قال المساعد الأول الذي يزرع غرفة المخفر جيئة وذهاباً واضعاً يديه خلف ظهره : " لا يستطيع الطيران ، لا يستطيع الطيران ولو كان طائراً ، ولكن إمَّا أنه لم يأت إلى هذه الأنحاء ، وإمَّا أنه مختبئ في مكان لا يخطر على بال . عليك أن تنتهي من نسخ هذه التعميمات اليوم . إني ذاهب إلى المقهى ، وإذا جاءني هاتف أو غيره أخبرني فوراً ! "
ودون أن ينتظر سماع جملة - " حاضر سيدي المساعد الأول " من الكاتب الجالس وراء الآلة الكاتبة ، غادر الغرفة :
تعج هذه البلدة الغنية من بلدان ( جاكور أوفا ) بالمقاهي ، وقد انقسمت هذه المقاهي إلى قسمين ، فأغلب المقاهي الكبيرة والصغيرة ملك لأعضاء الحزب الديمقراطي ، وبقية المقاهي لأعضاء حزب الشعب الجمهوري ، وهناك بعض المقاهي في الأطراف والزوايا لأعضاء حزب الأمة ، لكنها لم تكن تشبه مقاهي الحزبين الآخرين .
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
أما أكبر مقاهي البلدة فكانت مقهى ( عتاقة ) الذي يتقدم حثيثاً في الحزب الديمقراطي ، والذي يعرف الجميع أنه كان حتى البارحة يلعب القمار على جانبي الخندق مع عمال الحفر نهاراً ، وفي الليل يسطو على البيوت فيحمل ما تيسَّر مما خفَّ وزنه وغلا ثمنه ويقول له : " هيا بنا " . لذلك سُجن أيام حكم حزب الشعب الجمهوري ، بل إن بعض عقلاء الديمقراطيين لم يكونوا غير مستائين ضمناً من تقريب أمين فرع المنطقة لهذا الرجل ، وكان هؤلاء حزبيين مخلصين يحبون حزبهم فعلاً ، لكن أصواتهم لم تكن مسموعة ، فيما كان الذين يتلاءمون مع ديناميكية رئيس الوزراء يوضعون تيجاناً على الرؤوس . وبالاعتمادات المصرفية العملاقة التي كانت تمنح " للديمقراطيين الديناميكيين " سرعان ما أصبح هؤلاء ذوي أموال وأملاك وأعمال .
أما سبب لمعان نجم ( عتاقة ) القهوجي فهو أنه كان في انتخابات 1950 يشرب الكحول ويملأ رأسه ثم ينضم إلى تجمعات الدعايات الانتخابية التي تقام في مختلف ساحات ( أضنه ) ، فيصيح وينادي بسبب وبلا سبب " تعيش ! دمت سالماً ! ! أسم الله عليك ! ! ! "
وأمثال ذلك من كلمات كانت تخرج الحزبيين الآخرين عن أطوارهم ، وهو يطلقها بأعلى وأقوى صوت . وفي إحدى المشاجرات التي وقعت في لحظات الانفعال والتوتر ، ضرب عضوين من أعضاء حزب الشعب الجمهوري فأدمى فميهما وأنفيهما ، وألقي بهِ في السجن .
لكن سجنه لم يكن مؤثراً .
لقد فاز الحزب الديمقراطي في انتخابات 1950 فيما كان ( عتاقة ) في السجن . وبالاستفادة من العفو مثل كثيرين غيره ، خرج ( عتاقة ) من السجن بطلاً من الأبطال ، وأوصل إلى البلدة بشاحنة كبيرة مزدانة بالأعلام ، يلفه الغبار والدخان ، وتحيط به صيحات الفرح والنصر . وإذ به في البلدة بلا بيت ، بلا مأوى ، بلا عمل . .
وسبب ذلك ؟
السبب أنه عضو في الحزب الديمقراطي ، وأن حزب الشعب الجمهوري معادٍ له . وفي هذه الحالة كيف يجب التصرف ؟ في غاية البساطة ، يجب أن يُمنح القروض المصرفية اللازمة مثل كل مواطن عضو في الحزب الديمقراطي . يجب أن يُعتبر ( عتاقة ) أيضاً إنساناً ويوضع في لائحة البشر .
بعدها سارت الأمور على ما يرام . .قروض مصرفية طويلة الأجل من مختلف المصارف . .
شراؤه في البداية أحدَ المقاهي الصغيرة في وسط البلدة بسعر زهيد ، ثم هدمُه للمقهى وإشادة مقهى حديث نظيف جميل المظهر ، مطبخه وأدواته جديدة لامعة براقة ، جعله بطلاً قومياً . إنه صادق ومخلص للحزب ولشرف الحزب ، ولقيادة فرع الحزب في المنطقة ، وللقيادة العامة للحزب ولكل من تعتمدهم وتثق بهم !
وعندما بنى بعد المقهى بيتاً جميلاً من الإسمنت ، مكوَّناً من طابقين ، بدأ ( عتاقة ) يزداد وزناً ويصبح أكثر سمنة ، وكان لديه استعداد لذلك من الأول ، إذ سرعان ما ظهر له كرش ضخم ، ثم صارت له زوجة وأولاد . وسرعان ما كان يطلق العنان للسانه عندما يلاحظ أن أحداً من الجمهوريين ينظر إليه من بعيد نظرات ذات معنى ومغزى ، وإذا ما أخطأ أحدهم وحاول الأجابة والرد ، لم تعد هناك حاجة لـ( عتاقة ) ، إذ كانوا يعملون له المطلوب وأكثر .
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
عندما دخل المساعد الأول رئيس المخفر المقهى ، وبيده صورة الهارب ( حبيب ) ، كان ( عتاقة ) يجلس مع ( هاشم بك ) عم ( أنور ) الأعرج ، وأمثاله من الأغوات ذوي الكروش المترهلة ، وصفوف الأسنان المذهَّبة ، يحدثهم عن ليلة البارحة التي أمضاها حتى الصباح مع امرأة تدعى ( جالا ) ، تعرَّف عليها حديثاً في أحد ملاهي ( أضنه ) .
قال مرحباً بالمساعد الأول الذي دخل : " أهلاً ماركا الأسد . تفضل ! "
تحرَّك الأغوات في أماكنهم . لكنَّ المساعد الأول تواضع قدر إمكانه أمام أبرز آغوات الحزب الديمقراطي في البلدة ، وقال : " لا تزعجوا أنفسكم ، حباً لله لا تزعجوا أنفسكم ! "
لم يزعج أحد نفسه أصلا . هؤلاء الآغوات الذين يرتدون سراويل من القماش الإنجليزي الكحلي ، مطرَّزة الجيوب ، هم أيضاً مثل ( عتاقة ) صاروا أغوات بعد أن استلم الحزب الديمقراطي السلطة . ( هاشم بك ) ، ( ولي ) بك ، ( جبَّار ) بك ، ( قدُّوسي ) بك… هؤلاء هم أبرز وأغنى أغوات البلدة . أغوات السيارات الفارهة ، والمشغولات الذهبية التي تغطي سواعد زوجاتهم وبناتهم وكنائنهم حتى المرافق . الذين أشادوا مكان بيوتهم العتيقة قصوراً شاهقة ذات صالات واسعة تصدح فيها أجهزة الراديو والمسجلات ، وذات مطابخ فيها المواقد الكبيرة والغسالات الكهربائية .
ألم يكن لقدوم المساعد الأول أي تأثير ؟
قال ( هاشم بك ) من طاولته مخاطبا ً( عتاقة ) الذي يجلس على طاولة مقابلة واضعاً رِجلاً فوق رِجل : " وبعد ذلك ؟ "
وقبل أن يبدأ بإكمال حديثه الذي انقطع ، التفت ( عتاقة ) إلى المطبخ ونادى : " ( بكداش ) ! "
ومن بين كؤوس الشاي اللامعة ، وفناجين القهوة النظيفة وزجاجات المياه الغازية البرَّاقة ، نظر ( بكداش ) بعينيه الصغيرتين الذابلتين ، في وجهه الذي غاض ماؤه ، والمخمور بفعل تعاطي الأفيون ، وصاح : " تفضَّل يا بك ! "
- " قهوة المساعد الأول بسكُّر قليل . "
تحرَّك مدمن الأفيون ( بكداش ) ، وهو يردد شعراً لا ينساه ، ولا يفتأ يردِّده دوماً بطريقة المدمنين
" مدَدْ يا معذبتي سَنم ألا تكونين دواءً لدائي ؟ "
وفيما هو يضع ركوة القهوة على النار ، راح صاحب المقهى يكمل حديثه الذي انقطع : " لكنَّ المرأة ذات أموال وعقارات يا صاحبي ! فقلت لها ، ألا تتركين هذه العيشة وتعيشين معي يا عزيزتي ؟ نظرت في وجهي وقالت يا عمي من السُّمِّ شفاء ومنَّا الوفاء . لقد مشيت مرَّة في هذه الطريق ، وإني حتى لو تبت وانسحبت لعندك ، لا أعدك بأني سأبقى شريفة . "
اهتاج ( أنور ) الأعرج الجالس وراء عمه مصغياً بانتباه ، وصاح : " الله الله . . أرأيت المرأة المحاربة ؟ "
وعلَّق الآخرون على الموضوع نفسه : " الع***ة الماهرة . . حلال عليها . "
- " لا تنظر إلى عهرها ، يبدو أنها تربت جيداً . "
- " أليس كذلك يا ( هاشم بك ) ؟ "
أخذ ( عتاقة ) الحديث بحماس ، وتابع قائلاً : " جئت والمرأة إلى فندق أمين فرعنا . ألا تعلمون أن فتيات الملاهي يَنَمْنَ هناك ؟ الكاتب يعرفني ، وإن سألت عن الشرطة إنه فندق أمين الفرع ، فمن يستطيع التشويش ؟ باختصار دخلنا غرفة مفروشة بالحرير . "