مدمن الأفيون

1305 Words
قال المساعد الأول الذي يزرع غرفة المخفر جيئة وذهاباً واضعاً يديه خلف ظهره :  "  لا يستطيع الطيران  ، لا يستطيع الطيران ولو كان طائراً  ، ولكن إمَّا أنه لم يأت إلى هذه الأنحاء  ، وإمَّا أنه مختبئ في مكان لا يخطر على بال  . عليك أن تنتهي من نسخ هذه التعميمات اليوم  . إني ذاهب إلى المقهى  ، وإذا جاءني هاتف أو غيره أخبرني فوراً ! " ودون أن ينتظر سماع جملة -  " حاضر سيدي المساعد الأول "  من الكاتب الجالس وراء الآلة الكاتبة  ، غادر الغرفة : تعج هذه البلدة الغنية من بلدان ( جاكور أوفا ) بالمقاهي  ، وقد انقسمت هذه المقاهي إلى قسمين  ، فأغلب المقاهي الكبيرة والصغيرة ملك لأعضاء الحزب الديمقراطي  ، وبقية المقاهي لأعضاء حزب الشعب الجمهوري  ، وهناك بعض المقاهي في الأطراف والزوايا لأعضاء حزب الأمة  ، لكنها لم تكن تشبه مقاهي الحزبين الآخرين  . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * أما أكبر مقاهي البلدة فكانت مقهى ( عتاقة ) الذي يتقدم حثيثاً في الحزب الديمقراطي  ، والذي يعرف الجميع أنه كان حتى البارحة يلعب القمار على جانبي الخندق مع عمال الحفر نهاراً  ، وفي الليل يسطو على البيوت فيحمل ما تيسَّر مما خفَّ وزنه وغلا ثمنه ويقول له :  " هيا بنا "   . لذلك سُجن أيام حكم حزب الشعب الجمهوري  ، بل إن بعض عقلاء الديمقراطيين لم يكونوا غير مستائين ضمناً من تقريب  أمين فرع المنطقة لهذا الرجل  ، وكان هؤلاء حزبيين مخلصين يحبون حزبهم فعلاً  ، لكن أصواتهم لم تكن مسموعة  ، فيما كان الذين يتلاءمون مع ديناميكية رئيس الوزراء يوضعون تيجاناً على الرؤوس  . وبالاعتمادات المصرفية العملاقة التي كانت تمنح  " للديمقراطيين الديناميكيين "  سرعان ما أصبح هؤلاء ذوي أموال وأملاك وأعمال  . أما سبب لمعان نجم ( عتاقة ) القهوجي فهو أنه كان في انتخابات 1950 يشرب الكحول ويملأ رأسه ثم ينضم إلى تجمعات الدعايات الانتخابية التي تقام في مختلف ساحات ( أضنه )  ، فيصيح وينادي بسبب وبلا سبب   " تعيش ! دمت سالماً ! ! أسم الله عليك ! ! ! "   وأمثال ذلك من كلمات كانت تخرج الحزبيين الآخرين عن أطوارهم  ، وهو يطلقها بأعلى وأقوى صوت  . وفي إحدى المشاجرات التي وقعت في لحظات الانفعال والتوتر  ، ضرب عضوين من أعضاء حزب الشعب الجمهوري فأدمى فميهما وأنفيهما  ، وألقي بهِ في السجن  . لكن سجنه لم يكن مؤثراً  . لقد فاز الحزب الديمقراطي في انتخابات 1950 فيما كان ( عتاقة ) في السجن  . وبالاستفادة من العفو مثل كثيرين غيره  ، خرج ( عتاقة ) من السجن بطلاً من الأبطال  ، وأوصل إلى البلدة بشاحنة كبيرة مزدانة بالأعلام  ، يلفه الغبار والدخان  ، وتحيط به صيحات الفرح والنصر  . وإذ به في البلدة بلا بيت  ، بلا مأوى  ، بلا عمل  .  . وسبب ذلك ؟ السبب أنه عضو في الحزب الديمقراطي  ، وأن حزب الشعب الجمهوري معادٍ له  . وفي هذه الحالة كيف يجب التصرف ؟ في غاية البساطة  ، يجب أن يُمنح القروض المصرفية اللازمة مثل كل مواطن عضو في الحزب الديمقراطي  . يجب أن يُعتبر ( عتاقة ) أيضاً إنساناً ويوضع في لائحة البشر  . بعدها سارت الأمور على ما يرام  .  .قروض مصرفية طويلة الأجل من مختلف المصارف  .  . شراؤه في البداية أحدَ المقاهي الصغيرة في وسط البلدة بسعر زهيد  ، ثم هدمُه للمقهى وإشادة مقهى حديث نظيف جميل المظهر  ، مطبخه وأدواته جديدة لامعة براقة  ، جعله بطلاً قومياً  . إنه صادق ومخلص للحزب ولشرف الحزب  ، ولقيادة فرع الحزب في المنطقة  ، وللقيادة العامة للحزب ولكل من تعتمدهم وتثق بهم ! وعندما بنى بعد المقهى بيتاً جميلاً من الإسمنت  ، مكوَّناً من طابقين  ، بدأ ( عتاقة ) يزداد وزناً ويصبح أكثر سمنة  ، وكان لديه استعداد لذلك من الأول  ، إذ سرعان ما ظهر له كرش ضخم  ، ثم صارت له زوجة وأولاد  . وسرعان ما كان يطلق العنان للسانه عندما يلاحظ أن أحداً من الجمهوريين ينظر إليه من بعيد نظرات ذات معنى ومغزى  ، وإذا ما أخطأ أحدهم وحاول الأجابة والرد  ، لم تعد هناك حاجة لـ( عتاقة )  ، إذ كانوا يعملون له المطلوب وأكثر  . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * عندما دخل المساعد الأول رئيس المخفر المقهى  ، وبيده صورة الهارب ( حبيب )  ، كان ( عتاقة ) يجلس مع ( هاشم بك ) عم ( أنور ) الأعرج  ، وأمثاله من الأغوات ذوي الكروش المترهلة  ، وصفوف الأسنان المذهَّبة  ، يحدثهم عن ليلة البارحة التي أمضاها حتى الصباح مع امرأة تدعى ( جالا )  ، تعرَّف عليها حديثاً في أحد ملاهي ( أضنه )  . قال مرحباً بالمساعد الأول الذي دخل :  " أهلاً ماركا الأسد  . تفضل ! " تحرَّك الأغوات في أماكنهم  . لكنَّ المساعد الأول تواضع قدر إمكانه أمام أبرز آغوات الحزب الديمقراطي في البلدة  ، وقال :  " لا تزعجوا أنفسكم  ، حباً لله لا تزعجوا أنفسكم ! " لم يزعج أحد نفسه أصلا  . هؤلاء الآغوات الذين يرتدون سراويل من القماش الإنجليزي الكحلي  ، مطرَّزة الجيوب  ، هم أيضاً مثل ( عتاقة ) صاروا أغوات بعد أن استلم الحزب الديمقراطي السلطة  . ( هاشم بك )  ، ( ولي ) بك  ، ( جبَّار ) بك  ، ( قدُّوسي ) بك… هؤلاء هم أبرز وأغنى أغوات البلدة  . أغوات السيارات الفارهة  ، والمشغولات الذهبية التي تغطي سواعد زوجاتهم وبناتهم وكنائنهم حتى المرافق  . الذين أشادوا مكان بيوتهم العتيقة قصوراً شاهقة ذات صالات واسعة تصدح فيها أجهزة الراديو والمسجلات  ، وذات مطابخ فيها المواقد الكبيرة والغسالات الكهربائية  . ألم يكن لقدوم المساعد الأول أي تأثير ؟ قال ( هاشم بك ) من طاولته مخاطبا ً( عتاقة ) الذي يجلس على طاولة مقابلة واضعاً رِجلاً فوق رِجل : " وبعد ذلك ؟ " وقبل أن يبدأ بإكمال حديثه الذي انقطع  ، التفت ( عتاقة ) إلى المطبخ ونادى : " ( بكداش ) ! "   ومن بين كؤوس الشاي اللامعة  ، وفناجين القهوة النظيفة وزجاجات المياه الغازية البرَّاقة  ، نظر ( بكداش ) بعينيه الصغيرتين الذابلتين  ، في وجهه الذي غاض ماؤه  ، والمخمور بفعل تعاطي الأفيون  ، وصاح :  "  تفضَّل يا بك ! "   - "  قهوة المساعد الأول بسكُّر قليل  . "   تحرَّك مدمن الأفيون ( بكداش )  ، وهو يردد شعراً لا ينساه  ، ولا يفتأ يردِّده دوماً بطريقة المدمنين  " مدَدْ يا معذبتي سَنم                    ألا تكونين دواءً لدائي ؟ "  وفيما هو يضع ركوة القهوة على النار  ، راح صاحب المقهى يكمل حديثه الذي انقطع : " لكنَّ المرأة ذات أموال وعقارات يا صاحبي ! فقلت لها  ، ألا تتركين هذه العيشة وتعيشين معي يا عزيزتي ؟ نظرت في وجهي وقالت يا عمي من السُّمِّ شفاء ومنَّا الوفاء  . لقد مشيت مرَّة في هذه الطريق  ، وإني حتى لو تبت وانسحبت لعندك  ، لا أعدك بأني سأبقى شريفة  . " اهتاج ( أنور ) الأعرج الجالس وراء عمه مصغياً بانتباه  ، وصاح : " الله الله  .  . أرأيت المرأة المحاربة ؟ " وعلَّق الآخرون على الموضوع نفسه :  "  الع***ة الماهرة  .  . حلال عليها  . " - "  لا تنظر إلى عهرها  ، يبدو أنها تربت جيداً  . "   - "  أليس كذلك يا ( هاشم بك ) ؟ " أخذ ( عتاقة ) الحديث بحماس  ، وتابع قائلاً : " جئت والمرأة إلى فندق أمين فرعنا  . ألا تعلمون أن فتيات الملاهي يَنَمْنَ هناك ؟ الكاتب يعرفني  ، وإن سألت عن الشرطة إنه فندق أمين الفرع  ، فمن يستطيع التشويش ؟ باختصار دخلنا غرفة مفروشة بالحرير  . "  
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD