الرجل والحرب

1413 Words
قلتُ بصوتٍ هامس لا يناسب الموقف: "أحبكِ يا ناديا!" بدأت المزلجة تتباطأ في حركتها رويدا رويدا، وخَفتَ زعيق الريح وهدير الهواء، وبدأ التنفس يعود إلى معدله الطبيعي، وأخيرًا وصلنا إلى الأسفل. كانت (نادينا) شاحبة كالأشباح، ترتجف كورقة وهي أقرب للموت منها إلى الحياة. كانت عليلة لا تكاد تتنفس، فساعدتها على النهوض. قالت وهي تنظرُ إليّ بعينين ملؤهما الرعب: "لا شيء سيجعلني أكرر ذلك. لا شيء في هذا العالم كله. كدتُ أموت". بعد دقائق استعادت اتزانها ونظرت إليّ غير فاهمة، هل نطقتُ فعلا بتلك الكلمات الثلاث، أوأنها تخيلتْ ذلك في غمرة الهيجان الغاضب لتيار الريح؟ جلستُ بجانبها أدخّن وأنظر بإمعانٍ في قفازي. ثم أنها تأبطتْ ذراعي وقضينا وقتا طويلا نتمشى قرب الربوة الثلجية. من الواضح أن المعضلةالنفسية أرهقتها. هل سَمِعَتْ تلك الكلمات أم لا؟ نعم أم لا؟ نعم أم لا؟ كانت مسألة كبرياء أوشرف، مسألة حياة أو موت..كانت مسألة في غاية الأهمية، بل أهم مسألة في الكون كله. وطفقت (نادين) تنظرُ في وجهي بنفاد صبرٍ وغم نظرة حادة متشككة. كانت تجيبُ بعشوائية وبدون ترتيب، تنتظر ما إذا كنت سأتكلم أم لا. يا الله، يا لهذا اللعب بالمشاعر على هذا الوجه الجميل! لاحظتُ أنها كانت تخوض معركة عظيمة داخل نفسها، وأنها كانت تريد قول شيء ما، تريد أن تسأل سؤالا ما، ولكنها لم تجد التعبير المناسب. على أنها اعترفت في قرار نفسها أنها شَعَرَتْ بأن ال ***ة تبعث في أوصالها حَيرةً وفرقًا وارتباكًا. وقالت من دون أن تنظر إليّ: "عندي فكرة" فسألتها: "ما هي؟" وأجابت بلهجة عجيبة "هيا بنا..نتزحلق للأسفل مرة أخرى." عانينا في تسلق الربة الثلجية من الدرجات مرة أخرى. أجلستُ (نادينكا)، وهي ممتقعة العينين شاحبة الوجه مرتعدة الأوصال على المزلجة. مرةً أخرى طرنا نحو الهاوية المخيفة، ومرة أخرى قابلنا هدير الريح وطنين الهواء في أعماق الهاوية، ومرة أخرى عندما كان انحدارنا في أصخب لحظاته وأسرعها، قلتُ بصوتٍ هامس خفيض كالفحيح: "أحبكِ يا ناديا". عندما توقفت المزلجة، ألقتْ (ناديا) بصرها على الربوة التي انزلقنا عليها، ثم تأملتني بنظرة طويلة متفرِّسة، وأرهفت السمع لصوتي الذي لم يكن فيه وزن أنملة من اهتمام أو حس. وكلّ جسمها، كل جزء منه، كل مثقال ذرة فيه، حتى الفراء والقبعة عليها أص*ر أقصى علامات التعجب، وعلى وجهها أسئلة محيّرة مرتبكة: "ما معنى هذا؟ من نطق بتلك الكلمات؟ هل قالها، أو أنني فقط تخيلتها؟" أقلقها ذلك الشكُ وأفقدها الهاجس صبرها. لم تجب الفتاة المسكينة على أسئلتي، وعبست، وبلغت عبراتها طرف جفنيها. فسألتها: "ألم يكن من الأفضل لو عدنا إلى الدار؟" فأجابت بحرارة: "أنا..أنا أحب هذا التزحلق. هلا تزحلقنا مرة أخرى؟" *** لم يعد الرجل يحتمل ، نهض عارياً ، وبدون أن يبالي بممانعات المرأة الخفيضة ذهب وأخفض ضوء مصباح الصيد الصغير ، وعاد . قالت المرأة إنه مستيقظ ، والله إن الطفل مستيقظ ، طفل كبير ، يعرف كل شيء ، أنت ستفضحني . يا مجنون ! في هذه اللحظة جاء صوت الطفل من الأعلى : " ماما ! " تسمّر كلاهما ، وأجابته المرأة : " نعم ؟ " - " إني خائف ! " *** في أطراف قرية حضن الجبال تحت ربوع جبل عتاقة قرر جدي أن يحكي لي قصة رمزي شندي التي رددتها حكايات الجذور وقت الحرب على الجبهة أيام الحرب الكبرى: *** منذ التحقت ( رمزي شندي ) بجيش الغزاة الذي دخل فرنسا وهو يعد نفسه أتعس الرجال وأشقاهم . . كان ( رمزي شندي ) بديناً ، ثقيل الحركة ، بطيء الخطوات ، قدماه تؤلمانه أشد الألم كلما مشى . . وهما قدمان مفرطحتان بدينتان . . وكان مسالماً وادعاً يكره الحرب ولا يطيق رؤية الدماء . .وكان والداً لأربعة أطفال يحبهم حب العبادة . . وزوجاً لامرأة شقراء شابة . . أصبح يفتقد كل ليلة حنانها و قبلاتها ورعايتها له . . وكانت له عادة أن ينام حتى وقت متأخر ويأوي إلى فراشه في وقت مبكر ويأكل على مهل أجود الأطعمة وأشهاها ويختلف إلى الحانات لاحتساء البيرة . .كما أنه كان يظن أن كل ما هو جميل في الوجود يتلاشى باختفاء الحياة . . وكان يحقد كل الحقد على المدافع والبنادق والمسدسات والسكاكين والخناجر والحراب . . *** طبيعي . . إذ كان دائماً يشعر بأنه غير جدير بالدفاع عن بطنه الضخمة وكرشه المتدلي ضد هذه الأسلحة الجبارة! وعندها كان يفترش الأرض إذا ما أقبل الليل متدثراً بمعطفه بجوار زملاءه الذين راحوا يشخّرون ، كان يسرح بخياله نحو أهله الذين تركهم خلفه والأخطار التي تحدّق به من كل جانب . . ماذا لو أنهم قتلوه؟ ماذا يكون من أمر أطفاله؟ . .من يطعمهم؟ . .من يشرف على تربيتهم؟ . .ولا سيما أنهم لم يكونوا من الأثرياء . . على الرغم من كل الديون التي قد استدانها قبل رحيله ولم يترك لهم إلا القليل من النقود . .وكان كلما فكر في ذلك ذرف الدمع حاراً! *** في بداية المعارك أحس بوهن في ساقيه . . ولو أنه قد ترك الأمر لتقديره الشخصي لسقط . .لولا أنه يعرف أن الجيش كله خلفه . . وأنه سوف يمر فوق جسده . .ووقف شعر رأسه عندما دوى صفير الرصاص! هكذا كان ( رمزي شندي ) يعيش فريسة القلق والخوف! كانت فرقته تتقدم نحو ( نورمانديا ) . وأرسل ذات يوم مع نفر من زملاءه كانت مهمتهم هي استكشاف منطقة من البلد بعدها يعودون مرة أخرى . .وكان كل شيء يبدو هادئاً وعلى ما يرام . .لا شيء مطلقاً يدل على أنهم سيلقون أي نوع من المقاومة . .كانوا يتقدمون في هدوء وأمان في جوف واد صغير تقطعه أخاديد عميقة . . عندما أوقفهم فجأة وابل من الرصاص أصاب نحو عشرين رجلاً منهم! . .وفاجأتهم فرقة من الفرنسيين خرجت عليهم من قلب دغل صغير واندفعت نحوهم وهم شاهرين حرابهم في مقدمة بنادقهم . . *** في بداية الأمر تسمر ( رمزي شندي ) في مكانه جاحداً لا يقو على الحراك . .كانت المفاجأة قد أذهلته وسكت تفكيره بحيث لم يخطر له أن يهرب . . ثم تملكته رغبة مجنونة في الفرار!! . .إلا أنه لم يلبث أن تذكر أنه يجري كالسلحفاة إذا قيس بالفرنسيين النحاف الذين يقبلون مسرعين كقطيع من الماعز . . ورأى على بعد ست خطوات منه خندقاً مملوءاً بالأعشاب وتغطيه الأوراق الجافة . . فألقى بنفسه فيه من دون أن يفكر في عمقه . .كما يلقى الإنسان بنفسه من فوق جسر إلى النهر . . *** خلال طبقة كثيفة من الأعشاب المتشابكة والأغصان المتعانقة مر كالسهم . . والأشواك تمزق وجهه ويديه وسقط في عنف جالساً فوق فراش من الأحجار . .ورفع عينيه بسرعة فرأى السماء من خلال الثقب الذي أحدثه سقوطه . .وقد كان من الممكن أن تفضحه هذه الفتحة فزحف على أربع في حذر حتى آخر الفندق تحت شبكة من الأوراق بعيداً عن ساحة المعركة . .وهناك جلس من جديد وهو يرتعد كالأرنب المذعور . . *** مر به وقت ليس بالطويل وهو يسمع صوت طلقات الرصاص والصراخ والأنين ثم خفت كل شيء ولم يلبث أن عاد الصمت والسكون فشملا المكان . .وفجأة . .تحرك بجواره شيء فسرت في أوصاله رعدة عنيفة . .ولم يكن ذلك سوى عصفور صغير حط رحاله فوق الغصن المجاور وراح يرفرف بجناحيه . . وظل ( رمزي شندي ) يرتجف في شدة ساعة كاملة! *** هبط الليل فملأ الخندق بظلامه الأ**د . .ومضى الجندي يفكر . .ماذا يفعل؟ . . وماذا يكون من شأنه الآن؟ . . هل يلحق بفرقته؟ . . وكيف السبيل إلى ذلك؟ . . وأين هي فرقته أصلاً الآن؟ . .لابد له من طريقة . . ولابد أنه سوف يعاني المخاطر والأهوال التي عاناها منذ بداية الحرب . . وهو لن يجد في نفسه الشجاعة على احتمال ذلك . .ولكن ماذا يفعل؟ . .لم يكن ليستطيع البقاء في هذا الخندق والاحتماء به حتى تضع الحرب أوزارها . .ولو أنه لم تكن هناك ضرورة للأكل لما أفرحه هذا الاحتمال أبداً! . . ولكن كان لابد أن يأكل . . وأن يأكل كل يوم . .ولكن ماذا يفعل ؟ . .إنه الآن بمفرده . .وحيداً في ثوبه العسكري . .وعلى أرض الأعداء . .بعيداً عن هؤلاء اللذين في مقدورهم الذود عنه وحمايته . .ارتج بدنه برعشة قوية . .وأتته فكرة عجيبة . .ماذا لو أخذوه أسيراً؟!! *** خفق قلبه وقد انتابته رغبة عنيفة ملحة في أن يقع أسيراً بين أيدي الفرنسيين الأعداء . .إن وقوعه في الأسر معناه أنه قد أصبح من مطمئناً هانئاً . .يأكل ما يشتهي . . والأهم من هذا أنه سوف يظل بعيداً عن الرصاص وحراب البنادق . .لا يوجد أي نوع من الخطورة بين جدران السجن . أسيراً بين أيدي الفرنسيين . .يا له من حلم جميل !! . .وصح منه العزم في لحظة فقال: -"سوف أسلم نفسي إليهم وأصبح أسيراً!" ثم أنه نهض وقد استقر رأيه على تنفيذ هذا المشروع الممتع الجميل على الفور . . دون أن ينتظر لحظة واحدة . . إلا أنه سرعان ما تسمّر في مكانه مرة أخرى وقد استولت عليه أفكار سوداء وتملّكه خوف جديد . .فإلى أين يذهب؟ . . ولمن يسلم نفسه؟ . .وكيف؟ . . وفي أي جهة؟ . .وتلاحقت أمامه صور مريعة للموت!
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD