من مذكرات أبي

1575 Words
***   وعندما أحضر المضيف الماء، كانت تضع في حجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة مزخرفة؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراص أخرى ذات ألوان مختلفة. كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة وبثقة أصلية أصيلة وكأن لا شيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها. وما إن انتهت حتى أسدلت الستار على النافذة، سحبت مقعدها إلى الخلف في اتجاه عمودي ومدّدته إلى أقصى ما يمكن، غطّت جسمها ببطانية إلى الخصر دون أن تنزع حذاءها، وضعت قناع النوم على رأسها، استدارت وولّتني ظهرها ثمّ سرعان ما غرقت في بحر النوم العميق. لم تص*ر عنها تنهيدة واحدة، ولا أدنى همسة أو أقل حركة طيلة الساعات الثمانية الأبدية ودقائقها الإثني عشر الإضافية، زمن الرحلة إلى نيويورك. لقد كانت الرحلة خارقة وغير مسبوقة بالنسبة إليّ. لقد كان يقيني الثابت دائما؛ ولازلت أؤمن بأن لا شيء في الوجود أبدع من امرأة جميلة؛ لقد احتلني ذلك الكائن الفاتن الذي ينام بجواري وكان يستحيل عليّ أن أهرب للحظة واحدة من أسر هذا المخلوق الجميل النبيل، هذا السحر الذي كثيرا ما تردّده الحكايات والحواديت. ما إن أقلعت الطائرة حتى اختفى المضيف وخلفته مضيفة شابة، حاولت أن توقظ الملاك النائم لتناولها محفظة النظافة وسماعات الموسيقى. ردّدت عليها التعليمات التي أملاها الملاك الناعس على زميلها، غير أنها أصرّت على السماع منه شخصيا ممّا اضطر المضيف أن يؤكد أوامرها مع أنّه ألقى ببعض اللوم عليّ لأنّ الملاك لم يعلّق بطاقة تشير إلى: "أرجو عدم الإزعاج" حول عنقه كالياقة. تناولت وجبة العشاء وحيدا، أتكلَّم مع نفسي في سكون أقول كلّ ما كنت أبتغي قوله لها لو شاركتني عشائي. كان نومها هادئا منتظما إلى درجة أنّ نفسي حدّثتني في جزع مُشفق بأنّ الأقراص المنوّمة التي تناولتها لم تكن للنوم بل كانت للانتحار. ومع كلّ جرعة كنت أرفع كأسي لأشرب نخب صحّتها. ***   خفتت الأضواء ليعرضوا على الشاشة فيلم لم يكن لينتبـه إليه أحد، و كنّا ولا أحد شريكنا في ظلمة هذا العالم. لقد ولّت عاصفة القرن وكان ليل الأطلسي صافيا خرافيا، وكانت الطائرة تبدو جاثمة كجثة محنّطة بين النجوم. انتهزت الفرصة كي أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر، ولم أكن ألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتها عبور ندف السحاب فوق جدول رائق. كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا تُرى نظرا في غياهب لون بشرتها الذهبي. لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين، وأظافرها الوردية تع** أمارات صحة لا باس بها. وكان يُزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أو ارتباط آني لا يعني الكثير عندها. ورحت على وقع تأثير الشمبانيا أردّد في سرّي مآثر جيراردو دييجو الخالدة عن المرأة والحب والجمال. خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها، وألقيت بجسمي عليه، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية في شهر العسل. ***   كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا، على صورتها ومثالها، لم يكن سوى عطر جمالها الفتَّان. لقد كان شيئا مدهشا حقا. لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة بديعة للكاتب ياسوناري كاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابل قضاء ليلة في التف*ج على أجمل فتيات المدينة وهنّ م**رات ومستلقيات عرايا كما ولدتهن أمهاتهن على نفس السرير، يتعذبون من نار الشوق وحرقة الشغف وعذاب الحب بلا طائل ولا يستطيعون إيقاظهن أو لمسهن، بل ولا يجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم في الأساس هو رؤية الفتيات العاريات وهنّ نائمات. في تلك الليلة، وأنا أراقب الجمال النائم، لم أصل فقط إلى إدراك معنى التألُّم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارته إلى أبعد مدى؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت حواسي بفعل الشمبانيا: "ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر". *** بين المنام واليقظة تذكر قصة الكوخ.. يتمشى العروسان المتزوجان حديثاً جيئة وذهاباً بالقرب من رصيف المحطة الصغيرة الخاصة بالقرية وقد أحاط خصرها بذراعه بالكامل, بينما أراحت هي رأسها على كتفه. وكان القمر في تلك الأثناء يبزغ برقة من بين الغيوم ثم يختفي وكأنه قد أصابته نزوة غضب بسبب غيرته من السعادة التي ينعمان بها معاً. الهواء مُثقل بعبق الزنبق والكريز البري, إلا أن شيئاً ما يبدو وكأنه يعكّر صفو المكان ويلوح في الأفق على مسافة ليست ببعيدة. تمتمت العروس الشابة هامسة في أذن زوجها: "وكأنني أحلم, أنظر يا (ساشا) إلى تلك الشجيرات الصغيرة, ما أجمله من منظر! كأن تلك الشجيرات تنادينا من مكانها.. كم هو رائع وجود مكتب البريد والتلغراف في هذا المكان! إنه يضيف لمسة خاصة لتلك الطبيعة البديعة! لمسة بشرية قي حضن الطبيعة الربّانية." وتلفتت حولها ثم أردفت، "ألا ترى معي إنه لشيء بديع أن يحمل الريح معه صوت القطار المندفع القادم من بعيد؟" أجاب العريس: "نعم ولكن ما هذه السخونة في يد*ك الصغيرتين؟ هل هذا بسبب حماستك وسعادتك بكل ما ترينه يا عزيزتي (فاريا)؟ ولكن أخبريني؛ ماذا أعددت لنا للعشاء هذه الليلة؟" أجابت (فاريا) باسمة: "دجاج وسلطة.. دجاجة تكفى لاثنين فقط ومعها بعض السلمون وقطع السردين الذي أرسلوه لنا من البلدة." كان القمر قد ملأه الغيظ والحنق فأخفى وجهه من سعادة البشر التي ذكّرته بوحدته القاسية المغلّفة بالبرد والتي يكابدها من خلف السحب والضباب ومن فوق التلال والهضاب. وهنا قالت (فريا) باندفاع: "هاهو القطار قادم! ما أروعه!" استطاعا رؤية ثلاث فوهات من الدخان تلوح من بعيد, وجاء القطار المهيب بأنواره الأمامية التي تومض باستمرار. تثاءب (ساشا) وقال: "لنر هذا القطار الجميل ونذهب إلى البيت. إنه وقت رائع ذلك الذي نقضيه سوياً يا (فاريا). لا أكاد أصدّق ما أنا فيه! وكأنه حلم!" توقف الوحش الأ**د الأسطوري بمحاذاة الرصيف. واستطاع العروسان تمييز بعض الوجوه الناعسة والقبّعات وأكتاف بعض المسافرين من خلال النوافذ ذات الإضاءة الخافتة. وتناهت إلى سمعها في هذه الجلبة بعض أصوات: "أنظروا! أنظروا! إنهما (فاريا) و(ساشا)! لا ريب أنهما جاءا إلى هنا لاستقبالنا! انظرا هناك! إنهما هما.. (فاريا) و(ساشا)! انظروا!" وهنا قفزت فتاتان صغيرتان من القطار لتعانقا (فاريا) وتعلقتا برقبتها وفى ذ*لهما جاءت امرأة بدينة في أواسط العمر وتبعها رجل طويل القامة ونحيل الجسم له شارب أشيب, وبعد هؤلاء ولدان في سن المدرسة يحملان حقائب مدرسية ثقيلة على ظهريهما ومن بعد هؤلاء سيدة تبدوا معلّمة وفي النهاية أطلت الجدة. بدأ الرجل ذو الشارب الأشيب الكلام مصافحاً (ساشا) بقوة قائلاً: "ها نحن أولاء يا بني, أخيراً وصلنا, ماذا؟! هل تعبتما من طول الانتظار؟ حسناً, كنت أتوقع ذلك, أنت غاضب منى, أنا عمك, لأني لم أزرك حتى الآن كما أظن, (كوليا), (كوسيا), (نينا), (فينا).. أيها الأطفال.. هيا جميعاً قبلوا (ساشا) ابن عمكم! نحن جميعاً هنا يا وحوش! ثلاثة أو أربعة أيام آمل ألا يكون عدنا كبير بالنسبة لكم, ها.. عليكم ألا تدعونا نطردكم خارج بيتكم!" صُدم العروسان برؤية العم وعائلته وذعروا خلال العناق والمصافحة والقبلات من جانب العم, وألقى (ساشا) نظرة على كوخه الصغير. لقد أعطى الغرف الصغيرة الثلاث جميعها للضيوف إلى جانب كل ما يحويه البيت من خدديات ووسائد وبطانيات, أما الدجاجة فقد التهمها الضيوف في لحظات ومعها السلمون والسردين, ولا تسأل عن الأزهار والحديقة الصغيرة حول الكوخ.. كلها سحقت تحت الأقدام, وأريق الحبر هنا وهناك وعمت الفوضى وعلا الصراخ في أرجاء الكوخ بلا استثناء. وزوجة العم تثرثر بلا انقطاع عن عائلتها وعن والدها الذي أصبح أثرى كبار الشخصيات في (فون فينيتش). ألقى (ساشا) نظرة كارهة إلى زوجته الشابة وهمس إليها: "كلهم جاءوا لرؤيتك, ا****ة عليهم!" أجابت بوجه شاحب: "إنهم أقرباؤك وعائلتك وليسوا أهلي أنا!" ثم ابتسمت للضيوف مرحبة. ومن فوق أطل القمر باسماً؛ لعل السبب أنه بلا أقارب بينما حاول (ساشا) أن يبتسم وهو يخفي وجهه المحبط بمزيد من الجهد ليرحب: "إنها حركة كريمة منكم أن تشرفونا بالزيارة, أهلاً بكم في كوخنا!" أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشمبانيا وتفجيرات الفيلم الصامتة؛ وعندما استيقظت كانت رأسي تؤلمني بشدّة. ذهبت إلى الحمّام، وألفيت المرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة. كانت نظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق، وللحظة، انتابني شعور عدواني ممتع ألا التقطها. ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائدة في دمي، حتى رحت أتأمّل نفسي في المرآة، فوجدتني قبيح المنظر كالشيطان وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذه الدرجة. فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابق الأجواء بكامل سرعتها إلى الأمام. ظهرت فجأة إشارة: "التزموا أماكنكم"، فأسرعت إلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الاضطراب، لعلّه يلجأ إلى حضني ليحتمي به ويدفن فيه هلعه وارتعابه. وأثناء حركتي الخاطفة، كدت أن أدوس على نظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت في الواقع؛ بيد أنّني غيَّرت موضع قدمي في آخر لحظة، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعد ذي الرقم أربعة. *** كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكر صفوه حركة الطائرة. وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الكاسحة في إيقاظها بافتعال أي عذر من أي نوع، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال آخر ساعة من الرحلة هو فقط رؤيتها يقظة، حتى ولو كانت غاضبة حانقة، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيد شبابي كذلك؛ غير أنّني لم أجد في نفسي الشجاعة الكافية لذلك، وقلت في باطني باحتقار شديد: "اذهب إلى الجحيم! لماذا لم أولد خروفا؟" ***   استفاقت من نومها، ومن تلقاء نفسها، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط. كانت جميلة ناعمة مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج لسنوات طويلة؛ كذلك هي لم تفعل. فقط خلعت قناعها، فتحت عيناها المُشعّتين، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة، وضعت البطانية جانبا، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة، ثمّ لبست سترتها ذات الفراء. تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية خالصة، وغادرت من غير كلمة وداع واحدة، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية.     ***
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD