قبع ( حبيب ) الجريح في ظلام العلية وأشار بيده أن " اسكت ! " أما الطفل فكان محمراً . لم يرفع صوته ، لكنه كاد يموت غيظاً ، حجرة أخرى ، تبعتها أخريات ، وكأن مطراً من الحجارة بدأ يتساقط على صفيح الفناء .
زحف ( حبيب ) إلى الطرف الآخر من العلية الذي يشرف على الزقاق ، وألقى نظرة على الخارج ، فرأى ( أنور ) الأعرج ورفيقه ، لم يكن يعرفهما ، لكنه عرف من دوام مناداة الأطفال له : " أنور بك ، أنور بك "
إذن هذا هو ( أنور ) الأعرج .
رجل بقدِّ الثور لا يفتأ يحرِّض الأطفال !
- " اشتموه . "
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
راح الأطفال يشتمون ( سمير ) بأقذع النعوت ، وفي مقدمتهم ابن الجارة ( شريفة ) . ولما لم يسمعوا منه ردَّاً ، لامسوا نقطة الضعف فيه : " ابن الحرام ( سمير ) ، ( سمير ) ابن الزنا ، ابن الحرام ( سمير ) ! "
قالت ( شريفة ) الأشبه بالعاهرات بطلاء وجهها وكحل عينيها ، بعد أن قهقهت قهقهة ارتجفت معها رقبتها الممتلئة : " لا تتعبوا أنفسكم ، فأولئك معتادون على أنواع الرذائل . إنكم تقطعون أنفاسكم بلا جدوى ! "
لكن الأطفال لم يستمعوا فقد كانوا ثائرين .
اقترب ( أنور ) الأعرج من ( شريفة ) وهو يجر ساقه العرجاء وقال : " لقد شكتني إلى المساعد الأول . "
تظاهرت ( شريفة ) الدهشة ، وكأنما الشكوى أمر معيب ، وقالت : " الداعره ! دون أن تستحي ؟ "
- " نعم شكتني دون أن تستحي . "
- " لماذا ؟
- " ادَّعت بأنني ألاحقها ، وأنني أقلق راحتها . "
- " يا الله ! "
- " لكن ليكن ما يكون ! "
غمزت ( شريفة ) بعينها وهي تقول : " قل إذن أن الود متصل بينها وبين المساعد الأول ! "
لم يخطر هذا ببال ( أنور ) الأعرج : " فعلاً ، لتعيشي ألف سنة بعقلك الراجح هذا يا أختي ، وإلاَّ لماذا ساندها المساعد هكذا صراحة ! "
ثم نادى على صديقه : " ( تِلِّلي ) ، تعال لحظة ! "
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
كانت معظم معيشة ( تلِّلي جمالي ) ابن ( فاطمة ) الأرملة ، الذي لم يكن له عمل محدَّد ، على حساب ( أنور ) الأعرج . فهما يأكلان ويشربان في طبق واحد ، ويذهبان معاً بكثرة إلى ( أضنه ) بسيارة ( هاشم بك ) للتسلية والمتعة . وحين يفصِّل ( أنور ) بدلة لنفسه لم يكن ينسى ( تِلِّلي جمالي ) .
اقترب من صديقه : " ماذا هناك ؟ "
- " انظر ماذا تقول الأخت ( شريفة ) . "
" ماذا تقول ؟
- " أما شكتني ( سارا ) إلى المخفر ؟ "
- " نعم . فعلتْ . "
- " تقول ربما هناك علاقة بينها وبين المساعد الأول ! "
كان مركزا النظر في عيني ( تلِّلي ) . أضاف قائلاً : " منذ مدة طويلة وأنا أتحرش بهذه المرأة ، فلماذا لم تشتك طوال تلك المدة ؟ "
هزَّ ( تِلِّلي ) رأسه وقال : " حقّا . لماذا اشتكت الآن ؟ "
- " لماذا اشتكت ؟ لأنها رتَّبت العلاقة حديثاً مع المساعد الأول .
- " أقسم بشرفي . هذا لم يخطر ببالنا . "
قال ( أنور ) الذي رأى أقرب صديق له يصدق هذا الموضوع الملفّق : " لتكن أمي زانية إن لم يكن الأمر كذلك . حسناً أيها المساعد ، تذكَّر هذا جيداً ، الرجل غير عادي إذن . . . لو همست في أذن عمي همسة واحدة . . ها ؟ "
- " بشرفي . "
عين شريفة على ( أنور ) الأعرج من زمن . بل كان هذا هو سبب كرهها لـ( سارا ) أساسا ، ولو ترك ( أنور ) الأعرج ( سارا ) وبدأ يلتفت بوجهه إليها لما بقيت هناك مشكلة . بل ولصارت صديقة ( سارا ) الصدوق .
قالت وهي تتثنى كالحيّة : " أماناً يا ( أنور ) بك . يا لعقلك ، وكأنه لا توجد امرأة أو فتاة أخرى غير تلك المومس في هذه البلدة الكبيرة . أليس كذلك يا أخ ( تِلِّلي ) ؟ "
كانت الجارات تتجمع حولهم مثنى وفرادى .
قال ( أنور ) الأعرج : " صحيح . إنك محقَّة كل الحق . ولكن أليس العناد غاية ؟ طالما شكتني هي إلى المساعد الأول ، فإني إن كنت ابن أخي ( هاشم بك ) لن أترك حيلة إلا وسأستعملها معها . هيا بنا نذهب يا ( تِلِّلي ) ! "
تركا النسوة مجتمعات ، واستلما الطريق إلى البقّال همَّت على أمل أن يشرب كل منهما زجاجة من شراب مرمرة .
وكان البقَّال ( هِمَّتْ ) أيضاً أحد الذين نمت أكتافهم منذ أن استلم مسؤولية بعد انتخابات عام 1950 .
وكان أيام حزب الشعب الجمهوري يبيع الناس السكر الملون البائت ، والزَّراق ، والإبر والخيطان ، والجبن الجاف ، وحلوى السكر المعقود ، وأردأ أنواع المغلفات الورقية ، والزيتون الأ**د الجاف ، والمشروبات الكحولية .
ولعدم وجود بيع وشراء عنده كان يغفو طوال النهار خلف منصَّة البيع .
وبفضل ( هاشم بك ) حصل من الحزب الديمقراطي على قرض مصرفي فهدم دكانه القديم ، وبنى مكانه هذا الدكان الأخاذ بواجهاته الزجاجية البرَّاقة ، وبدلاً من السكاكر وسواها التي كان يبيعها أيام حزب الشعب الجمهوري ، صار الآن يبيع العرق والبيرة وأنواع شرابات العنبرية التي تتهافت عليها الفتيات والنساء الشابات ذوات التنانير المتطايرة في الهواء ، وبدأ يحوي في دكانه مختلف أنواع العطارة ، والتحف ، وحتى أقمشة البوبلين .
وخلف الدكان بنى دكاناً أخرى ، وبالأصح حانة أنيقة بمقاعد دوَّارة عالية على الطراز الأمريكي .
دخل ( أنور ) الأعرج و( تِلِّلي جمالي ) حانة ( هِمَّت ) البقال ، وقد توزعت على جدرانها البيضاء الألوان الحمراء الغامقة والخضراء الداكنة ، ورسوم ملائكة ترفرف بأجنحتها ، وغروب شمس على شواطئ بحار مجهولة حافلة بعرائس بحر نصف كل منها سمكة ونصفها الآخر فتاة حسناء ، وأشجار نخيل .
وبدون أي سبب منطقي توجد أيضاً رسوم وحوش خرافية بسبعة رؤوس ، يهاجمها شبان بأسلحة بيضاء ، وسيوفاً ذات نصلين . . .
كل هذه الأشياء وغيرها وغيرها كانت تملأ جدران الحانة بابتذال شديد ، وبدون أدنى ذوق .
أما عدا ذلك ، فيمكن أن يقال أن كل شيء كان مرتباً في مكانه ، وكأن حانة أمريكية من الدرجة الأولى جُلبت ووُضعت هنا في أضنة .
الوقت مازال مبكراً ، لذلك لم يكن هناك رواد . فقط وقف عاملان على إحدى الطاولات يفرزان البطاطس التي سوق يقلونها لمازة المساء . وما أن رأيا الداخلين أسرعا لاستقبالهما :
- " تفضل ( أنور ) بك ! "
وبما أن ( أنور ) الأعرج زبون مداوم على الحانة ، لم يلتفت إلى النادِلَين ، بل دخل بثقة واتجه إلى إحدى الزوايا فسحب هو و( تِلِّلي ) مقعدين بقوائم طويلة وجلسا عليهما . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *