أن ينطلق هارباً لا يلوى على شيء ، وكادت صيحات البوم تأتي على البقية الباقية منه بعد أن أثارت في نفسه عظيم الفزع! . . وراح يحملق في الظلمات بعينيه . . كان يخيل له في كل لحظة أن هناك من يسير خلفه!! وبعد ساعات ليست بالقليلة . . وبعد عذاب لا يُحتمل رأى من خلال سقيفة الأغصان والفروع السماء وهي تضيء من جديد وتصفو . . وعندها داخله الارتياح وتراخت أطرافه فتنفس الصعداء وقد أحس بالأمان واطمأن قلبه وأسلم عينيه للرقاد . *** وعندما استيقظ كانت الشمس قد أوشكت أن تحتل وسط السماء ، فقد رأى الوقت هو الظهيرة . .ولم يكن هناك أي صوت يعكر هدوء الحقول . .وأحس ( رمزي شندي ) بجوع رهيب! تثاءب وقد سال الل**ب من بين شفتيه عندما فكر في السجق الرائع الذي يقدمونه للجنود! . .وتألم وهو يفكر في أمعائه المسكينة ! . .ونهض أخيراً . .وتقدم بضع خطوات . . *** أحس أن ساقيه ضعيفتين كأنهما قالبان من الهلام ، فكان أن جلس وراح يفكر . . ومرت به دقيقة أو دقيقتان تأمل فيها وضعه ودرسه دراسة شاملة وافية . .وفي كل لحظة كان يعُدِّل شيئاً في قراره وقد استبد به القهر . . وأخيراً . .لاحت أمامه في الأفق فكرة منطقية وعملية . .سوف يرتب مرور فلاح وحيد أعزل من السلاح و من أدوات العمل . . فيهرع إليه ويسلم نفسه! *** وعندما استقر عزمه على هذا القرار حسر خوذته المدببة عند رأسه حتى لا تفضحه . . ثم أخرج رأسه من الحفرة في حذر وحرص شديدين . .لم يكن هناك أي مخلوق . .لكنه رأى في نهاية طريق الأشجار قصراً شاهقاً عالي الأبراج . .وانتظر في مكمنه حتى هبط الليل وهو يتلوى من الجوع لا يرى غير الغربان والبوم ولا يسمع سوى أنين معدته! وأقبل عليه المساء . . تمدد في أعماق الحفرة ونام نوماً قلقاً مضطرباً محموماً تتخلله الأحلام المزعجة وتؤلمه بطنه الخاوية . . وطلع عليه الفجر للمرة الثانية هنا ، فوقف يراقب ما يحيط به . . ولكن المكان كان مقفراً كاليوم السابق واستبد به خوف لا حد له . .خوف من أن يموت جوعاً !! *** ورأى نفسه بعين الخيال طريحاً على ظهره في أغوار حفرته وهو مسبل العينين وقد دبت حوله الديدان والح*****ت . . وحشرات من كل نوع راحت تأكله من كل موضع دفعة واحدة ، متسللة تحت ثيابه لتعض لحمه البارد . . وغراب ضخم ينقر عينيه بمنقاره الرقيق! . .و عندئذ استولى عليه الجنون . . وتوقع أن يسقط مغشياً عليه من شدة الوهن . . وأنه لن يقو على السير مرة أخرى . . *** هم بأن يركض صوب القرية وقد استقر منه العزم على أن يخاطر بكل شيء ولكنه لم يلبث أن أبصر ثلاثة من الفلاحين يذهبون إلى حقولهم وفي أيديهم فئوسهم ومعاولهم فتراجع إلى مخبأه . .وأقبل عليه ظلام جديد! . . وهذه المرة تسلل من مخبأه وراح يتقدم نحو القصر المنيف . .مقوس الظهر وقلبه يدُق بعنف بين ضلوعِه من الخوف والهلع مؤثراً إياه على القرية التي بدت له شديدة الخطورة كوكر ملئ بالح*****ت الكاسرة . . وكانت نوافذ الدور الأرضي تسطع بالأضواء . . وإحداها مفتوحة على مصراعيها . .تنفذ منها إلى الخارج رائحة لحم مشوي دخلت خياشيمه وتسللت إلى أعماق معدته فجعلته يلهث ويتلوى وملأته جرأة تعلو على جرأة اليائس! . .وفجأة . .بدون أية مقدمات . .ومن غير تفكير ظهر بخوذته في إطار النافذة . . ثمانية من الخدم يأكلون حول مائدة كبيرة . . لمحته واحدة منهم فحدقت في وجهه بذهول ملتاع . . وسقط القدح من يدها . . وإلى حيث تنظر تحولت عيون الجميع . .ورأوا العدو! وانطلقت في بادئ الأمر صرخة واحدة: "يا إلهنا الرحيم ! . . البروسيون يهاجمون القصر!" *** صيحة فزع من الأفواه الثمانية دفعة واحدة . . ونظرة ذعر في عيون الجميع . . ثم تدافع الجميع راكضين نحو الباب . . سقطت المقاعد في ارتباك . . ومر الرجال فوق أجساد النساء . . وفي لمح البصر خلت الحجرة منهم جميعاً ، تاركين المائدة وما عليها من أصناف الطعام أمام عيني ( رمزي شندي ) المشدودة الواقف عند النافذة يطل برأسه منها! . . وبعد لحظة من التردد يتسلل من إطار النافذة ويتقدم نحو المائدة . . وكان الجوع قد جعله ينتفض كشخص مريض . . تسمر في مكانه وسكنت حركاته وأرهق أذنيه . .كان البيت كله كأنه يتأوه . .الأبواب تغلق . .الأقدام تركض مسرعة في كل اتجاه . .أصاخ البروسي السمع و قد استولى عليه الفزع . . واستمع إلى كل هذه الحركات العجيبة ثم لم يلبث أن سمع أصواتاً مكتومة كأن أجساداً تسقط فوق الأرض الرطبة خارج القصر . .أجساد بشرية تلقى بنفسها من الطابق الأول! . .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD