من مذكرات أبي: رحلة فوق السحاب

1225 Words
وجدت هذه الصفحات في مكتبة عتاقة ضمن مذكرات أبي:   جنباً إلى جنب، جلس أستاذ الرياضيات، ومعلم اللغة الفرنسية ومساعد العمدة، يثرثرون فيما بينهم، يتحدثون بسرعة ويقاطع أحدهم الآخر وهم يتكلمون بصوت عال شارحين للضيوف حالات دُفن فيه البشر أحياء! وأعطوا آرائهم إلى المهتمين بالروحانيات. ولا واحد منهم يؤمن بالروحانيات، لكنهم جميعاً اقتنعوا بأن هناك العديد من الأمور في هذا العالم تحدث – دائماً – من وراء قدرة عقل الإنسان. وفي الحجرة المجاورة كان مدرس الأدب يصف للزوار كيف أن من حق الحارس إطلاق النار على ال**برين في الطريق. الموضوع – كما يمكنك أن تتوقع – يحمل رائحة التهديد. لكنه كان مقبولاً من الموجودين. حضرات السادة المستعمين، منعهم وقارهم الاجتماعي من القفز إلى الفناء الخارجي هرباً عبر النوافذ! وبمجرد أن دقت الساعة تعلن منتصف الليل، ذهب سيد الدار إلى المطبخ ليرى إذا ما كان كل شيء جاهزاً من أجل العشاء. كان المطبخ، من الأرض إلى السقف يحتشد بالبط المدخن والأرز المحمر وروائح أشياء عديدة. وعلى مائدتين رُصت المقبّلات وفواتح الشهية، المرطبات والمشروبات المنعشة بشرتها ناعمة بلون الخبز؛ عيناها مثل اللوز الأخضر وشعرها الأ**د مسدول على كتفيها؛ كانت فاتنة وآية في البهاء والروعة، رشيقة القوام، ذات هيئة إندونيسية، كما لو أنها قادمة من بلاد الأنديز. انسجام ما ترتديه ينم عن ذوق رفيع لا جدال فيه؛ سترتها مصنوعة من فراء المنك، بلوزتها منسوجة من الحرير الخالص بأزهار متناسقة، سروالها من قماش طبيعي مع حذاء ذي حزام ضيق بلون نبات ست الحسن. *** عندما لمحتها عيناي؛ خطر لي أن هذه هي أجمل امرأة شاهدتها في حياتي على الإطلاق؛ وهي تمر أمامي بخطوات رهيفة كأنها لبؤة حذرة، وأنا واقف في الصف أمام مكتب التسجيل لدفع الأمتعة بمطار شارل ديجول بباريس، استعدادا لرحلتي إلى نيويورك. لقد كان ظهورا خارقا لملاك فائق الجمال وللحظات فقط بحيث سرعان ما اختفى في زحمة صالة المطار. كان الثلج يتساقط منذ الليلة الماضية، بينما الساعة الآن تدور في العاشرة صباحا ، وكانت حركة المرور أبطأ من المعتاد في شوارع باريس، بل هي أكثر بطئا على الطرق السريعة حيث اصطفت الشاحنات الكبيرة على جانب الطريق، بينما احتشدت السيارات واختلط دخانها بالثلج؛ أمّا بداخل صالة المطار فكان الجو لا يزال بديعا كأنه الربيع. ***   انتظرت دوري في الطابور ، خلف عجوز هولندية أمضت ساعة كاملة تثرثر عن حقائبها الإحدى عشر ؛ وبدأت أتململ عندما وقعت عيناي على ذات الحسن والجمال الذي بهرني وقطع عليّ أنفاسي وأنقذني من ذلك الصخب ، ولم أدر بعدها كيف انتهى فيلم المرأة الهولندية وحقائبها ؛ ولم أنزل من تحليقي في السحاب إلاّ على صوت مضيفة المكتب وهي تعاتبني عن شرود ذهني في عالم أحلام اليقظة؛ بل وبادرتها ملتمسا عذرها بالسؤال إن كانت تؤمن بالحب من أوّل نظرة. فردّت عليّ دون أن تحوّل عينيها من شاشة الكمبيوتر: - " طبعا، أمّا بقية الأصناف فهي مستحيلة ! " ثمّ سألتني إن كنت أُفضِّل مقعدا في قاعة المدخنين أو ع** ذلك. لكني رددت عليها بلهجة تهجّم قصدت بها السيّدة الهولندية: - " لا يهم، ما دام أنّني لن أجاور الإحدى عشر حقيبة ! " تقبّلت الدعابة بص*ر رحب، ومررت على شفتيها بسمة تجارية، ثمّ قالت لي دون أن تفارق عيناها الشاشة لحظة : -"اختر أحد الأرقام التالية؛ ثلاثة، أربعة أو سبعة." أجبتها بسرعة: -"أربعة." قد كشفت ابتسامتها عن بهجة وانتشاء : -"منذ خمسة عشر عاما وأنا أعمل في هذا المكان، ما رأيت أحدا قبلك اختار غير الرقم سبعة. الكل يختار رقم سبعة." كتبت رقم المقعد على بطاقة الركوب، ثم أرجعتها إليّ مع بقية الوثائق. نظرت إليّ لأوّل مرة بعينين بلون العنب أغدقتا عليّ عزاء وشفقة، وخفّفتا من حُرقتي واللوعة التي سرت في باطني ريثما يظهر الجمال الفاتن والسحر الخلَّاب مرة أخرى. وفي هذه اللحظة بالذات، أخبرتني أنّ المطار قد أغلق للتو في وجه الملاحة، وأنّ كلّ الرحلات قد أجّلت إلى مواعيد لاحقة. -"إلى متى يستمر هذا التأجيل؟" ردّت عليّ وهي تبتسم هازة كتفيها: -"الله أعلم." ثم أنها أردفت: -"لقد أذاعوا هذا الصباح بأنّ هذه العاصفة هي الأعنف خلال العام كلّه." أنت مخطئة يا عزيزتي؛ إنها عاصفة القرن؛ إلاّ أنّ الجو ظلّ ربيعيا في قاعة الانتظار لرُكَّاب الدرجة الأولى، ويمكنك أن تلاحظ وجود ورود حقيقية لازالت حيّة في إصّيصاتها، وحتى الموسيقى المنبعثة تضفي نعومة وهدوءا تماما كما تصوّرها مبدعوها؛ ثمّ فجأة قرّرت في نفسي أنّ هذه الظروف تمثّل ملاذا مناسبا للجمال الفاتن، وكذلك رحت أبحث عنها في قاعات الانتظار الأخرى هائما تائها ولهانا وغير آبه بما قد أسبّبه من لفت أنظار الجمهور إليّ. كان معظم المنتظرين أشخاصا من الحياة الواقعية، يقرؤون صحفا مطبوعة بالإنجليزية، بينما كانت زوجاتهم يفكرن في رجال آخرين وهن يتأمّلن بشرود من خلال زجاج النوافذ الطائرات الجامدة في الثلج وإلى المصانع الخامدة المتبلِّدة والحقول الواسعة التي حطّمها ضرغام جائع. ***   حلّ منتصف النهار فشغلت كل أماكن الجلوس وارتفعت درجة حرارة القاعة، وصارت غير محتملة إلى درجة أنّني غادرت لأستنشق جرعة من الهواء المنعش وبالخارج شاهدت منظرا غير عادي؛ لقد تجمهر كل أصناف البشر داخل صالات الانتظار، ومنهم من قبع في الأبهاء والأروقة وعلى المدرّجات شحيحة التهوية، ومنهم من ألقى بنفسه على الأرض رفقة الح*****ت الأليفة والأمتعة والأطفال. وانقطعت الاتصالات مع المدينة وبات القصر البلاستيكي الشفاف أشبه بسفينة فضائية ضخمة تركوها قابعة على الأرض في عين العاصفة. ولم يفارق ذهني التفكير في أن الجمال الفاتن يقبع في مكان ما وسط هذا الحشد المدجّن الأليف المروّض البليد، وألهمني ذلك شجاعة وسلوانا لأظلّ منتظرا ظهور السحر الخلَّاب. ***   آن أوان الغذاء وحينها أدركنا أنّ حالنا أضحى شبيها بمن تحطّمت سفينتهم على صخرة في البحر، ولاحت الطوابير غير منتهيّة خارج مطاعم المطار السبعة، تمتد إلى الأبد خارج المقاهي والحانات؛ وفي أقلّ من ثلاث ساعات أوصدت أبوابها لأنّه لم يبق بها شيء قابل للاستهلاك الآدمي بعد أتوا على كل شيء. وحتى الأطفال، الذين ظهروا في لحظة ما فجأة وكأنّهم كل أطفال العالم قد اجتمعوا هنا، شرعوا في البكاء دفعة واحدة معاً. ثمّ ما لبثت أن انبعثت رائحة القطيع من الجمهور الغفير؛ لقد كان نداء الطبيعة. وفي تلك الزحمة، لم أستطع الحصول سوى على كأسين من مُثلّجات الفانيليا من محلّ بيع للأطفال. لقد كان النادلون يضعون الكراسي على الطاولات عندما غادر أصحاب المحل، في حين كنت أتناول وجبتي ببطء عند الكاونتر وأنا أتأمّل نفسي في المرآة المقابلة مع آخر كأس وآخر ملعقة صغيرة، ولكن التفكير لم ينقطع لحظة في الجمال المُذهل. ***   جاءت الثامنة ليلاّ، وغادرت رحلة نيويورك المبرمجة أصلاّ على الساعة الحادية عشر صباحاّ. وما أن امتطيت الطائرة حتى كان مسافرو الدرجة الأولى قد أخذوا أماكنهم؛ واصطحبتني المضيفة إلى مقعدي؛ وفجأة كاد قلبي يتوقّف عن النبض. يا لمحاسن الصدف! رأيت الفتنة السماوية جالسا على المقعد المجاور أمام النافذة. لقد كانت مستغرقة في ترتيب مجالها الحيوي بأستاذية المسافر الخبير؛ والسائح الأريب. وقلت في نفسي: "آه، لو قدّر لي أن أكتب هذا في قصة، فلن يصدّقني أحد".  ثمّ نجحت في إلقاء تحية متردّدة بعد تلعثم. كنت من الحرج في غاية؛ فلم تسمعها ولم تنتبه لها. *** لقد شغلت مقعدها كما لو كانت تنوي أن تُعمّر هنالك لألف سنة؛ وضعت كلّ شيء في مكانه المناسب وفي متناول يدها حتى أنّ محيط مقعدها أصبح مصفّفا كالبيت المثالي على يد مهندس د*كور. وفي أثناء ذلك، أحضر لنا المضيف شمبانيا الضيافة. أخذت كأسا لأناولها إياه، لكنّني تريَّثت قليلا وفكّرت في ذلك ثمّ عدلت عن رأيي في اللحظة الأخيرة وفي الوقت المناسب. لم تكن تريد سوى كأس ماء ، ثمّ أوعزت إلى المضيف، أوّل الأمر بلغة فرنسية غير مفهومة ثمّ بلغة إنجليزية لم تكن أوضح من سابقتها إلاّ بالنذر اليسير، بأن لا يوقظها خلال الرحلة ، ولأيّ سبب كان. لقد كان يشوب صوتها الدافيء النعسان بعض الحزن الشرقي الحالم الدفين. وعندما أحضر المضيف الماء، كانت تضع في حجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة مزخرفة؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراص أخرى ذات ألوان مختلفة. كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة وبثقة أصلية أصيلة وكأن لا شيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها. ***
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD