الفاتنة

1685 Words
***** * * * * * * * * * * * * * كانت (سميرة الطنطاوي) الابنة الوحيدة للمزارع الثري، من بين تابعيه الموسيقيين الذي يجمعهم في مساء ليلة من كل أسبوع، فتاة يافعة في الثامنة عشرة من عمرها ممتلئة كطائر الحجل، ناضجة ذات وجنات وردية كالخوخ الذي يزرعه والدها، ذات شهرة واسعة ليس فقط بسبب جمالها ولكن أيضا لقدراتها على التنبؤ بشكل واسع، مع قدر من الغنج يتضح من طريقتها في اختيار ملابسها، فهي ترتدي ملابس تجمع ما بين التصميمات القديمة والحديثة بحيث تبرز مفاتنها، كما ترتدي حلى من الذهب الخالص ورثتها عن جدة جدتها لوالدها والذي كانت قد حصلت عليه من (البندر)، ملابسها كانت تظهر بطنها بشكل مثير كما في الزمن السابق، تنورتها كذلك كانت قصيرة بشكل مغري، تظهر ساقيها وكاحلهيا الأجمل في البلدة. كان (عادل حمدان) يتمتع بقلب حنون وطائش تجاه الجنس الآخر، كانت عيناه تفضحان شوقه وهيامه في كل مرة يزور (سميرة) في قصر والدها الريفي الواقع على ضفاف الشط، سراي رائعة شاهقة والتي تعتبر صورة للنهضة والتحرر من القالب الريفي المعتاد، كان (سيد بيك الطنطاوي) قانعا بثروته لا ينظر إلى ما هو خارج حدود أملاكه الثرية والغنية بالأناقة، في إحدى مرابعها الخضراء توجد زوايا قصية تغطيها فروع شجرة دردار عملاقة يرعى فيها المزارعون الهولنديون الفراخ الصغيرة، و في نهايتها كان الماء يسعى رقراقاً، ومخازن الحبوب المحيطة بالقلعة تتفجر نوافذها وشقوقها بكنوز وخيرات الحقل، والحمام يمرح بين الأبراج التي يداعبها شروق الشمس بأعلى القلعة، قطعان الماعز بخوارها ترقد ب**ل في مضاجعها، مجاميع منظمة من الإوز الأبيض تلهو في البركة المحاذية تواكبها مجاميع من البط وتنظيمات من الديوك الرومية تصدح عبر ساحة الحقل. كان (عادل حمدان) يغط في أحلام اليقظة التي تتراءى له بخنزير مطهو في فمه تفاحة مشوية بين فكيه والحمامات ممددة في شطيرة ترفل في فراش من الخبز، والإوز يسبح في المرق، وأزواج من البط تستريح في الصحون، يحيطها صوص البصل وغيرها وغيرها من أحلام اليقظة التي جعلت ذلك المرح يجيل عيونه الخضراء بين المروج النضرة المتخمة وحقول القمح الغنية والغجر والحنطة السوداء، الذرة الهندي، البستان المورد بالفاكهة وهو يحتضن قصر (الطنطاوي) الدافئ، هفا قلبه للفتاة التي سترث كل هذا النعيم، اتسع خياله أكثر وفكر كيف سيتحول كل ذلك إلى نقود سائلة، يستثمرها في مجالات هائلة في الحياة المدنية، تخيل (سميرة) والأطفال الصغار يستقلون عربة مملوءة بأغراض البيت، وهو يتقدمهم بمُهر كأنه زعيم الركب. حين دخل إلى بيت (سميرة) كان قلبه منصاع تماما لهواه، كان واحدا من البيوت الريفية ذات الأسقف المرتفعة المدرجة، شيد على طراز بيوت المستعمرين الهولنديين الأوائل، الإفريز البارز يتشكل كشرفة في المقدمة دخل عبرها (عادل حمدان)المبهور إلى الساحة التي تتوسط القصر، بهرت عيونه الأعمدة اللامعة والأطباق القصديرية المرصوصة في الخزانة، وحقيبة كبيرة من الصوف ذات أذنين من الذرة الهندي وحبال من التفاح والخوخ المجفف تعانقها حبال من الزهور على طول الحائط، والباب النصف موارب أتاح له رؤية غرفة الاستقبال حيث المقاعد ذات الأرجل المشكلة على هيئة مخالب ومنضدة من الماهوجني الغامق تلمع كالمرايا وتزين رف المستوقد عدد من الحلازين والمحارات وحبات برتقال صناعية وحبال من بيض الطيور الملون مدلاة فوقه، بينما تركت خزانة في الركن مفتوحة تعرض كنوز هائلة من الفضة الأثرية وأوعية صينية مرممة. فقد (عادل حمدان) السيطرة على عقله منذ أن جالت عيونه في هذا الفردوس وأصبح شغله الشاغل هو كيفية استحواذ قلب الابنة الوحيدة لـ (الطنطاوي) كيفما كانت تلك المغامرة، فعليه التغلب على عشاقها الريفيين الذين يتربص الواحد منهم للآخر طوال الوقت، ناهيك عن أكثرهم رعبا (إبراهيم) والذي يطلق عليه كمختصر (الفتوة) القوي البنية، الهائل، المرعب، الطائش بطل البلدة بأكملها، المشهور بأعماله البطولية ذات القوة والبسالة، بأكتافه العريضة وشعرة القصير المجعد الأ**د، وهيئته التي تجمع بين المرح والغطرسة وهدوء الملامح، ونتيجة لقوته أطلق عليه (الفتوة الضخم) حيث اشتهر بمهارته في الفروسية فهو الأول في كل السباقات وكذلك صراع الد*كة، أهّلته قواه الجسدية لحل جميع النزاعات فهو دوما مستعد لأي معركة أو مزاح، تغلّب ميله للإيذاء والسخرية على الرفق في شخصيته، له ثلاثة أو أربعة من الرفاق يعتبرونه قدوتهم وحامى بلدتهم يتذكرون كل مشاهد المعارك التي خاضها فأحيانا والتي تهز سكون الليل على طول المنازل الريفية مع الصيحات والهتافات وصياح المسنات "هاهو الفتوة الضخم ورفاقه"، وأحيانا كان يمارس بعضا من تودده الخشن على (سميرة) ومداعباته الشبيهة بمداعبات الدببة والتي يصر أنها تروق إليها بعض الشيء، مما جعل المنافسين له في حبها يتراجعوا بمجرد رؤية حصانه وقد ربط بسياج بيت (الطنطاوي) في ليالي الأحد. كان هذا هو المنافس الذي يحسب له (عادل حمدان) حساب، آخذا في الاعتبار ما يتمتع به (الفتوة) من قوة تجعله يتفوق عليه في أي مقارنة بينهما، كان (عادل حمدان) يتمتع بالمثابرة والتفاؤل بطبعه فكان بمثابة عمود ساري السفينة الدوار ينحني ولا ين**ر، كان من الجنون أن يترك (عادل حمدان) الباب مفتوحا أمام منافسه لذلك كان يأتي في زيارات متكررة إلى بيت (الطنطاوي) الريفي بحجة كونه السيد المغني، فأخذ يتودد إلى الفتاة ويجلس معها تحت شجر الدردار خلال الربيع مستغلا عدم تدخل أبيها بطبيعة شخصيته المتساهلة المحبة لابنته حد عشقه لغليونه، وكأب عاقل وممتاز ترك لابنته الحرية التامة في كل شيء، وكذلك أعطى زوجته الشابة الأثيرة مطلق الحرية في تدبير شئون البيت والدواجن، بينما هي منشغلة بأمور البيت أو قابعة في أحد الأركان تغزل كان زوجها يدخن غليونه في الجهة الأخرى وهو يتابع إنجازات الحارس المتقاعس المسلح بالسيوف في كلتا يديه يحارب الرياح بجرأة فوق برج يعلو مخزن الحبوب و(عادل حمدان) مع (سميرة) تحت شجر الدردار أو يترجلان تحت الغسق. أعترف بأنني لا أجيد فن اقتناص قلوب النساء فهم دوما بمثابة لغز يثير إعجابي. وتمكّن (عادل حمدان) من رفع شعبيته في بيت (الطنطاوي) بينما ندر تواجد حصان (الفتوة) مربوطا في السياج بليالي الأحد، مما جعل الصراع يدب بينه وبين (عادل حمدان) الذي سمع تهديد (الفتوة) وتوعده له بإلقائه من فوق سطح مدرسته إلا أن (عادل حمدان) كان دائم الحرص على عدم منحه هذه الفرصة، فلم يجد (الفتوة) حلا سوى اللجوء إلى إطلاق النكات الفظة على منافسه كما قام بسد مدخنة مبنىالمدرسة وكذلك لجأ إلى اقتحامها وإرباك كل ما بها، والأسوأ من ذلك هو تعمُّد (الفتوة) إحراج (عادل حمدان) أمام محبوبته حيث كان يقدم كلبه الو*د كمنافس لـ(عادل حمدان) في ترتيل المزامير أمام (سميرة)، استمر الوضع على ما هو عليه وبينما كان (عادل حمدان) جالساً فوق مقعده المرتفع وهو يتابع سير اليوم الدراسي في عصر يوم خريفي، قطع هذا السكون الظهور المفاجئ لز**ي يمتطىمُهرا أشعث اقترب من بوابة المدرسة وقدم لـ(عادل حمدان) دعوة لحضور حفل كرنفالي في قصر (الطنطاوي) في المساء. ازداد النشاط والصخب بين جنبات المدرسة وعجل من أبطأ في تقديم دروسه واشتعل الجميع بالحماس والسرعة إلى أن انهوا اليوم الدراسي قبل موعده بنحو ساعة. ظل (عادل حمدان) لأكثر من نصف ساعة ينظف بزته الوحيدة ويجددها ويزيح الصدأ عن الأزرار ليبدو كفارس حقيقي، قام باستعارة جواد من المزارع الذي يقيم معه، كان حصان محراث لا يعمل،متقدم في العمر، وحشي المزاج نحيف وأشعث، رقبته كرقبة النعاج ورأسه كمطرقة، شعر رأسه وذ*له معقد مليء بالقشور، فقدت إحدى عينيه بؤبؤها فأصبحت تختلف عن عيون غيره المشعة بوميض شيطاني، ربما كان يتميز بقوة شخصية في صغره وهذا ما يدل عليه اسمه (بارود)، ربما هو تأثر بروح قائده العصبي فكان الشيطان يترصد فيه أكثر من أي مهر صغير في البلدة. ******* اقتنعت المرأة بتمثيلية " الأب " فبها تستطيع إقناع ابنها وليست هناك وسيلة أخرى لإقناعه . فقالت له : " اسكت ! " سكت الطفل ، ونظر حوله بخوف ، ثم وجه نظراته إلى أمه ، وسألها خائفاً وبصوت خافت : " لماذا ! ماذا هناك ؟ " اقتنع الرجل أيضاً بتمثيلية " الأب " فلا فائدة من وقوفه منتصباً هكذا أمام الباب ، ولج إلى الداخل وتوقف عند طرف الفراش . طار الطفل وهو يصيح : " بابا ، أبي ! " التفّ بفخذي الرجل ، كان تماماً كما أراده أباً طويل القامة ، عريض المنكبين . لم يكن يرى وجهه ، ولكن يكفي أنه طويل القامة عريض المنكبين . لم يكن أبو أحد من الأولاد هكذا مثله طويل القامة عريض المنكبين . لا شك أن أباه أقوى من الجميع ، ويستطيع أن يصرع آباء جميع الأولاد . - " كيف ، كيف جاء ؟ أما كان الأطفال يقولون بأنه لن يأتي ؟ ليروا بأمهات أعينهم هل يأتي أم لا ؟ ماما ، أنت يا ماما ، أشعلي هذا الفانوس . " كان يعرف مكان الثقاب ، ترك أباه وركض وعثر على الثقاب وأشعل عوداً ، فأضيئت الغرفة لحظة بضوء أصفر مرتعش ، تبيّن فيها وجه أبيه الملتحي ، ليكن بشعاً بقدر ما يشاء ، فهو جاهز جداً للإعجاب به ! وكان الطفل يقول : " لحيتك طويلة يا أبي ! أمي تحتفظ لك بعدة الحلاقة في الصندوق ، غداً تحلق لحيتك أليس كذلك ؟ أمي ، أشعلي هذا الفانوس إني لا أصل إليه ، لو عرفت كيف أصل إليه لأشعلته . " نظرت المرأة أيضاً إلى الرجل نظرة خاطفة من خلال الضوء الأصفر ، هل يبدو أكثر ضخامة في هذا الضوء المرتجف ؟ أم أنه فعلاً أكثر ضخامة ؟ لم تقف عند ذلك طويلاً ، وجهت لابنها ثانية تنبيه " اسكت ! " وذهبت فأشعلت الفانوس . صار الطفل يرى أباه بشكل أوضح الآن ، يريد أن يصفق ، يريد أن يلتف برقبة أبيه ويقبل خديه ، لكن ما سبب تنبيه أمه " اسكت ! " ماذا هناك ؟ لماذا يجب أن يسكت ؟ بالرغم من كونها ساعة متأخرة جداً من الليل فهو مستعد لأن يطير الآن إلى الزقاق ليعلن لأولئك الذين كانوا يغيظونه على مدى سنوات بقولهم : " أنت لا أب لك ، أبوك لن يأتي أبداً . . . " أن أباه قد جاء ، وأنه هو أيضاً قد صار له أب ، وأن أباه أيضاً سيكون له اعتباراً من الآن ابن يستقبله عندما يعود إلى البيت عند المساءات حاملاً أنواع العلب على كتفه وتحت ذراعه ! التقط كف أبيه المكتنزة العملاقة ، قَبَّلها ، ضغط بها على ص*ره . هو أيضاً له أبوه الآن ، أبوه الأطول قامة من كل الآباء ، والأقوى كثيراً منهم ، أبوه القادر على صرع جميع الآباء ! - " اجلس يا بابا ! " سحبه إلى الكنبة ، وأجلسه وقال : - " تماماً هكذا . . لن تذهب أبداً بعد الآن ، أليس كذلك ؟ " نظر الرَّجل إلى المرأة ، الأمر خارج السيطرة ، فقال مبتسماً : " لن أذهب . " - " لا تذهب ، إن ذهبت فسوف نبكي أنا وأمي ! " أجاب الرجل إكراماً للطفل : " لن أذهب . " - " كل واحد له أب ، وسيكون لي أب أنا أيضاً اعتباراً من اليوم . هل ستشتري لي دراجة بثلاث عجلات مثل دراجة علي ؟ " أوضحت المرأة : " ابن جيراننا المقابلين لنا ، اشترى له أبوه دراجة بثلاث عجلات منذ أيام . " ابتسم الرجل قائلا : " طبعاً سأشتري . " - " دراجة ( مسعود ) أكبر وأجود ، لكنها باهظة الثمن ، ( هاشم بك ) هو جد ( زينيل ) ، انهم أغنياء ، ربما ليس لد*ك مال كثير ، اشترِ لي دراجة مثل دراجة ( علي ) فقط ، يكفي أن تكون ملكي ، إنه يتباهى بأنَّ لديه دراجة بثلاث عجلات ، ستشتريها لي ، أليس كذلك ؟ " التقت نظرات المرأة بنظرات الرجل ، وقالت : " سوف يشتريها لك ! " هزَّ الطفل يد أبيه يريد منه تأكيداً على كلام أمه : " سوف تشتريها ، أليس كذلك ؟ " ردد : " سوف أشتريها . " وعاد الولد يسأل : " مثل دراجة علي ؟ " أجاب : " مثل دراجة علي . " ألح الطفل في السؤال : " وإذا أراد الأطفال أن يركبوها ؟ " أجابه ببساطة : " تمنعهم . " - " وإذا ضربوني ؟ " ضحك الرجل ونظر إلى المرأة التي ضحكت وقالت : " لن يستطيع أحد أن يضربك ، فأبوك موجود من الآن فصاعداً ! " راح الطفل يضرب على ص*ره بقبضتيه بانفعال وهو يصيح : " يعيش . . . لا يستطيع أحد ضربي من الآن فصاعداً ، أنا أيضاً لديَّ أب ! " وبدأ يردد قطعة من كتاب الألف باء يغنيها غناء : بابا اشترِ لي حصاناً . . بابا اشترِ لي عشباً . . بابا ضع العشب أمام الحصان . . بابا ضع العشب ضع . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نهرته المرأة قائلة : " كفى ! " نظر الطفل مدهوشاً وتساءل : " لماذا ؟ " أجابت : " أبوك متعب ويريد أن ينام أيضاً ! " أدار الطفل نظراته الحائرة صوب أبيه : " هل صحيح ؟ هل أنت متعب ؟ " أومأ الرجل : " نعم إني متعب . " سأله الطفل بدهشة : " ولماذا ؟ " أجاب غائبا : " لأني أتيت من مكان بعيد ومن رحلة بعيدة . " سأله : " هل بعت نصيبك ؟ " نظر الرَّجل مجدَّداً إلى المرأة التي أجابت : " باعها . " وعاد يسأل : " من أين أتيتَ ؟ " أجاب : " من مكان بعيد ! " حاول الطفل أن يتصور البعيد ، جبال . هل يقع البعيد خلف الجبال ؟ - " هل من الطرف الآخر من الجبل ؟ " أجاب : " من الطرف الآخر . " سأله في لهفة : " هل جئت على دراجة نارية أم على حصان ؟ " رد في هدوء : " جئت سائراً . " صاح الطفل مدهوشاً : " سائراً ؟ " - " سائراً . " - " من البعيد ، سائراً ؟ " - " سائراً . " - " لماذا ؟ - " هكذا . " - " لماذا جئت سائراً ما دمت تملك أجرة دراجة نارية ؟ " هنا قالت المرأة : " كفى ! " أسند الطفل رأسه إلى ص*ر أبيه ، وقال لأمه وهو يحاول أن يضم جسم أبيه العملاق بين ذراعيه : " وما شأنكِ أنت ؟ " سُرَّت المرأة لمنظر ابنها يلتف بأبيه وكأنه زوجها فعلاً ، لكنها حاولت ألا تظهر ذلك ، فقالت : " أبوك متعب وجريح يا بني ، يجب أن ينام طويلاً لكي يرتاحويتماثل للشفاء . " ارتخت ذراعا الطفل ، وتراجع إلى الوراء قليلاً ونظر إلى أبيه مدهوشاً ، كمن ينظر إلى جبل عملاق ، وسأله : " هل أنت جريح حقاً ؟ " هزَّ الرَّجل رأسه بالإيجاب : " لماذا ؟ " لا مفرَّ ، ولا جدوى ، فقال : " لقد أطلقوا علي النار . " - " من ؟ " - " أعدائي . " - " لماذا أطلقوا عليك النار ؟ " كيف يستطيع أن يفهمه الآن لماذا أطلقوا عليه النار ؟ نظر إلى المرأة طالباً منها العون . فهمت المرأة ومالت على ابنها قائلة : " تعال يا بني ، تعال نم في مكانك ، لا تتعب أباك . سيبقى عندك دائماً من الآن فصاعداً ، وسوف تتحدثان طويلاً وكثيراً ، سوف تتحدثان ، لكن إياك أن تخبر أحداً عن قدوم أبيك ، أليس كذلك ؟ " - " لماذا ؟ " أجابت : " قد يخبرون عنه السلطات فتلقي القبض عليه ! " نظر الطفل إلى أبيه حائراً وسأل : " ماذا فعل أبي كي يبلغوا عنه ؟ " ضاق الخناق على الرجل والمرأة ، فأجابت : " حفر نفقاً في السجن ، وهرب منه . " لم يفهم الطفل فتساءل ثانية : " السجن ؟ وما هو السجن ؟ " أجاب الرجل : " دار العقاب ! " ردد الطفل : " دار العقاب ؟ " أجابه : " إنه بيت مقفل ! " سأله : " لماذا كنت في بيت مقفل ؟ " أجاب في بطء : " تشاجرت ، فقتلت رجلاً . " صاح الطفل منبهراً : " حقاً ؟ " قال الرجل متأثراً : " أولئك كانوا يريدون قتلي ، فبادرت أنا . " صفَّق الطفل بيديه وصاح : " يجيا أبي ! " واستدار إلى أمه بانفعال وقال : " كما في الفيلم تماما ! " ثم التفت إلى أبيه : " في الفيلم ، أحاطوا بالرجل ، لكمة ، ولكمة أخرى . . . أشهروا مسدساتهم ، فهجم الرجل عليهم ، وسلب أحدهم مسدسه ، وراح يطلق عليهم ، طاخ ، طاخ ، طاخ ! " بدأت مشاهد الفيلم البوليسي الذي شاهده مع أمه هذا الصيف تتوالى في مخيلته من جديد . كان الرجل المحاط به يشبه أباه تماماً ، بشعره الأشعث وبشاربيه وبلحيته ، وبقامته الطويلة ، تمكن من حصر خصومه في زاوية ، وراح يكيل له اللكمات . اهتزت دار السينما بأصوات : " اضرب ! اضرب ! " هو أيضاً صرخ كالآخرين حتى كادت حنجرته تنفجر ، وصفق للرجل بيديه الصغيرتين . أخيراً طرح الرجل الرجال الخمسة أرضاً بلكماته ، وهجم على الأخير وسلبه مسدسه . بيلي الصغير كان كذلك ، وجيم العجوز ، وبيكوس بيل . أبوه من هؤلاء إذن . صفق بيديه ثانية وصاح : " يعيش أبي ! " ثم سأل فجأة : " ولكن ماذا يحدث إذا ألقوا القبض على أبي ؟ " قالت المرأة : " يلقون به في السجن ثانية . " فكَّر الطفل لحظة . وماذا يحدث إذا رموه في السجن ؟ إنَّه والد تحدّى خمسة أشخاص . " تحفر نفقاً وتهرب ثانية أليس كذلك ؟ " فأجابت المرأة : " لا يستطيع الهرب ثانية . " لم يقتنع الطفل بذلك ، فقال : " هه . لا يستطيع الهرب ؟ " ثمالتفت لأبيه : " تحفر وتهرب ، أليس كذلك يا بابا ؟ " - " لا أستطيع الهرب . " سأله متحديا : " لا تستطيع الهرب ؟ " - " لا أستطيع الهرب . " قالت المرأة : " هيَّا نَم . . دع أبيك يرتاح . سوف أطفئ الفانوس ! " كان الطفل ينظر إلى أبيه ، لم يره منذ سنوات طويلة ، يريد أن ينظر إليه طويلاً ، هذا القادم ماشياً من بعيد ، ربما لم يكونوا خمسة كما في الفيلم ، ربما طرح عشرة أو خمسة عشر شخصاً أرضاً وهرب من السجن ، الجدران ، جدران السجن ؟ - " كانت الجدران التي ثقبتها سميكة جداً أليس كذلك ؟ " - " جداً . " - " بماذا ثقبتها ؟ " ارتبك الرجل ، فعلاً بماذا يمكن ثقب جدران السجن ؟ أجابت المرأة : " سوف يشرح لك ذلك فيما بعد ، نم الآن . " وفيما هو يندسّ تحت الغطاء ، ارتسمت فأس في مخيلته ، فلا يمكن ثقب جدار سميك بدون فأس ، حسناً ، لكن الفأس تحدث صوتا ، ألا يسمع حراس السجن جلبة و أصوات الفأس ؟ دفع الغطاء الذي سحبته أمه فوق رأسه ، وقال : " ألم يسمع حراس السجن . " كان يريد أن يكمل سؤاله صوت الفأس حين رأى أباه يتسلق السُّلَّم إلى العلية : " هل سينام أبي في العلية ؟ " - " سينام في العلية ؟ " - " لماذا ؟ " ضاع صواب المرأة فصاحت : " اسكت ! " - " لماذا لا ينام هنا معنا ؟ " حارت المرأة في الأجابة على هذا السؤال ، أما الرجل فكان قد تسلَّق السُّلَّم وتمدَّد على ظهره فوق فراشه . كان قد أحَبَّ الطفل كثيراً ، عيناه السوداوان تلمعان مثل عينيّ جِنِّي . هل سيصير ابنه أيضاً هكذا بعد ست أو سبع سنوات ؟ أما تحت فكان الطفل يلحّ في السؤال : - " ماما ؟ لماذا لا ينام معنا ؟ الآباء جميعاً ينامون مع الأمهات فلماذا لا ينام أبي ؟ " أسقط في يد المرأة ، وعاد يسألها : - " ها ؟ لماذا لا ينام معنا ؟ " هكذا هو لا ينام . .ما أدراها لماذا لا ينام ؟ ليأتِ . . لينم . .هل هناك من يقول له : " لا تأتِ ، لا تنم ! " ؟ إنه لا يأتي . .إنه لا ينام . رغم أنه لم يقل لها " أختي " . لكن من يدري ؟ والمرأة لا تستطيع أن تبادر وتقول للرجل " تعال نم بجانبي " . الرجل عندما يكون رجلاً فعلاً ، لتتهرب منه الأنثى ما تشاء ، فإنه سوف يجد وسيلة ما ، فيأتي يقترب منها ، يلتصق بها ، يداعبها بيده ، ويفعل كذا وكذا . . . - " لماذا لا ينام معنا يا ماما ؟ " ثم إن الرجل يفهم من نظرات الأنثى . .وهذا لا يفهم . هل هو لا يفهم حقاً ؟ لا تظن ذلك ، لكن من يدري ؟ ربما جرحه ، هل يؤلمه جرحه يا ترى ؟ ربما . إذا كان جرحه يؤلمه باستمرار ، وهو يحاول أن يخفي ألمه ، فإنه لا يفكر ، لا يفكر في أي شيء . - " آباء الجميع ينامون مع أمهاتهم ، لماذا أبي لا ينام معك ؟ " صاحت وقد فقدت عقلها : " وما أدراني ؟ " انتصبت أذنا الرجل فوق : " وما أدراني ؟ " . .انها تعني : " فليأتِ . . فلينم ، قل له تعال ، قل له نم ، ما أدراني ؟ مالك تسألني ؟ هل جاء ونام وقلت له لا تنم معي ؟ " . لمعت عيناه في الظلام ببريق الرغبة والحماس . فعلاً . . عليه هو أن يبادر بعد الآن إلى ما يراه مناسباً . استيقظ شيطانه في داخله وقال له : " حمار ! " . " جحش ابن جحش ! هل اقتنع مخك مخ البغل أخيراً ؟ الطفل جاهز ويلح . لو لم تكن المرأة راغبة لأسكتته ، وبما أنها لم تسكته فما بك واقف ؟ لقد أطفأت الفانوس ، وما زال الطفل يلح . . قل له : إني قادم يا بني ، وانتظر قليلاً ، فإذا لم تبدر من المرأة أي بادرة اعتراض ، انزل واجلس على طرف الفراش ، وانتظر قليلاً أيضاً ، فإن كانت المرأة راغبة فسوف تبدي ذلك ! " تفجر الغليان في داخله . لو أنه ينزل ، ويأخذ الطفل ويضمه إلى ص*ره بحب حتى ينام ، ثم وبحجة أنه سيمدده إلى جانب المرأة . . . قد تقول له المرأة برقة : " انتظر ، لنمدده على الأريكة " وتأخذه من حضنه . . . وفيما هي تحمله قد تلامس يدها يده ، وقد تلامس بعض ثنايا جسمها التي تحت ثوب نومها الضيق ، بعضاً من جسمه ، سوف ينتظر برهة ، يُمدَّد الطفل النائم ، وتسأله المرأة : " هل طار نومك ؟ " فيجيبها قائلاً : " طار " - " ونومي أيضاً . . " - " ماذا سنفعل ؟ " - " بماذا ؟ " - " بنومنا الذي طار ؟ " قد تقول المرأة : " لم يكن بي نوم أبداً ، كنت مستيقظة حتى قبل أن تذهب إلى الحمّام ، لا أعرف لماذا لم يأتني النوم بشكل من الأشكال ، وأنت ؟ " - " أنا أيضاً لم يأتني النوم . . " - " حقاً ؟ " - " حقا . " قد تسود فترة صمت بينهما . وقد تمر الخيالات نفسها في مخيلتيهما . وبعد فترة قد تميل المرأة على ابنها ، لتتأكد من أنه نائم أم لا . ورغم أنه لن يكون واضحاً تماماً في الظلام . . إلا أنه سوف يفهم من نبرات صوتها مدى اهتياجها وهي تقول بسرور بالغ : " إنه نائم ! " لم يعد الرجل يسعه إهابه . . تمطى بلذة و ***ة حيوانية ، وكأنما طقطقت عظام جسمه كلها . واستبدت به رغبة عارمة ، رغبة عارية ، شهوانية ، سوف يتظاهر بأنه سينهض . فتسأله المرأة بصوتها الخافت المليء بالرغبة : " إلى أين ؟ " - " سوف أذهب لأنام ، أنتِ أيضاً جاءك النوم ! " تمسك المرأة بيده بلهفة وتقول : " لا تذهب ! " - " حسناً ؟ " - " إبقَ ! " - " وماذا بعد ؟ " قد تضغط على روحها بأسنانها وتقول له : " نم هنا ! " فيتصرف كمن لم يفهم ، فتقول له : " أف ! " يفهم ، يتشبث بها جيداً ، ويرتمي عليها . وبص*ره العملاق المنتفخ مثل منفاخ ، تقلب إلى جانبه الآخر ، فصرّت الأخشاب التي تحته ، أي أن السقف طقطق أيضاً . عليه أن ينزع بنطاله ويكون جاهزاً . خطرت بباله لفافة تبغ؛ فأخرج علبة السجائر من جيبه ، وفيما كان يشمها سمع صوت الطفل بأسفل : " ماما ! " - " نعم ؟ " - " السَّقف طقطق ! " - " تقلَّب أبوك من جنب لجنب . " - " ألا توجد فئران في العلية ؟ " - " توجد . . فلتذهب إلى الجحيم . " - " وإذا أكلت أبي ؟ " - " ماذا ؟ " - " الفئران . " - " ما بها الفئران ؟ " - " إذا أكلت أبي ؟ " ضحك الرجل كاتماً صوته . أما المرأة فقد سمعت السؤال لكنها لم تضحك إذ لم تفهمه فقد كانت منفعلة ، فالطفل لا يغفو ، بل يلحُّ في الأسئلة ، وهي لا تسكته فلماذا لا يفهم ذاك ؟ وهل في هذا ما لا يفهم ؟ لو لم تكن راغبة لأسكتته بصفعتين ، ولدسَّته تحت الغطاء وتركته يبكي ما شاء البكاء ، ثم لو لم تكن راغبة ما لها ولجرحه ولأعدائه ؟ كان بإمكانها بعد تنظيف الجرح وتضميده أن تقول له : - " هيا بالتوفيق " وأن تغلق باب حوش الدار خلفه بإحكام . - " ماما ؟ " - " ماذا ؟ " - " وإذا أكلت فئران العلية أبي ؟ " - " إذا أكلته ، أكلته ، هيا نم ! " أدرك الرجل المغزى الخفي لهذه الجملة وفهمها هكذا : - " إذا أكلته فلتأكله ، فلتذهب إلى الجحيم روح الأب الذي لا فائدة منه لأمك ! أجل إلى الجحيم ، لقد نظرت إلى شكله وقوامه ، وإلى يديه ورجليه العملاقتين فحسبته رجلاً . وإذ به . . .جحش ! ! * * * * * * * * * * * * * اجتاحته مرة أخرى رغبة عارمة في إشعال لفافة ، دسَّ يده في جيب بنطاله وأخرج منه علبة السجائر وعلبة الثقاب . السجائر مفتتة تماماً ، لا يمكن إشعالها ، توقف الكلب عن النباح من خلف جدار الصفيح ، لكنه كان يهمر بين الحين والآخر . شمَّ السجائر ، وشمَّ علبة السجائر مطوَّلاً .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD