الفارس والفتوة والشبح

2826 Words
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * كان (عادل حمدان)هو الفارس المناسب لهذا الفرس الذي قاده معتمدا على الركاب القصير الذي قرب ركبته إلى سرج السيف بينما كانت مرافقه الحادة تقاوم كالجنادب، حمل سوطه في يده كصولجان بينما انصاع الحصان تماما لحركة ذراعيه، هرول الحصان سريعا مما جعل قبعة (عادل حمدان) الصوفية تنزل إلى أنفه، وتهدل ذ*ل معطفه الأ**د الطويل فوق ذ*ل الحصان، خرج متثاقلا من بوابة (السعد) في مشهد نادرا ما تجتمع تفاصيله في وضح النهار. كما قلت، كان (عادل حمدان) مغرما بالجو الخريفي؛ فالسماء كانت واضحة وهادئة اكتست الطبيعة من حوله بالغنى والذهب الذي يذكرنا دوما بالوفرة، ووضعت الغابات رداءها الأصفر والبني بينما بعض الأشجار اللينة كانت قد قرضت بالصقيع إلى درجات البرتقالي والأرجوان والقرمزي، بينما حلقات من البط البري بدأت تلوح بين نباح السناجب المنتشر في بساتين الزان وبندق الجوز وصافرة طائر السلوى المرتفعة تجلجل في حقل القش المجاور. كانت الطيور الصغيرة تتناول أخر وجباتها وهي تصفق من أجمة إلى أجمة بعربدة وكذلك طائر أبو الحناء وهو اللعبة المفضلة لدى الصبية بصوته الشاكي وزقزقة طيور السمور وهي تطير بين الغيوم، ونقار الخشب بأجنحته الذهبية وقمة رأسه القرمزية وبطوق رقبته الأ**د الريش وطائر الأرز بأجنحته الرقيقة الحمراء وذ*له الأصفر وقبعة الريش المميزة فوق رأسه، وطائر أبو زريق المتفاخر المزعج بمعطفه الأزرق الفاتح والأبيض داخله بضوضائه وصراخه وانحنائه ليحظى بعلاقات جيده مع كل غريدي البستان. هرول (عادل حمدان) ببطء بين الحقول وعيونه تتجول بين خيرات الخريف المرح على كل الجوانب، لمح مخزن كبير للتفاح وحقول هائلة من الذرة الناضجة بآذانهاالذهبية التي تطل من مكامنها المحاطة بالأشجار والتي تعد بالكعك والحلوى الآتية وتحتهم القرع الأصفر يخرج بطونه المستديرة إلى الشمس لمزيد من الفطائر الأكثر روعة وهو يعبر بالقرب من حقول الحنطة السوداء المعطرة تنفس رائحة خلية النحل،وبينما هو هكذا سيطر على عقله مذاق طبق صغير لطيف مكلل بالزبد ومزينة بالعسل والدبس بيد (سميرة الطنطاوي) النضرة. أخذ يغذي عقله بالعديد من الأفكار اللذيذة والتخمينات الساحرة، سافر على مدى التلال المشرفة على المشاهد البديعة لهدسون، تحرك قرص الشمس هابطاً نحو المغيب، بدا سطح (البحر) ساكنا **طح زجاجي باستثناء بعض تموجات لطيفة هنا أو هناك، تنع** عليها ظلال زرقاء للجبال البعيدة، بعض الغيوم العنبرية تعوم في السماء بدون أية هبة هواء تحركها، واكتسى الأفق بخيوط ذهبية تتدرج نحو لون التفاح الأخضر والأزرق المتعمق في السماء وشعاع مائل يتباطأ فوق قمم الأشجار المتداخلة على المنحدرات المطلة على النهر، مما يمنح المزيد من العمق لأرجوان جوانبها الصخرية، وسفينة شراعية تتريث بفعل المد بينما الشراع والسارية يتعا**ان ونتيجة لانعكاس الصورة على الماء يخيل إليك وكأنما السفينة معلقة في الهواء. وصل (عادل حمدان) إلى قلعة (الطنطاوي) قبل حلول المساء، وكانت القلعة تعج بالزينة والزهور المستوردة من البلاد المجاورة، كان المزارعون من كبار السن في معاطفهم وسراويلهم المحلية وجواربهم الزرقاء يرتدون الأحذية الضخمة ذات التوكة الكبيرة، بينما ارتدت نسائهن النحيفات الشاحبات القبعات ذات النهايات المعقوصة والأثواب القصيرة بتنانيرهن المحلية ذات الجيوب الخارجية المرقطة بالألوان المختلفة بينما الفتيات البدينات قد ارتدين ثياباً كثياب أمهاتهن باستثناء قبعات القش ذات الشريط الرفيع وربما بياض الفساتين هو الذي أظهرهن أكثر حجما من الحقيقة، بينما ارتدى الصبية معاطف ذات نهايات مربعة بصفوف من الأزرار النحاسية الرائعة وقد صففت شعورهم بزيت سمك الجرين المغذي والمقوي للشعر كموضة تلك الأيام، على كل حال كان (الفتوة الضخم) هو بطل المشهد حيث جاء على صهوة جواده المفضل بغروره وروحه المفعمة بقوة الشخصية والشر الذي لا يمكن أن يبدر إلا منه. كان (عادل حمدان) يتمتع بالرحمة والرضا ينتشي بالطعام كانتشاء الرجال بالخمر، لم يستطع أن يغمض عيونه الواسعة عن السحر المنبعث لطاولة الشاي في هذا الوقت الخريفي والأطباق الكبيرة الممتلئة بالكعك الصغير المحلي على كل الأشكال والذي تتقنه ربات البيوت الهولنديات، بالإضافة إلى فطائر الخوخ والقرع والتفاح وشرائح لحم الخراف والبقر المدخن، علاوة على ذلك كان هناك صحون من الخوخ المحفوظ والطازج والكمثرى والسف*جل وأسماك الشابل والدجاج المشوي معها أكواب من الحليب وأطباق القشدة وإبريق الشاي يرسل سحباً من البخار. إن رغبته الحميمة في تدخين لفافة تبغ حملته إلى يوم خريفي بعيد قبل سنوات في ( جاكور أوفا ) ، بتربتها الخضراء الخصبة المنعمةتحت أشعة الشمس الحارّة ، ونزاعات الأرض التي لا تنفد ولا تنتهي . تنشّق الهواء ثانية ومن الأعماق . . . علبة التبغ التي في يده تغريه . أبوه ، إخوته . . .الأمور تبدَّت له الآن أكثر وضوحاً . . . أسباب إحراق مزرعة السيدة ، وكان أبوه ذو اللحية البيضاء على رأس تلك الأسباب ! كان يجمع أبناءه ويقول : " أبنائي ، لقد جئت ، وإني راحل . لقد كبرتم جميعاً وصرتم رجالاً ، وصار لد*كم أولاد ، الأراضي التي بأيدينا لا تكفي عائلتنا التي تكبر وتتكاثر ، عائلتنا بحاجة إلى أراضٍ أكثر . غداً عندما أغمض عيني وأرحل إلى الدار الآخرة سوف تقتسمون الأراضي ، وهكذا سوف تتفتت الأرض المقتسمة ، ولن تكفي أياً منكم القطعة التي ستكون من نصيبه ، هل تسمعون ؟ الأرض التي ستكون من حصة كل منكم لن تفي بحاجاته ، وسوف تعيشون أنتم وأولادكم حياة مهينة مضطربة ، فكرِّوا فالسنين ستمضي في سيرها الحثيث دون توقف ، وسيصير لكل منكم ثلاثة ، خمسة أولاد ، وأولئك أيضاً سيكبرون ويزدادون ، الأرض ، الأراضي ، أراضكيم . . . . إليكم متاعب الحياة التي ستعترض طريقكم . . " سوف يقف أولادكم في وجوهكم وهم يضغطون على أسنانهم ، وسوف تنشب المشادات بين الآباء والأبناء . . أنا لم أدَعْ مجالاً لهذا ، كذلك أبي ، وقبله جدي لم يدعا مجالاً لذلك ، لأن الأرض في ذلك الزمن لم تكن لها هذه القيمة . والد ( عثمان ) الذي حطَّ على قريتنا مثل بلاء أ**د ، لم يكن حزبيَّاً مثل ابنه عثمان ، ابنه أدهى ، فهو يظلم أهل القرية مستنداً بظهره إلى حزب . لماذا انسحبنا من ذلك الحزب ؟ انسحبنا بسبب ( عثمان ) الذي استولى منذ عشر سنوات على الأراضي التي لا صاحب لها . وحسبما سمعت فإنه راجع المحكمة لكي يسجل تلك الأراضي باسمه ، فإذا ما سجلها باسمه فقد انتهيتم ، غرقتم واحترقتم ، والأفضل لكم أن ترحلوا عن هذه الديار ، وإلا أصبحتم شحّاذين على باب ( عثمان ) ، هل تعرفون أبواب الآخرين ؟ . . لا تعرفون . لا رمى الله أحداً على أبواب الآخرين ولا اضطره لمدِّ يده سائلاً الآخرين . فالآخر أنكى من الكافر . خاصة بالنسبة لأمثالكم من الذين عاشوا وترعرعوا في أملاكهم وأرزاقهم ، والذين لم يعتادوا فتح أيديهم ، والسؤال إلا من آبائهم وأمهاتهم ، لا يمكنهم مطلقاً تحمل الوقوف على أبواب الآخرين ، وتحمل مذلة وإهانة تلك الأبواب ! " . كانت أمه قد بدأت بالبكاء ، فقالت وهي تتأوه : " نعم نعم " . أكمل أبوه حديثه قائلاً : " اسألوا أمكم ، أيام هربنا ولجأنا إلى جبال ( طوروس ) أيام الاحتلال الفرنسي . . . تموت جوعاً ولا تستطيع أن تقول لجارك أو لصديقك أو لقريبك إني جائع ، فذلك صعب جداً على الإنسان الذي لم يعتد اللجوء إلى أبواب الآخرين ، ومدِّ يده سائلاً إياهم . لذلك افتحوا أعينكم جيداً يا أعزائي ! " سأل أخوه الكبير الذي يذكّرك بالثعلب بشاربيه الأصفرين : " حسناً ، هلا أعطيتنا فكرة ! ماذا يجب أن نفعل ؟ " أبوه الذي خاض الحرب العالمية ، وتنقل في جبهات اليمن وجبال القوقاز ، وقاسى شدة الجوع ، وبحث بين روث الخيول عن حبات الشعير فعزلها وأكلها ، أبوه الأكثر مكراً من أخيه الكبير ، نظر إلى أولاده بترفع وقال : " عندما ولدتكم وجئت بكم إلى الدنيا ، أعطيتكم من العقل والفكر ما يجب أن أعطيه ، أما ما بعد ذلك فيقع عليكم ، وعلى ذكاءكم ونباهتكم ، ما أعرفه أنه يجب ألا يُسمح لـ( عثمان ) بأن يسجل الأراضي التي لا صاحب لها باسمه ! " كان هو العام 1948 وكانت رياح الديمقراطية تهب على البلاد ، وترفرف في أجوائها اللافتات التي تقول للجور وللإدارة التعسفية " كفى ! " . وعندما يستلم الحزب الديمقراطي زمام الحكم ، فكأنما سوف تقوم القيامة ، إذ سوف تبدأ التحقيقات ، ويُفتح " دفتر أعمال " كل شخص ، ويُعاقَب المسيئون ، ويزول الظلم من البلاد ، وتصبح الدنيا نظيفة والعالم وردي . - " إذا كان الأمر كذلك ، فلندخل الديمقراطي نحن أيضاً نكاية بـ( عثمان ) . " قال الأب ذو اللحية البيضاء بعد أن مسح لحيته بيده : " لا ! " فتساءل الأبناء بشيء من الانفعال : " لماذا ؟ " - " وهل هناك لماذا ؟ إني متأكد أن ( عصمت ) باشا سيقول لهذه الأشياء يوماً " كفى " . أبوكم يذكر . . . كانت الأمور هكذا تماماً عام 1930 ، إذ شاعت بين الناس بدعة الفرقة الحرة ، ولكن بعد فترة قصيرة ، قيل لهذه الفرقة الحرة " كفى ! " . فكم تساوي ديمقراطيتكم غداً عندما يقال للديمقراطية " كفى ! " ؟ " لم يفهم أولاده له قولاً . فقد استمعوا إلى خطابات القادة الديمقراطيين في ساحة ( اينونو ) في ( أدنه ) ، وكانت كلماتهم حماسية تشعل النار . تساءل ( حبيب ) أصغر الإخوة الثلاثة وأشدهم انفعالا : " ماذا يحدث ؟ " - " وماذا سيحدث ؟ يُغلق الحزب الديمقراطي ، ويُلاحق الديمقراطيون ويُعاقَبون ! " راودهم الشك ، فنظروا في وجوه بعض لكن ( حبيب ) ثانيةً قال : " لا يا حبيبي ، فالديمقراطية لا تشبه الفرقة الحرة ، وحسبما سمعت فإن أمريكا لم تكن تتدخل في هذه المسائل ، أما اليوم فإن أمريكا تتدخل في شؤون العالم كله ، وتريد أن تنشر نموذجها في الحكم في كل مكان ، لذلك لا يستطيع ( عصمت ) باشا إنهاء الديمقراطية ! " ضحك الأب الذي يبدو قوياً رغم تجاوزه السبعين ، وقال : " لنقل بأن ( عصمت ) باشا لم ينهِ الديمقراطية ، لم يستطع إنهاءها ، فماذا لو سارع ( عثمان ) وانتسب إلى هذا الحزب الذي انتسبتم إليه ؟ " اعترض الأشقاء الثلاثة كلٌّ من جانب : " لا يستطيع الانتساب ! " سألهم في تحد وقوة : " لماذا لا يستطيع الانتساب ؟ " أجابه ببساطة : " لا يقبلونه ، فالحزب الديمقراطي تأسس لمحاربة الظلم . القادة يُصرّحون بذلك بأعلى أصواتهم . هل هو مجرد كلام ؟ لا يمكن أبداً أن يقبلوا رجلاً ظالماً مثل ( عثمان ) مارس شتى أنواع الظلم والقهر لسنوات وسنوات ، مثال ذلك أنه أخذ خطيبة ابن أخيه واتخذها زوجة له " . لم ينبس أبوهم ببنت شفة ، لكنه كان واثقاً أن الديمقراطيين حين تحين الساعة واليوم ، لن يقبلوا في حزبهم ( عثماناً ) فحسب ، بل سوف يَقبلون في سعادة( عصمت ) باشا نفسه لو أراد الانتساب . نعم وقبيل انتخابات 1950 ، لما رأى ( عثمان ) كفَّة الانتخابات تميل لصالح الحزب الديمقراطي ، سارع وبدفع من أصدقائه أيضاً ، وأدهش المدينة بأسرها وانتسب إلى الحزب الديمقراطي . حينها اختفى الأشقاء الثلاثة عن الساحة لأيام وأيام . وكان **ب أبيهم العجوز المجرب ذي اللحية البيضاء الدعوى سبباً لاختفائهم . فما كانوا وقتها قادرين على تحمل سخريته منهم وابتساماته المستخفة بهم من تحت شاربيه ، ولا تحمل مزاحه وسخريته ، كانوا أشبه بالمختلين عقليا ، وفوق ذلك مزاح أبيهم اللازع ! قارب الأشقاء الثلاثة رؤوسهم وراحوا يفكرون فيما يجب عليهم فعله ، لأن الحزب الديمقراطي عندما نجح في انتخابات 1950 واستلم السلطة وتربع على كرسي الحكم ، لم يفتح دفتر أعمال أحد ، ولم يحقِّق مع أحد من المسيئين . تربَّع الأشقاء الثلاثة على الأرض في الغابة التي تقع خلف القرية ، في أحد الأيام ، وراحوا ينفثون دخان السجائر مثل مدخنة سفينة ، ويقلِّبون أطراف هذا الموضوع . قال ( حبيب ) : " أيها الأغوات ، إني أصغركم سناً ، ولكن اسمحوا لي أن أقترح عليكم اقتراحاً ! " سأله أخوه الأوسط وهو يفتل شاربه الأشقر : " ما هو ؟ " قال وهو يتأمل في الوجوه : " عدانا نحن ، هل لأهل قريتنا مصلحة في تلك الأراضي البور التي لا صاحب لها ، والتي تقع في الطرف الغربي من القرية ، أم لا ؟ " أجابه واحد : " لهم مصلحة " فعاد يسأل : " أيمكن أن لا يكون لهم مصلحة ؟ " هز كتفيه وأجاب : " إذا كان الأمر كذلك ، فيجب علينا أن لا نطعمَ ذلك الد**ث هذه الأراضي مهما كان الثمن ! " ضحك أخوه الكبير ذو الشاربين الأصفرين وقال : " طبعاً . ولكن كيف ؟ " قذف ( حبيب ) برأيه : " فلنخفِه من الوجود ، ولينتهِ أمره ! " وبعد فترة طويلة من الصمت المرعب تساءل أكبر إخوته : " ومن سينَفِّذ هذا العمل ؟ " وبدون أي تفكير قال ( حبيب ) : " أنا ! " نظر الشقيقان إلى شقيقهما الأصغر بدهشة وتساءلا : " كيف ؟ " - " اتركا الكيفية لي . والآن أنتما لم تسمعا مني شيئاً من هذا القبيل ، ولم نتكلم في هذه الغابة عن هذا الموضوع . هل لد*كما سجائر ؟ " لم يبقَ لديهم سجائر . لقد نفدت بعد أن دخَّنوها جميعاً لفافةمن عقب الأخرى . هذه الرغبة في التدخين التي تراود ( حبيب ) الآن وهو في العلية ، فيما حديث ( سارا ) مع ابنها مستمر في الأسفل كان قد أحسَّه ذلك اليوم أيضاً في تلك الغابة . مع فارق واحدَ وهو أن سجائرهم نفدت في الغابة ، أما هنا فإن علبة السجائر في يده ، لكنه لا يستطيع التدخين . زجرت المرأة ابنها ثانية في الأسفل : " نم يا أخي ، أف ! " انقطع صوت الطفل . . هل نام فعلاً يا ترى ، أم أنه سكت خوفاً من أمه ؟ لم يكن ( حبيب ) في حالة تسمح له بالتفكير بذلك ، إذا كان وكأنما فُتح مسيل الذكريات في رأسه وراحت حياته الماضية تسيل فيه : كان قد كمن لعثمان داخل دغلة في إحدى الليالي ، وأرداه قتيلاً بمسدسه . أقام مصرع ( عثمان ) الدنيا في المدينة وفي القرية فقد استنفر الحزب الديمقراطي تماماً ، ولحسن حظ ( حبيب ) ، ولشكهم بأن حزب الشعب وراء حادث القتل هذا ، ولشدة التنافس بين الحزبين ، لم تثبت التهمة على ( حبيب ) وعلى كثيرين من أمثاله رغم زجهم في السجن . وهكذا تبخر ( عثمان ) وولَّى . ولَّى ولكن ما الفائدة ؟ فقد انبرت لهم زوجة ( عثمان ) هذه المرة . طبعاً ، فوريث ( عثمان ) الآن في كل أملاكه المنقولة وغير المنقولة ، بما فيها الأراضي البور التي لا صاحب لها ، هي زوجته " السيدة " وهذه السيدة حولها أبوها وعمها ومحاميها الذي يدور مثل برّام ، وأصدقاؤها ذوو الجاه والنفوذ ، بمعنى أن مخططيها ومدبريها كانوا كثراُ . وهكذا راحت معاملة تسجيل الأراضي البور التي لا صاحب لها التي بدأت في زمن عثمان ، تَستكمل إجراءاتها الآن بسرعة أكبر ، فما الذي يجب فعله في هذه الحالة ؟ فكّروا أياماً وأياماً ثم نشروا بين أهل القرية فكرة أن " مزرعة السيدة " هذه انقلبت إلى مركز للدعارة ، وجاؤوا بأمثلة من الكتب المقدسة وأدخلوا في روع القرويين أنهم سوف يهلكون وسوف تهلك قريتهم بسبب هذه المزرعة والدعارة التي تمارس فيها . إذاً في هذه الحالة ؟ كيف ينقذون أنفسهم من الهلاك ؟ بمنتهى البساطة : يهاجمون المزرعة ويقتلون السيدة ووليدها الذي وضعته حديثاً ، أي يمحقون ورثة عثمان ، ويقتلعون جذور هذه العائلة من على وجه الأرض ! اعتبروا نباح أحد الكلاب حتى الصباح ، وولادة صوص صغير بثلاثة أرجل في تلك الليلة ، ووقوع هزة أرضية خفيفة " إشاراتٍ على أن الله تعالى سوف يهلك القرية " وأقنعوا القرويين بذلك فتجهزوا . في الحقيقة لم يكن القرويون سذَّجاً ، ولم يقتنعوا نعم لم يقتنعوا ولكن كانت لهم مصلحة في ذلك . فهذه الأراضي البور التي لا صاحب لها منذ سنوات طويلة ، يجب أن تبقى هكذا غير مملوكة لأحد ، ويجب أن يزرعها القرويون على هواهم ويجنوا ثمار ما زرعوه على هواهم . بإشارة من ( حبيب ) وإخوته هاجم الفلاحون مزرعة السيدة في إحدى الليالي ، فهدموا وأشعلوا النار في كل شيء ، أما ( حبيب ) فما كان مهتماً في تلك اللحظة لا بحرق أبنية المزرعة ، ولا بنهبها وسلبها . ذلك كان له همٌّ وحيد : قتل زوجة ( عثمان ) بيك وابنه وإخماد ناره . هكذا يستخلص الأراضي التي لا صاحب لها لمصلحة أهل القرية ! **** شمَّ بعمق علبة التبغ التي في يده . هل نام الذين في الأسفل يا ترى ؟ أصاخ السمع . .غالبا ناموا . .ولكن . . الواقع أنهم لم يكونوا نياماً . **** كانت شهوة المرأة تتصاعد وتفكر بالرجل . وكان ( سمير ) يفكر بأبيه : طالما حفر نفقاً في السجن وهرب؛ فلماذا ينام في العلية ؟ ما الفرق بين النوم في العلية ، والنوم في الأسفل في الفراش ، بجانب أمه ؟ أخرجت ( سارا ) ساقها من تحت الغطاء ثانية . **** لكن الرجل الذي فوق لم يرَ ، لأنّه لم يكن ينظر ، ولم يكن في مزاج إغواء . . كان يفكر بأن عليه أن يهرب ويبتعد بدلاً من أن ينتظر شفاء جرحه . إنه واثق أن الرجال الدرك قد حاصروا المنطقة من جميع الجهات حتى الآن ، وأنهم لن يدعوا مجالاً للطير الطائر أن يطير . وإذا ما ألقي القبض عليه فالسجن بانتظاره ، ثم المحكمة ، والمحاكمة ، ثم هو يعرف جيداً ما سيراه أخيراً عند طبلية الإعدام . شمَّ سجائرة ثانيةً واشتهى التبغ . لا بد أن الدرك قد أخبروا مخفر هذه البلدة ، ولا بد أن الجوَّ مضطرب الآن و*داً عندما تنزل المرأة إلى المدينة سوف تفهم كل شيء ، عندها سنرى ، هل ستستطيع إغلاق فمها ؟ ****
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD