نسيت ( سارا ) ( أنور ) الأعرج ، وصارت كلها آذاناً صاغية .
- " حتى لو شوهد في هذه الأنحاء ، فأنتم تعرفون بلدتنا ، ليس فيها من يخفيه . مع ذلك نفتش البيوت إذا استدعى الأمر ، لكني أرى أنه لا ضرورة لذلك إذ سيكون إجراء لا طائل منه ، نعم ، أعرف ، نحن أيضاً تردنا أوامر مشدَّدة ولكن . . . تمام ! "
أعاد السماعة إلى مكانها .
ارتعدت ( سارا ) عندما سمعت جملة " تفتيش البيوت " فسألت والخوف يملؤها : " ماذا جرى يا سيدي الرئيس ؟ "
ترك المساعد الأول الصورة التي في يده على الطاولة ، ونهض قائلاً : " يقال بأن أحدهم حرَّض قرويين على إحراق مزرعة ، ثم هرب مساء البارحة إلى هذه الأنحاء . . . "
اقتربت ( سارا ) من الطاولة بهدوء ، وتناولت الصورة التي تركها المساعد الأول قبل قليل ، ونظرت إليها . ومع نظرتها وصلت روحها إلى حلقها ، إنها صورة الغريب الذي في منزلها !
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
وجَّه المساعد الأول كلامه إلى العسكري الجالس وراء الآلة الكاتبة قائلاً : " اسم الرجل ( حبيب ) . إنهم ثلاثة أشقاء ، إضافة إلى أبيهم ، اذهب بعد قليل إلى مقهى ( عتاقة ) وأصيخ السمع . بل اترك مقهى ( عتاقة ) واذهب وجُل على مقاهي حزب الشعب الجمهوري ومقاهي حزب الأمة . فالديمقراطيون لا يخفون الهارب ، بل يخفيه أعضاء أحزاب المعارضة ، هل فهمت ؟ "
قال العسكري باحترام : " فهمت سيدي القائد . "
في هذه اللحظة بالذات دخل ( أنور ) الأعرج : " مرحباً أيها السيد الرئيس . "
تغيَّر المساعد الأول ولان فجأة : " أهلاً أنور بك ، تفضل ، يا أخي الهاتف تلو الهاتف ! "
تساءل ( أنور ) الأعرج : " وماذا هناك ؟ "
- " وماذا سيكون ؟ "
- " هل هو موضوع الهارب ؟ "
- " يبدو أن الرجل التجأ إلى هذه النواحي . "
سحب ( أنور ) الأعرج كرسياً جلس عليه وقال : " عندنا هنا حتى الطائر الغريب لا يستطيع الطيران . ماذا يظنون بلدتنا ؟ ألا يعرفون من هو قائد مخفرنا ؟ "
ضحك رئيس المخفر بغرور ، وتظاهر بأنه لم يسمع . فأضاف ( أنور ) الأعرج قائلاً : " نعم سيادة المساعد الأول ، من هو قائد المخفر هنا ؟ "
ضحك رئيس المخفر ثانية وقال : " دمت سالماً ! "
ثم التفت إلى ( سارا ) : " هل لد*ك ما تقولينه ؟ "
حارت ( سارا ) وقد رأت مكانة ( أنور ) الأعرج لدى المساعد الأول ، وندمت على قدومها .
نظرت وجلة إلى أنور الذي بادر بالقول : " تكلمي تكلمي . قولي أنك جئت تشكينني ! "
قال المساعد الأول بدهشة : " هل جاءت تشكوك ؟ "
قال أنور هازئاً : " اسألها ! "
كان السهم قد انطلق من القوس ، فقالت ( سارا ) باكية : " لقد سئمت ومللت من هذا الرجل يا سيادة المساعد الأول ، إني لا أريده ، وهو يلاحقني ويطاردني ، أرجوك أن تؤدبه ! "
قهقه أنور وهو يفتل شاربيه الأ**دين . فاختصر المساعد الأول الموضوع قائلاً : " حسناً حسناً ، اذهبي الآن ، وسوف أؤدبه أنا ! "
وبعد أن خرجت سأل أنور : " ما المسألة ؟ "
فأجاب ( أنور ) الأعرج بلا مبالاة : " لا شيء ، إنها تعيش بلا زوج منذ سبع سنوات . هل يجوز هذا ؟ امرأة مثل الوردة ، عرضت عليها الزواج بأمر الله فرفضت . إما أن تقبل الزواج بي أو . . . "
- " أو ماذا ؟ "
نهض ( أنور ) الأعرج عن كرسيه ، واقترب من طاولة المساعد الأول ، ويداه خلف ظهره ، وقال : " أو أغتصبها ! "
بقدر ما كان يبديه المساعد الأول من تقدير للديمقراطيين ، إلاَّ أنه مع ذلك كان عسكرياً . فقد رفع حاجبيه وقال : " لا ، هذا ما صار ! "
كان ( أنور ) الأعرج يعرف طباع المساعد ، ويعرف أنه مهما كان منزعجاً فإنه يهدأ ويرتاح عندما يُمشَّط بمشط على قدِّ ذقنه .
- " لماذا ؟ "
- " اغتصاب ؟ لا يمكن ! "
ضحك وقال : " هل هناك ما لا يمكن برعاية وعناية مساعدي ؟ "
فعلاً سرعان ما لان المساعد وهو يقول : " نعم لكل ما هو ضمن إطار القانون ، ولكن عندما يخالف القانون ينقطع زيته من عندي ! "
- " ألا أعرف ذلك ؟ "
- " إن كنت تعرف فلماذا تتحدث عن الاغتصاب ؟ "
- " لأن الأصبع التي يقطعها الشرع أو القانون لا تؤلم . عرضتُ عليها بالحسنى الزواج بي فرفضت ، فقلت أغتصبها مرَّة ، ويُفتضح الأمر ، فتضطر عندئذ للزواج بي ! "
سعل بخشونة وأردف : " من ناحية أخرى ، وأنت تزورنا في البيت ، فنشرب القهوة ، وعندما ترتفع حرارة رأسنا نشرب العَرَق . . . "
ضحك المساعد الأول : " هكذا صار الآن . صار طبعاً ، لماذا ترفض الزواج بك ؟ "
رفع ( أنور ) الأعرج كتفيه قائلاً :
- " وما أدراني ؟ "
- " ألا تكون لها علاقة بآخر ؟ "
- " لا أظن . "
- " ما دامت لا تريدك ، فلا ترمِ نفسك عليها ، دعها فالدنيا ليست مكونة منها فقط !
أخرج ( أنور ) الأعرج سبحته البيضاء من جيبه وقال :
- " من تعشقها النفس هي الجميلة يا مساعدي . "
- " صحيح ، صحيح ولكن . "
- " لا لكن . إني أحبها يا صديقي . هذا هو الموضوع ، ليس في الميدان شيء بعد . فإذا ما حدث شيء فإنك رجل قانون طبِّق حينها الإجراءات اللازمة . هيا أستودعك الله . "
بعد أن رمقه المساعد الأول بنظراته طويلاً وهو يغادر ، عاد والتقط صورة الهارب ( حبيب ) من فوق طاولته .
لقد هرب الرجل إلى هذه النواحي إذن .
وإذا اتجه إلى هذه النواحي ثم غيَّر طريقه أثناء ذلك ؟
وإذا اتجه إلى جهة غيرها ؟
وإذا كان مختبئاً داخل الغابة ؟
لو اقتنع بجدوى تفتيش منازل البلدة لما تردَّد وفتَّشها ، لكنه كان يرى أن لا جدوى .
ترك الصورة على الطاولة ، ونهض واستقام برهة ، ثم اتجه نحو النافذة وهو يفكر . رأى ( أنور ) الأعرج وأحد أصدقاء سُكره وعربدته ذاهبَين متجاورين ، ففكر فيما يتحدَّثان فيه ، وفيما يمكن أن يتحدثا فيه . الأمر بسيط جدا ، لا بد أنهما يتحدثان عن ( سارا ) !
فعلاً ، فإن ( أنور ) الأعرج قال : " كأن المساعد الأول سيعلقني من مؤخرتي إلى السقف ! أنتم الذين تخافون من المساعد ومن الرقيب . أما أنا فهل يهمني مساعدك ورقيبك ومدعيك ؟ "
أجابه ( تلِّلي ) رفيقه الناشف :
- " لا أبداً يا حبي . "
- " هل أنا تلميذ مدرسة ؟ "
- " إذن فقد هرب الرجل إلى نواحينا هذه ! "
كان ذهن ( تلِّلي ) في مكان آخر !
- " هكذا أخبروا المساعد هاتفياً . "
- " هل يمكنه أن يختبئ في نواحينا هنا يا ترى ؟ "
- " الله وحده يعلم ؟ "
- " . . . . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . . . . "