اهتزَّ ( حبيب ) للحظة كمن تلقى صفعة . وغامت عيناه ، الآن اكتمل الأمر ، سوف يحضرون بعد قليل ليلقوا القبض على المرأة . . . ثم ؟ . .لم يكن هناك متسع للتفكير في ثم . إذ تجمهر الجيران وتجمعوا حول البيت ، وراحوا يتحدثون عن ( سارا ) بصخب ولغط كبيرين : " ماذا كانت حالة تلك المرأة ؟ "
امرأة بمائة رجل حقا
- " والله ، لم أعرف شيئاً . . . "
- " كانت ثيابها ممزقة ، وشعرها منكوشاً . "
- " ووجهها ويداها ملأى بالخدوش والجروح . "
- " هل هاجمها ذئب في الغابة يا ترى ؟ "
- " أي ذئب هذا ؟ "
- " ذئب ، يعني ذئب ! "
- " . . . . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
رغم أنها كانت تسمع أقاويل وظنون الجيران وعلى رأسهم ( شريفة ) ، إلا أنها لم تفكر في الرد عليهم . امرأة بمائة رجل حقا
ناداها ( حبيب ) :
- " اصعدي إلى فوق . "
لم تر ( سارا ) ابنها الجالس على الأريكة بجانبها ، يرمق أمه بعينيه الدامعتين وما أن سمعت صوت الرجل ينادي عليها نهضت من مكانها وذهبت وصعدت السُّلَّم . كان الرجل مشوشاً جداً : " ماذا سيحدث إذا جاؤوا لأخذك ؟ "
- " لا أعرف . "
- " اشرحي لي ماذا حدث ؟ "
- " ظهر لي ( أنور ) الأعرج في الغابة وتعرض لي ، وأنا . . "
- " وأنت سحبت السكين وطعنته ؟ "
- " ماذا كان بإمكاني أن أفعل غير ذلك ؟ هل كنت أنام تحت الرجل ؟ "
- " لم أقصد هذا . "
- " لم تكن هناك وسيلة أخرى ، انظر إلى خدوش رقبتي وحلقي ! "
- " اذكري هذا كله في إفادتك . "
- " سوف أذكره . "
نزلت السُّلَّم ، ثمّ حملته وأنزلته إلى الغرفة السفلية ، وأغلق الرجل باب العلية من الأعلى . والآن ماذا عليه أن يفعل ؟ بعد قليل ، ربما بعد نصف ساعة سوف يحضرون ليأخذوا المرأة ، وربما يأخذونها إلى المدينة ، إلى السجن أخرج علبة سجائره بضيق شديد ، كاد أن يشعل سيجارة ، لكنه انتبه لنفسه كان بحاجة إلى سيجارة في هذه اللحظة أكثر من احتياجه لها في أي وقت مضى ، ولكن لا يمكن ، فالبيت محاط بالجيران ذوي الألسنة السوداء الطويلة . . اكتفى بشم علبة السجائر .
ا****ة . لماذا لم يسرعوا ويرحلوا من هنا ؟ من كان سيدري ؟ لو أنهم خرجوا من البيت بهدوء في إحدى الليالي ، وساروا في طريق الجبل . وهناك كانوا يفكرون بأسهل ما يمكن عمله . . .
شمَّ علبة السجائر ثانية . أصاخ السمع إلى الخارج . صخب الجيران قد ازداد . زحف إلى طرف العلية المطل على الزقاق الخلفي ، ونظر من ثقب إلى الأسفل ، كان الجيران رجالاً ونساءً وأطفالاً ، يقلبون أطراف هذا الموضوع ، محاولين الوصول إلى سبب هذه الحالة الرثة التي كانت عليها ( سارا ) ، والتي لم يشاهدوها عليها من قبل . ولم يكن أحد يعرف السبب الحقيقي حتى اللحظة .
فعلاً فإن السبب الحقيقي لم يكن يمكن معرفته ، ولو لم ينتبه ( أنور ) المسكين العليل الجريح ويلملم نفسه بعد عشرين دقيقة ، ويتجه نحو المخفر ، ويشرح الموضوع لرئيس المخفر ، لما أمكن معرفة السبب الحقيقي .
أسرع معارفه وأصدقاؤه الذين شاهدوه متجهاً من الغابة نحو المخفر مضرجاً بالدم ، وأخبروا عمه . وحين دخل ( هاشم بك ) المخفر غاضباً وسوطه الشر**ي ذو المقبض الفضي بيده ، كانت إفادة ( أنور ) تؤخذ .
سأله بعنف : " ما هذه الحالة ؟ "
لم يحر ( أنور ) الأعرج جواباً ، كيف يستطيع الأجابة ، وهو إضافة إلى أنه لم ينجح في محاولته الاعتداء على المرأة ، تلقى منها طعنات بسكين أيضاً !
قال المساعد الأول : " طيش شباب . آه من الشباب ! "
اقترب ( هاشم بك ) من الطاولة : " قل أيها الرقيب من طعن ابن أخي ؟ أخبرني من طعنه لأجعل الدنيا زنزانته ، هيَّا انطق ! "
قال المساعد الأول هامساً كمن يفشي سراً : " المسألة ليست هكذا يا بك ، اسكت فقد أفسد ابن أخيك كيس تين . "
- " ماذا حدث ؟ "
- " ماذا سيحدث ؟ صادف ( سارا ) في الغابة ، ولكم أن تخمنوا بمفهومكم ما حدث بعد ذلك . "
رفع ( أنور ) يده عن بطنه ، فتدفق الدم .
غرق ( هاشم بك ) في حيرة شديدة وهو يسأل : " يعني هل طعنتك امرأة ؟ "
خفض ( أنور ) رأسه إلى الأسفل .
- " اسفخص يا اخي عيب والله عيب ! . . . وتربي شاربين وتمشي بين الناس على أنك رجل أليس كذلك ؟ "
اتجه نحو باب المخفر وسوطه بيده ، توقف ، التفت ، وقال :
- " أنا ليس لي ابن أخ يُطعن بسكين امرأة ويشتكي إلى المخفر ! فليعرف حاله . ولك الدنيا والعالم يسخر ! "
خرج وغادر .
نظر ( أنور ) الأعرج مقهوراً خلف عمه المغادر ، ثم نهض واقفاً : " أنا لست مدعياً على أحد يا رقيبي . سأنتقم لنفسي فيما بعد إذا اقتضى الأمر . دع المحضر وسواه ! "
احتدَّ المساعد الأول : " هذه ليست روضة أطفال . يوجد حق عام في الموضوع . إن تنازلت أنت عن دعواك ، فالحق العام لا يتنازل ! "
- " إن كان لا يتنازل ، فإني ذاهب . "
- " لا يمكن . . . "
- " لماذا ؟ "
- " أنت جريح ، مطعون بسكين ، ستؤخذ إفادتك ، وسوف تتم مداواتك مداواة أوليَّة . وإلا سوف أكون مسؤولاً ! "
- " . . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . "
طبعاً ، اتخذت كافة الإجراءات اللازمة ، وعندما علم الضباط ورجال الدرك الذين دخلوا المخفر في تلك الأثناء بحقيقة الأمر ، انفجروا بالضحك .
- " خصمك امرأة إذن ؟ "
قال ( أنور ) الحانق : " امرأة ولكن ، ما أدراني أنها تحمل سكيناً بنصاب معدني ؟ "
- " يا روحي المرأة مرأة كيفما نظرت إليها . . . "
- " امرأة ولكن ، بذاك الشكل ! "
- " في أي شكل كانت ، إنها امرأة كيفما نظرت إليها . "
خلال نصف ساعة انتشر الخبر وصارت قصة ( أنور ) الأعرج على كل لسان ، وصار سخرية في البلدة كلها ، وليس في المخفر فقط .
كان جمع غفير من أهالي البلدة يسير خلف رجال الدرك الذين قدموا لإلقاء القبض على ( سارا ) ، وكان الجمع يضحك ويشيد بالمرأة :
- " لله در هذه المرأة. امرأة بمائة رجل حقا ! "
- " لله درها ، لله درها . امرأة بمائة رجل حقا "
- " الحقيقة أنها امرأة جريئة تماماً . "
- " قولوا إنها البطلة قره فاطمة ! "
- " مثل هذه المرأة يقال عنها عثمانية . "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
**** امرأة بمائة رجل حقا