كان جمع غفير من أهالي البلدة يسير خلف رجال الدرك الذين قدموا لإلقاء القبض على ( سارا ) ، وكان الجمع يضحك ويشيد بالمرأة :
- " لله در هذه المرأة ! "
- " لله درها ، لله درها . "
- " الحقيقة أنها امرأة جريئة تماماً . "
- " قولوا إنها البطلة قره فاطمة ! "
- " مثل هذه المرأة يقال عنها عثمانية . "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
********
سينتقم مهما كلفه ذلك من مال أو سواه !
هذه الأفكار وأكثر منها ، بل والمخيفة منها سالت في مخه مثل السيل حتى داخل سيارة الجيب التي أقلَّتهم إلى المدينة . ماكان يبالي بالطعنات ولا بكمية الدماء الكبيرة التي فقدها . لكن كلام عمه الذي وجهه إليه في المخفر سحقه ، وكان غضبه يزداد ويزداد كلما فكر فيه .
زحف ( حبيب ) ثانية إلى طرف العلية وقد سمع وقع أقدام رجال الدرك والأهالي ، وسمع أحاديثهم . نظر إلى الأسفل : وإذ بالجموع تحتشد أمام باب الدار .
ضربوا الباب بقبضاتهم :
- " سيدة ( سارا ) ! "
كانت ( سارا ) تنتظر بطبيعة الحال .
نهضت عن الأريكة بعينين دامعتين مع ابنها المتمسك بأذيال ثوبها ، وخرجت وفتحت باب الحوش :
- " نعم ؟ "
سمعت ما قاله رئيس المخفر ، ولم تفهم شيئاً ، لكنها أيقنت أنها مطلوبة إلى المخفر ، حيث ستؤخذ إفادتها ، ثم تعتقل وترسل إلى محكمة الجرائم المشهودة في المدينة ، وربما تسجن .
لم تبد أية معارضة ، ولم تسأل أي سؤال . بل بادرت فأقفلت باب الغرفة أولاً ، ثم سحبت باب الحوش وأقفلته بعينين دامعتين ، ومشت أمام الجموع مع ابنها . لم تكن تسمع أصوات الجموع التي تتزايد خلفها .
********
كانت تفكر فقط في ( حبيب ) . ماذا سيفعل في العلية ؟ كيف سينزل إلى تحت ؟ وحتى إذا نزل بماذا سيشبع بطنه ؟ صحيح أنه يوجد طحين وبرغل ، وقليل من السمن في قعر الجرَّة ، بل ويوجد خبز أيضاً ، ولكنه رجل ، كيف سيدبر أموره ؟ وماذا ستكون نهايته ؟
لهذا كانت تبكي !
اقترب منها المساعد الأول وقال :
- " يا سيدة . . . حدث الذي حدث ، لا فائدة من البكاء . لا تقلقي لقد اعترف ( أنور ) أفندي في إفادته بأنه هو الذي تعرض لك ، وسجلنا ذلك في المحضر . بل وتنازل عن دعواه ، طبعاً القانون لا يتنازل . . . ولكن لن تُحكمي كثيراً ! "
( حبيب ) ، لو لم يكن حبيبها محشوراً في العلية لما همَّها أن تُحكم كثيراً أو قليلاً . لم تكن نادمة على طعنها ( أنور ) ، بل لقد كانت قادرة على قتله في تلك اللحظة ، ولكن ماذا سيحدث ل( حبيب ) ؟
كان ابنها ( سمير ) يبكي أيضاً ، أما سبب بكائه فكان احتمال عدم مغادرتهم هذه البلدة ، وعدم الذهاب إلى المدينة البعيدة ، ويبدو أن كل شيء انتهى الآن ، المدينة البعيدة ، وأبوه الذي في العلية ، ودراجته ذات الثلاث عجلات .
لم تنقطع الجموع التي خلفها عن الحديث :
- " المرأة على حق . . " .
- " طبعاً على حق . . . "
- " بأي حق يهجم عليها مثل الوحش ؟ "
- " لكن ، لله در هذه المرأة . إنها محافظة على شرفها . "
- " اْي . . .إذا لم تحب النفس ، هل يمكن أن يكون هناك حب بالإكراه ؟ "
- " هل يمكن ؟ . . هناك عقل ، وهناك منطق ! "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . "
وصلوا إلى المخفر . كان ( أنور ) هناك أيضاً .
منع رجال الدرك الفضوليين من الدخول ، أُغلق الباب . وبوشر بالتحقيق مع ( سارا ) .
وفيما كانت هذه الإجراءات تتخذ ، كان ( أنور ) في أحد جوانب المخفر ينظر غاضباً . مع أنه كان يعرف تماماً أنه هو المذنب ، إذ هجم على المرأة مثل الوحش ، وحاول اغتصابها بالإكراه ، من حيث أنه مذنب هو مذنب ، مع ذلك فهو يشعر بحقد عجيب بكرامته الرجولية المن**رة ، ويفكر بالانتقام لنفسه بنفسه لاعن طريق الدرك والمحكمة والسجن ، وهذا شيء لابد منه ، وإلا فإن سيرته ستصبح على كل لسان في البلدة . كذلك شرف عمه وكأنه لا يكفي أنه جعله يساوي ليرتين ، فإنه لن يستطيع رفع هذا الشرف عن الأرض التي رماه عليها .
********
سينتقم مهما كلفه ذلك من مال أو سواه !
هذه الأفكار وأكثر منها ، بل والمخيفة منها سالت في مخه مثل السيل حتى داخل سيارة الجيب التي أقلَّتهم إلى المدينة . ماكان يبالي بالطعنات ولا بكمية الدماء الكبيرة التي فقدها . لكن كلام عمه الذي وجهه إليه في المخفر سحقه ، وكان غضبه يزداد ويزداد كلما فكر فيه .
رفع رأسه لوهلة ، ونظر إلى ( سارا ) التي تحتضن ابنها في حضنها بشدة ، والتقت نظراتهما .
غمغم ( أنور ) الأعرج :
- " هذا دين سوف أرده لكِ ، فلا تنسيه ! "
أجابته ( سارا ) بلا ذرَّة خوف :
- " فليكن ولَك ، هل تهددني ؟ "
- " لا أعرف ، هل هو تهديد ، أم شيء آخر . "
- " إن قصَّرت في فعل ما تستطيعه يداك ، فليس هناك أسفل منك ! "
جُنَّ جنونه :
- " ويحك ! لا تجمعي الجنَّ فوق رأسي ! "
قالت متحفِّزة :
- " لتجتمع وسنرى ، ماذا سيحدث ؟ "
تدخل الدرك المسلحون بينهما لتهدئة الموقف ، ولكن ( سارا ) كانت منفعلة جداً ، بحيث لو زاد الرجل قليلاً ، كانت ستدفع ابنها عن حضنها وتهجم عليه .
تنهَّدت بحسرة ، لماذا ، آه لماذا لم تقتل هذا الد**ث ؟
إذن في هذه الحالة ، أو في مثل هذه الحالة من الانفعال ينقلب الإنسان إلى مجنون ويرتكب جناية ؟ لذلك لم يقولوا عبثاً : - " الانفعال أحلى من العسل . . . " .
خطر ببالها ( حبيب ) .
هو أيضاً إذن قتل المزارع الكبير ( عثمان ) بيك ، ثم حرَّض الفلاحين على إحراق مزرعته ، بسبب انفعال أحلى من العسل ؟ نعم ، نعم ، إنها تدرك وتدرك جيداً أن : القاتل وليس القتيل على حق !
حسناً ، ولكن ماذا سيفعل الآن وهو خلف أقفال وأقفال ، بين غبار وتراب علية ضيقة منخفضة ، جائع ، عطشان وبلا سجائر ؟ لم تكن تفكر بسجائره بل بعطشه ، ولكن لا لم يكن بلا ماء ، فهناك ماء في الطست وفي الخابية !
قال ابنها بصوت خافت خائف :
- " ماما . . "
- " ؟ "
ولما وقعت عينا الطفل على ( أنور ) الأعرج قال :
- " لاشيء . "
فهمت المرأة أن هناك ما يشغل بال ابنها فقالت :
- " كيف لا شيء ؟ "
- " . . . . . . . . . ؟ "
- " تكلم ! "
قال وعيناه على ( أنور ) الأعرج :
- " إني أخاف من هذا ! "
نظرت إليه المرأة بقسوة ، التقت نظراتهما .
- " ما الذي يخيفك منه ؟ "
لكن لم يكن هذا ما يريد الطفل قوله ، مال بفمه على أذن أمه وهمس :
- " أبي ! "
- " مابه أبوك ؟ "
- " وإن غادر ثانية هذه الليلة ؟ "
- " إلى أين ؟ "