***
المال والملك والنقود والدنيا في كفة ، و( حبيب ) في الكفة الأخرى !
خرجت من البيت في ذلك اليوم ، كعادتها في كل يوم ، تحمل غسيلها المغسول والمكوي . فاجتازت أزقة البلدة المغبَّرة بسرعة .
لم يخطر ببالها ( أنور ) الأعرج ، بل ولا حتى ابنها ( سمير ) ، كان في ذهنها ( حبيب ) ، وحده ( حبيب ) !
كانت تفكر في الليل ، وفي اللحظات الممتعة التي قضتها بين ذراعي الرجل القويتين في الليل ، وتتحرق شوقاً لأن تنهي عملها بأسرع ما يمكن لتعود إلى البيت .
وأثناء مرورها من أمام المخفر توقفت فجأة : لمحت مجموعة من الضباط ورجال درك جدد . . .
جن جنونها ، هل سيحاصر هؤلاء الدرك الجدد القرية ، وهل سيفتشون بيوتها يا ترى ؟ . . .
دخلت في الزحام ، كان فيه كثير من معارفها من أهل البلدة .
- " ما هؤلاء الدرك ؟ "
همس رجل أ**د ناحل من معارفها ، كمن يفشي سراً :
- " سوف يفتشون البلدة ، لقد هرب أحدهم وجاء إلى هذه الأنحاء واختبأ هنا . "
فهمت ( سارا ) كل شيء ، فحثت خطاها وأسرعت لاهثة وهي تفكر ب( حبيب ) . يجب أن تسلِّم الغسيل بسرعة ، وأن تخرج إلى الغابة لجمع الحطب لغسل غسيل الغد .
وفيما هي تسلِّم الغسيل أصغت إلى ما يدور من أحاديث ، كانت كلها تؤكد : تفتيش البيوت بيتاً بيتاً !
********
عبرت طرقات القرية بخطوات متعثرة ، ودلفت إلى الغابة . ستسرع وتنهي عملها قبل دقيقة ، وبعد أن تشتري ما تحتاجه من السوق ، سوف تسرع إلى البيت ، إلى الرجل الذي تحبه ، وسوف تشرح له الوضع على حقيقته ، رغم أنها تدرك أنه لا يحب الخوض في هذا الموضوع ، ولكن ماذا يمكنها أن تفعل ، فعدم الرغبة لا يدفع الخطر المقترب !
دلفت إلى الغابة .
كانت الغابة الكبيرة تضج بزقزقات مختلف أنواع العصافير المختفية مختلطة بصرير الحشرات . والأشجار العملاقة والكثيفة المتشابكة العالية ، تخفي وتحجب حتى الشمس الحارقة .
وضعت جانباً حقيبة الخضار من باذنجان وطماطم وفلفل خضراء ، اشترتها من البقالة التي تقع خلف مقهى ( عتاقة ) داخل السوق ، وذلك بعد أن سلمت الغسيل . وراحت كما في كل يوم تجمع الأغصان والعيدان ، كانت أغصان الأشجار الجافة كثيرة ، ف**رتها وجمعتها في جانب ، حتى صارت كومة كبيرة ، وفيما كانت تحزمها وتربطها بحبلها :
- " هل أساعدك يا ( سارا ) ؟ "
التفتت بقوة ، رأته ، إنه ( أنور ) الأعرج .
وبحدَّة أجابته : " كلا ! "
- " كلا " ، ولكن هذا ( أنور ) ، وهل هو من الذين يحلّون عم سماها بسهولة ؟
اقترب كذبابة لذجة : " لماذا ؟ "
انتصبت ( سارا ) : " ( أنور ) اذهب وابتعد ، وإلا ستسوء الأمور ! "
اقترب القميء أكثر ويده خلف ظهره حتى صار بجانبها . كان أقصر قليلاً من المرأة ، لكن جسمه كان عملاقاً .
- " إذن ستسوء الأمور ؟ "
- " ( أنور ) ! "
- " نعم يا قلبي ؟ "
- " وجع قلبك . بَلاكَ الله ببلاء . "
كانت حذرة متيقظة ، فهي تعرف أن الكلب قد يباغتها قريباً ويهجم عليها ويحاول أن يأخذها تحته ، أدخلت الحبل تحت كومة الأغصان الجافة ، وسحبته ورصَّت الكومة ، وربطت الحبل جيداً ، وفيما كانت سترفعها على ظهرها . جذب ( أنور ) الكومة ، فانقلبت ( سارا ) على ظهرها مع كومة الأغصان .
هجم عليها ( أنور ) الأعرج .
- " هل سأنشغل معك أيها الكافر ابن الملحد ؟ "
ونشب بينهما عراك . كانت ( سارا ) كالمخبولة ، تحاول الوقوف على قدميها ، وهي تشتمه بحنق : " أموت ولا أسلمك نفسي . " فيجيبها ( أنور ) الأعرج المصمم : " ستسلمين ! "
- " لن أسلم ! "
- " أقول لكِ ستسلمين يا ( سارا ) ! "
- " لن أسلِّم ، لن أسلِّم ، لن أسلِّم ! "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . "
تمزقت ثياب المرأة ، وتشعث شعرها ، وهي تعارك بحقد وبضراوة وبكل ما تملكه من قوة . كانت تجاهد للتخلص من قبضتي الأعرج القويتين ، وقد احمرَّ بياض عينيها ، وملأت الخدوش رقبتها وحلقها . لن تسلِّم مهما حصل ، تموت ولا تسلِّم نفسها لرجل آخر غير ( حبيب ) .
- " ( سارا ) دعي العناد . انظري إننا بمفردنا ، ولا أحد هنا غيرنا ، كوني عاقلة ، فلا أخبر أحداً ، وأعطيك ما تشائين من مال ! "
- " فلتتمزَّق الأموال فوق رأسك ، كلب ابن كلب ! "
- " أنا ؟ أتقولين هذا لي ؟ لي أنا ؟ "
- " طبعاً لك ، أنت كلب ، كلب ابن كلب ! "
- " . . . . . . . . . . . . . . . ؟ "
- " . . . . . . . . . . . . "
احتدم العراك من جديد ، وراحت صفعات ورفسات ولكمات المرأة تنهال على وجه ( أنور ) المحترق تماماً تحت أشعة الشمس ، لكنه لم يكن يبالي ، بل كان يستمتع بذلك . لم يكن يهمه حتى سكين أو مسدس هذه المرأة التي يتحرق ويتحسر عليها منذ سنوات ، لا صفعاتها ولكماتها فحسب .
رفسته فجأة رفسة أقوى من كل مرة .
هذه الرفسة التي أصابت فك ( أنور ) الأعرج جعلته يترنح ويسقط على ظهره على الأرض ، فاستلت ( سارا ) سكينها ذا النصاب المعدني اللماع ، وطعنت الرجل الذي هاجمها مثل ثور هائج ، عدة طعنات عشوائية ، أصابت بطنه وخاصرته . سقط ( أنور ) على أثرها على الأرض وهو يخور ، فأمسكت ( سارا ) نعليها بيدها وجرت هاربة بشعرها الأشعث وثيابها الممزقة .
وصلت البيت .
كان أهل الحي جميعاً وعلى رأسهم ( شريفة ) في غاية الحيرة .
دخلت ( سارا ) التي لم تلاحظ شيئاً ، من باب الحوش ، وأحكمت إغلاقه ثم أوصدته بالمزلاج الخشبي ، وركضت فدخلت الغرفة مسرعة ، وصارت فجأة أمام ( حبيب ) وابنها .
كان ( حبيب ) جالساً وسط الغرفة يصنع ل( سمير ) عربة بعجلات من بكرات الخيطان .
هبَّ واقفاً : " ما هذا ؟ "
قالت ( سارا ) التي كاد يغمى عليها : " أسرع واصعد إلى الأعلى واختبئ !
- " ماذا هناك ؟ ماذا حدث ؟ "
- " تعرَّض لي ( أنور ) الأعرج الكلب في الغابة ، فطعنته بالسكين ، ولابد أنهم سيحضرون لإلقاء القبض عليَّ . اصعد إلى العلية واختبئ فوراً ! "
اهتزَّ ( حبيب ) للحظة كمن تلقى صفعة . وغامت عيناه ، الآن اكتمل الأمر ، سوف يحضرون بعد قليل ليلقوا القبض على المرأة . . . ثم ؟ . .لم يكن هناك متسع للتفكير في ثم . إذ تجمهر الجيران وتجمعوا حول البيت ، وراحوا يتحدثون عن ( سارا ) بصخب ولغط كبيرين : " ماذا كانت حالة تلك المرأة ؟ "
- " والله ، لم أعرف شيئاً . . . "
- " كانت ثيابها ممزقة ، وشعرها منكوشاً . "
- " ووجهها ويداها ملأى بالخدوش والجروح . "
- " هل هاجمها ذئب في الغابة يا ترى ؟ "
- " أي ذئب هذا ؟ "
***