أزمة شرف

1383 Words
قبع ( حبيب ) الجريح في ظلام العلية وأشار بيده أن  " اسكت ! "  أما الطفل فكان محمراً  . لم يرفع صوته  ، لكنه كاد يموت غيظاً  ، حجرة أخرى  ، تبعتها أخريات  ، وكأن مطراً من الحجارة بدأ يتساقط على صفيح الفناء  . زحف ( حبيب ) إلى الطرف الآخر من العلية الذي يشرف على الزقاق  ، وألقى نظرة على الخارج  ، فرأى ( أنور ) الأعرج ورفيقه  ، لم يكن يعرفهما  ، لكنه عرف من دوام مناداة الأطفال له : " أنور بك  ، أنور بك "   إذن هذا هو ( أنور ) الأعرج  . رجل بقدِّ الثور لا يفتأ يحرِّض الأطفال ! - "  اشتموه  . " * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * راح الأطفال يشتمون ( سمير ) بأقذع النعوت  ، وفي مقدمتهم ابن الجارة ( شريفة )  . ولما لم يسمعوا منه ردَّاً  ، لامسوا نقطة الضعف فيه : "  ابن الحرام ( سمير )  ، ( سمير ) ابن الزنا  ، ابن الحرام ( سمير ) ! "   قالت ( شريفة ) الأشبه بالعاهرات بطلاء وجهها وكحل عينيها  ، بعد أن قهقهت قهقهة ارتجفت معها رقبتها الممتلئة : "  لا تتعبوا أنفسكم  ، فأولئك معتادون على أنواع الرذائل  . إنكم تقطعون أنفاسكم بلا جدوى ! " لكن الأطفال لم يستمعوا فقد كانوا ثائرين  . اقترب ( أنور ) الأعرج من ( شريفة ) وهو يجر ساقه العرجاء وقال :  "  لقد شكتني إلى المساعد الأول  . " تظاهرت ( شريفة ) الدهشة  ، وكأنما الشكوى أمر معيب  ، وقالت :  "  الداعره ! دون أن تستحي ؟ " - "  نعم شكتني دون أن تستحي  . " - "  لماذا ؟ - "  ادَّعت بأنني ألاحقها  ، وأنني أقلق راحتها  . " - "  يا الله ! " - "  لكن ليكن ما يكون ! "   غمزت ( شريفة ) بعينها وهي تقول : "  قل إذن أن الود متصل بينها وبين المساعد الأول ! "   لم يخطر هذا ببال ( أنور ) الأعرج : "  فعلاً   ، لتعيشي ألف سنة بعقلك الراجح هذا يا أختي  ، وإلاَّ لماذا ساندها المساعد هكذا صراحة ! "   ثم نادى على صديقه : "  ( تِلِّلي )  ، تعال لحظة ! " * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * كانت معظم معيشة ( تلِّلي جمالي ) ابن ( فاطمة ) الأرملة  ، الذي لم يكن له عمل محدَّد  ، على حساب ( أنور ) الأعرج  . فهما يأكلان ويشربان في طبق واحد  ، ويذهبان معاً بكثرة إلى ( أضنه ) بسيارة ( هاشم بك ) للتسلية والمتعة  . وحين يفصِّل ( أنور ) بدلة لنفسه لم يكن ينسى ( تِلِّلي جمالي )  . اقترب من صديقه : "  ماذا هناك ؟ " - "  انظر ماذا تقول الأخت ( شريفة )  . "  "  ماذا تقول ؟ - "  أما شكتني ( سارا ) إلى المخفر ؟ " - "  نعم  . فعلتْ  . " - "  تقول ربما هناك علاقة بينها وبين المساعد الأول ! "   كان مركزا النظر في عيني ( تلِّلي )  . أضاف قائلاً : "  منذ مدة طويلة وأنا أتحرش بهذه المرأة  ، فلماذا لم تشتك طوال تلك المدة ؟ " هزَّ ( تِلِّلي ) رأسه وقال :  "  حقّا  . لماذا اشتكت الآن ؟ " - "  لماذا اشتكت ؟ لأنها رتَّبت العلاقة حديثاً مع المساعد الأول  . - "  أقسم بشرفي  . هذا لم يخطر ببالنا  . " قال ( أنور ) الذي رأى أقرب صديق له يصدق هذا الموضوع الملفّق :  "  لتكن أمي زانية إن لم يكن الأمر كذلك  . حسناً أيها المساعد  ، تذكَّر هذا جيداً  ، الرجل غير عادي إذن  .  .  . لو همست في أذن عمي همسة واحدة  .  . ها ؟ " - "  بشرفي  . " عين شريفة على ( أنور ) الأعرج من زمن  . بل كان هذا هو سبب كرهها لـ( سارا ) أساسا  ، ولو ترك ( أنور ) الأعرج ( سارا ) وبدأ يلتفت بوجهه إليها لما بقيت هناك مشكلة  . بل ولصارت صديقة ( سارا ) الصدوق  . قالت وهي تتثنى كالحيّة :  "  أماناً يا ( أنور ) بك  . يا لعقلك  ، وكأنه لا توجد امرأة أو فتاة أخرى غير تلك المومس في هذه البلدة الكبيرة  . أليس كذلك يا أخ ( تِلِّلي ) ؟ "   كانت الجارات تتجمع حولهم مثنى وفرادى  . قال ( أنور ) الأعرج : "  صحيح  . إنك محقَّة كل الحق  . ولكن أليس العناد غاية ؟ طالما شكتني هي إلى المساعد الأول  ، فإني إن كنت ابن أخي ( هاشم بك ) لن أترك حيلة إلا وسأستعملها معها  . هيا بنا نذهب يا ( تِلِّلي ) ! "   تركا النسوة مجتمعات  ، واستلما الطريق إلى البقّال همَّت على أمل أن يشرب كل منهما زجاجة من شراب مرمرة  . وكان البقَّال ( هِمَّتْ ) أيضاً أحد الذين نمت أكتافهم منذ أن استلم مسؤولية بعد انتخابات عام 1950  . وكان أيام حزب الشعب الجمهوري يبيع الناس السكر الملون البائت  ، والزَّراق  ، والإبر والخيطان  ، والجبن الجاف  ، وحلوى السكر المعقود  ، وأردأ أنواع المغلفات الورقية  ، والزيتون الأ**د الجاف  ، والمشروبات الكحولية  . ولعدم وجود بيع وشراء عنده كان يغفو طوال النهار خلف منصَّة البيع  . وبفضل ( هاشم بك ) حصل من الحزب الديمقراطي على قرض مصرفي فهدم دكانه القديم  ، وبنى مكانه هذا الدكان الأخاذ بواجهاته الزجاجية البرَّاقة  ، وبدلاً من السكاكر وسواها التي كان يبيعها أيام حزب الشعب الجمهوري  ، صار الآن يبيع العرق والبيرة وأنواع شرابات العنبرية التي تتهافت عليها الفتيات والنساء الشابات ذوات التنانير المتطايرة في الهواء  ، وبدأ يحوي في دكانه مختلف أنواع العطارة  ، والتحف  ، وحتى أقمشة البوبلين  . وخلف الدكان بنى دكاناً أخرى  ، وبالأصح حانة أنيقة بمقاعد دوَّارة عالية على الطراز الأمريكي  . دخل ( أنور ) الأعرج و( تِلِّلي جمالي ) حانة ( هِمَّت ) البقال  ، وقد توزعت على جدرانها البيضاء الألوان الحمراء الغامقة والخضراء الداكنة  ، ورسوم ملائكة ترفرف بأجنحتها  ، وغروب شمس على شواطئ بحار مجهولة حافلة بعرائس بحر نصف كل منها سمكة ونصفها الآخر فتاة حسناء  ، وأشجار نخيل  . وبدون أي سبب منطقي توجد أيضاً رسوم وحوش خرافية بسبعة رؤوس  ، يهاجمها شبان بأسلحة بيضاء  ، وسيوفاً ذات نصلين  .  .  . كل هذه الأشياء وغيرها وغيرها كانت تملأ جدران الحانة بابتذال شديد  ، وبدون أدنى ذوق  . أما عدا ذلك  ، فيمكن أن يقال أن كل شيء كان مرتباً في مكانه  ، وكأن حانة أمريكية من الدرجة الأولى جُلبت ووُضعت هنا في أضنة  . الوقت مازال مبكراً  ، لذلك لم يكن هناك رواد  . فقط وقف عاملان على إحدى الطاولات يفرزان البطاطس التي سوق يقلونها لمازة المساء  . وما أن رأيا الداخلين أسرعا لاستقبالهما : - "  تفضل ( أنور ) بك ! "   وبما أن ( أنور ) الأعرج زبون مداوم على الحانة  ، لم يلتفت إلى النادِلَين  ، بل دخل بثقة واتجه إلى إحدى الزوايا فسحب هو و( تِلِّلي ) مقعدين بقوائم طويلة وجلسا عليهما  . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD