جنون وأوهام

4392 Words
تابع الطفل قائلاً : " أمَّا ( علي ) هذا ، فقد جنّ جنونه عندما امتطيت الدرّاجة ، لقد نظرَ القذر إليّ نظرات اشمئزاز ، وسبّني ! " رفعت المرأة رأسها بحدَّة وسألته : " شتمك ؟ " أكّد : " شتمني . " سألت في حدة أشد : " لماذا ؟ " أجاب في بساطة : " لأن عمّي ( أنور ) أركبني الدراجة ، ولم يُركبه هو . . . " عقدت حاجبيها قائلة : " ماذا قال ؟ " هل يكرر ما قاله ( علي ) ؟ ألن تغضب أمه إذا ردَّد ما قاله ( علي ) ؟ الحت في استنطاقه : " ها ؟ ماذا قال ؟ " انطلق السهم من القوس ، وما عاد يمكنه الصمت أكثر . قال في حياء : " لو كانت أمي أيضاً جميلة مثل أمك . . . " دهشت : " هل قال ( علي ) ذلك ؟ " أومأ برأسه : " نعم يا أمي . " كررت : " نعم ؟ " واستطرد : " . . . لو كانت أمي جميلة ، لأركبني عمّي ( أنور ) الدرّاجة أنا أيضاً . فقلت له ، لا تنطق اسم أمي على لسانك ، فسوف يأتي أبي ، وسوف يجلب لي معه درّاجة ذات ثلاث عجلات . فقال : هيهات ، أبوك لن يعود أبداً ولن يحضر معه أي شيء لك . " ثم أنه حدَّق في أمه طويلاً ، وقال : " سوف يأتي أبي ، أليس كذلك يا ماما ؟ " تأثّرت ( سارا ) أشدَّ التأثّر ، وراح ص*رها المتأجج العامر يعلو ويهبط . كانت ستنفجر بالبكاء لو مسَّها أحد . آه من زوجها . آه من زوجها عديم التفكير .الرجل الذي جعل من زوجته مضغة تلوكها ألسن الكلاب دون أن تقترف ذنباً أو تأتي بخطيئة .وتابع الولد : " ثمّ تشاجرنا أنا و( علي ) ، وفرَّق العم ( أنور ) بيننا ، وقال لي . . . " ثم أمسك خائفاً . فسألته أمه بوجه عابس : " ماذا قال ؟ " تمتم : " ألا تحتدِّين ؟ " قالت بسرعة : " لن أحتدَّ . " نظر في عينيها : " بل سوف تحتدِّين ، انني أعرفك " نهرته : " لن أحتدَّ ، فقل . " قال بسرعة : " قال : لو كنت ولدي لاشتريت لك دراجة مثل هذه ، ولما تفوَّه أحد عنك بكلمة . " انتصبت ( سارا ) فجأة مثل لبؤة شرسة وسألته : " بمَ أجبته عندما قال ذلك ؟ " صمت الولد تماماً فقالت : " ألم تقل لـه أنا لدي أب مثل الأسد ، وسوف يأتي يوماً ، وسوف يجلب لي معه أل**باً أجمل وأحلى من كافة أل**ب الآخرين ؟ ها ؟ ألم تقل ذلك ؟ هيا انطق ! " وقف الطفل حائراً ، مرتبكاً أشدَّ الارتباك ، إذ كان يعرف أنه أمّه سوف تحتدَّ على هذا النحو بالضبط .صاحت : " انت . .إنني أخاطبك ! " وكمقترف ذنباً نظر إلى أمّه وسألها : " ماذا ؟ " قالت في عنف : " ألم تستطع أن تقول أبي كذا وكذا ، وسوف يعود ، وسوف يشتري لي أجمل الأل**ب ، ولا أريد أباً آخر غير أبي ؟ " ورغم أنه لم يقل ذلك ، أجابها : " قلت ، أيمكن أن لا أقول ؟ " * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * مضت الأيام مسرعة بلا هوادة ولا توقّف . لم يكن القمر هناك فوق سماء هذه الليلة . ثمة نجوم كبيرة تتلألأ في السماء اللازوردية الصافية . وعلى ضوء هذه النجوم البرّاقة في السماء ، كان هو يركض منقطع الأنفاس ، يجري لاهثاً والأعشاب والشجيرات تحفّ حفيفاً . إلى أين سيصل به هذا الركض ؟ هل هناك مكان يجب عليه الوصول إليه ؟ لا يعرف . كان يجري وحسب ، والأحرى ، كان يجري هارباً ، خوفاً من الاعتقال . كانت الدغلة متشابكة كثيفة ، والشجيرات متداخلة متراصّة, وكانت دغلة الشجيرات هذه تسمى " مرعى النمر " ، وأوراق شجيراتها تلمع برّاقة تحت ضوء النجوم . توقّف برهة ، يلتقط أنفاسه ، نظر فيما حوله ، ثمّ انه التفت بغتة إلى الخلف ، وراح ينظر إلى ما وراءه بعيداً ، يلفّه حَذَر وحشٍ عجوز مجفل ، وفي وجهه المتصبّب عرقاً لهيب حرائق ، وفي عينيه ألسِنة من تلك النار . . . هل هو خائف ؟ لا يعرف حقيقة ، لأنه لم يكن يفكر في شيء تقريباً في تلك اللحظة . الشيء الوحيد الذي يفكر فيه هو أن لا يُعتقل بسبب قيادته للفلاحين الذين أقدموا على إحراق المزرعة . وماذا بعد ؟بعد ذلك . . . قد يكون الأمر هيناً ، قد يعبُر جبال ( عتاقة ) ، ويجتاز أرض الوطن ، ويُلقي بنفسه إلى ( عربستان ) . كانت سورية تعني لديه ( عربستان ) ، وكذلك العراق ( عربستان ) ، ومصر ( عربستان ) ، والأردن ، ولبنان . خلاصة الكلام ، كل ما خلف جبال ( عتاقة ) من أوّله إلى آخره يعني لديه ( عربستان ) . وما أن يُلقي بنفسه إلى ( عربستان ) ، يكون قد نجا . خمس سنوات ، عشر سنوات ، عشرين سنة إذا اضطره الأمر . . . ولابد من صدور العفو حتّى ذلك الحين ، عندها سوف يعود إلى بلده . حتماً سوف يعود . استهان بكل شيء .استهان حتّى بعبور جبال ( عتاقة ) . استهان حتى بغربته في ( عربستان ) ، واختبائه هنا وهناك ، والجوع والظمأ ، وطول شَعره ولحيته بسبب هروبه وتخفّيه حتّى عن عيون الطيور في السماء . بطوله وبمنكبيه العريضين يبدو كعملاق ، يحسب الناظر إليه أنه يأكل خروفاً صغيراً مشوياً مع عدّة أرغفة من الخبز ، ثمّ يعب بعد ذلك برميلاً كبيراً من الماء . وجهه غير الواضح القسمات تحت ضوء النجوم ، لم يكن جميلاً ، لكنه لم يكن قبيحاً كذلك ، إنما يشي جسده برجولة تامة . أمّا جسمه العملاق فيعبِّر عن بأس وقوة رجل حقيقي ، يبدو كأنه لو أمسك بيده بلطة ودخل الغابة ، لرمى جذوع الأشجار الشامخة المتطاولة ذوات الجذوع العملاقة ، أرضاً واحدة إثر الأخرى ، لوحده ودون أية صعوبة تذكر . أو أنه يستطيع أن يرفع بكتفيه عربة محمَّلة سقطت في الوحل ، وعجزت الثيران عن سحبها وانتشالها .كان يبعث في النفس هذا الشعور ! فهل هو كذلك حقاً ؟وهل يستطيع القيام بكل ذلك فعلاً ؟بحذر غير محدود ، مجفل من أدنى حركة ، حاول التقاط أنفاسه ، ثمّ دخل وغاب في غياهب ظلام عالم الدغلة الكثيفة . عندما خرج كان على أطراف بلدة كبيرة ظنها قرية . أنفاسه تتتابع . .توقَّف . . .ثمة رائحة غريبة . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * استمع إلى نباح بعيد لكلاب كبيرة . كل الكلاب التي على وجه الأرض تتشابه تقريباً . إنه يعرف الكلاب جيداً ! الويل أن تشمَّ رائحة غريبة . . . فإذا ما شمَّ أحدها هذه الرائحة يبدأ بالنباح . وعندما ينبح ، فكأن أمراً قد ص*ر إليها ، إذ يبدأ كلب آخر بالنباح ، وبعد قليل آخر غيره ، وفي النهاية تنبح الكلاب جميعاً ، كبارها وصغارها ، ذكورها وإناثها . كائناً من كان الغريب ، وأينما كان مختبئاً أو مختفياً ، حتّى لو أشهر مسدسه وصوَّبه عليها ! كان قد نسي مسدسه العاري الذي يحمله في يده ، حقيقة نسي هذا السلاح الأ**د الذي بقيت فيه رصاصة واحدة أخيرة ، مع أنه افاده كثيراً في الهرب والإفلات من مطارديه ، بعد أن أحرق المزرعة . وفجأة شعر بألم جرح الرصاصة في كتفه ، وبلا إرادة منه تسلَّلت يده من تحت قميصه الممزق الدامي وزحفت نحو الجرح الذي في كتفه ، سحب يده ، ونظر . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * دم ! * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * أهو بسبب الرصاص الذي أطلقه عليه رجال الشرطة ، أم من رصاص حرّاس المزرعة التي أحرقها ؟ أياً كان ، لا وقت لديه للتفكير بهذا أيضاً . إنه مُنهك جداً . .حالته لا تسمح لـه بمتابعة الهرب ولكن ، . . عليه أن يجري هارباً ، يجب أن يفر . . عليه أن يتخلّص من الاعتقال ، ومن الرمي في ظلمات السجن ، ثمّ من حبل المشنقة بسبب جريمته الكبرى ! ومن أعماق البعيد ، إنما أقرب كثيراً من ذي قبل ، تعالى فجأة نباح كلب . طار صوابه ، وازداد اضطرابه إذ لاحظ أن هذا النباح كأنه جواب للنباح الأول . زاد حذره ، فشهر المسدس الذي في يده . حسناً ولكن ألن يكون في استعمال المسدس ضد الكلاب مخاطرة كبيرة ؟ هذا النباح الذي يقترب ممزقاً هدوء ليل القرية ـ لم يكن يعرف أنها بلدة ، وكان يظنّها قرية ـ والذي يتعملق كلّما اقترب بانضمام نباح كلاب أخرى وأخرى ، ألا يعني أن خطراً ما يقترب منه ؟ إذن فقد شمَّت الكلاب رائحته ، وعليه الآن أن يعرض عن استعمال المسدس أو غيره ، وأن يطلق ساقيه للريح من جديد . غاب ثانية في غياهب ظلام بحر الدغلة الكثيفة . وحين خرج كان قد وصل إلى مشارف البلدة ، ونباح الكلاب المتكاثرة خلفه . وقف متقطع الأنفاس . جرحه يؤلمه ، ورأسه يدور ، وعيناه تسودَّان ، وساقاه تعلنان العصيان وعدم قدرتهما على حمل جسمه العملاق . ثم جلس القرفصاء . جرحه يؤلمه بشدّة . هل كان خَوْرُ قواه ناجماً عن جرحه يا ترى ؟ ربّما كان ناجماً عن نزفه للدم . نزيف الدم ، والجرح الذي بدأ يبرد ، والذي لن يستطيع تحمّل آلامه المُبرحة إذا ما برد تماماً ، والذي قد تسوء حالته ، وقد ينتن ويشتعل إذا ما بقي بضعة أيام بلا عناية وتنظيف ، وإذا لم يُدهن بالمراهم . وللحظة خطرت بباله زوجته التي تركها في قريته مع طفله الوليد . - " حبيب " كانت قد قالت له : " . . . إني أرى أن عاقبة هذا الأمر ستكون وخيمة . سوف تفتح على رأسك باباً . أنا فداك . لقد قتلت ( رضوان ) بيك وألقيت به جثّة هامدة ، لأنه صفعك ، ونمت على ذلك ومرَّت المسألة ولم تُكشف . لكن دعك من إحراق مزرعته . يد الحكومة طويلة ، وذراعها طويلة . وسوف يكشفون ويعرفون الذي حرَّض الفلاحين ، وسوف تُلقى تبعة الجريمة على كاهلك وحدك ، وسوف تنفجر القرعة فوق رأسك . و*داً عندما تحلّ المصيبة ، فإن أباك وأشقاءك سوف يجد كل منهم مبرراً ويتنصّلون منا . إن كنت لا تهتم بي فارحم ابنك ! " . لم يكن هذا وقت التفكير بهذه الأمور ، فقد صار الذي صار ، ومضى الذي مضى . الشيء الوحيد الذي يجب التفكير فيه الآن هو كيفيّة إيجاد مكان لـه للاختباء فيه بضعة أيام ، ثمّ الفرار من أراضي الوطن ! نظر إلى المسدس الذي في يده : هذا هو المسدس الذي أدّى حق المزارع الكبير ( رضوان ) بيك ! المزارع الكبير ، ( رضوان ) بيك الذي وصل طنينه ورنينه إلى السماء ! فعلاً كان الرجل أشبه بملك خلق الجبال الصغيرة . فهو يملك آلاف الدونمات من الأرض ، ومثلها من أراضي أملاك الدولة ، وبقدرها أراضي الفلاحين . جُهْدُ وتعب آلاف العمال سنوياً . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * آلاف بالات القطن التي تباع وتُوضع أثمانها مئات آلاف الليرات في حسابه الجاري في المصرف . سيارته الخاصة الحديثة ، اليوم هنا ، و*داً في أنقره ، وبعد غد في اسطانبول ، باريس ، روما ، مونت كارلو . . . أمامه كل ما يشتهيه من طعام وشراب ، وخلفه ما لا يشتهيه . أعلى وأرقى مظاهر الأبّهة والترف . الأسبوع ثمانية وأيامه تسعة والسيارات الخاصة الملأى بالنساء الفاتنات لا تفتأ تنقلهن إلى المزرعة التي تمور بهن وتضجّ بأصواتهن الناعمة الساحرة . فعلاً كان الرجل يظن نفسه مَلِكاً ، ويتصرف على هذا الأساس . وكان الفلاحون يغضّون الطرف نوعاً ما عن كل هذا . لكن الرجل ازدادت غطرسته ، وازداد جبروته ، ولم يعد بالإمكان إيقافه عند حد ، ولو لم يضم أراضي وأملاك الفلاحين المسجلة بأسمائهم في سجلات الطابو إلى أراضيه وأملاكه ، ثمّ ينتسب أخيراً إلى الحزب الديمقراطي المؤسَّس حديثاً . . . امتقع وجه ( حبيب ) . مع أنهم كم من الإنجازات كانوا ينتظرون من هذا الحزب الجديد . فكم وكم من الظالمين الكُثر أمثال ( رضوان ) سوف يحاسبهم هذا الحزب ، وسوف يُخرج من أنوفهم الحليب الذي رضعوه من أمهاتهم ، حسبما يقال . ولكن عندما نشرت إحدى الصحف الديمقراطية في المدينة في صبيحة أحد الأيام بعنوان عريض نبأ انتساب ( رضوان ) إلى الحزب . . . خاب أمل ( حبيب ) وأمثاله ممّن كانوا يفكرون مثله ، وأيقنوا أنه " لا فائدة من هؤلاء أيضاً ! " إذ كيف يمكن للمظلومين أن يروا أولئك الذين ظلموهم على مدى سنين طويلة ، وقد صعدوا فجأة فوق رؤوسهم في قيادة حزب " الحق " الذي تجمّع فيه المظلومون ؟ كانت هذه هي القطرة الأخيرة . ورغماً عنه ، تذكَّر حبيب صقرَ الظالمين ( رضوان ) ، وتذكَّر الليلة التي قُتل فيها صقر الظالمين هذا . كانت ليلة كهذه الليلة تتلألأ سماؤها بالنجوم ، بلا قمر . وكانت هناك دغلات مكوَّرة كثيرة في الفضاء الممتد بين قريتهم والمدينة . كَمُن حبيب للرجل في إحدى هذه الدغلات . دخل الرجل البدين القصير بسيارته الكاديلاك السوداء في الطريق الذي يمرّ بين الدغلات . وقبل مضي وقت طويل أنيرت المنطقة وصارت نهاراً بفعل أضواء السيارة الكاديلاك القوية . في تلك اللحظة أبصر الرجل كيساً مليئاً ببذور القطن مُلقى على الأرض على بعد أمتار قليلة أمام سيارته ، ضغط على الفرامل بشدّة . قفزَ من السيارة ، يريد أن يسحب كيس بذور القطن إلى حافة الطريق ، ويفتح الطريق لمرور سيارته . كان الدَّيوث مثل البهلوان ، فبسحبة واحدة سحب الكيس إلى حافة الطريق تماماً ، لحظتها أيضاً هكذا كان في يده هذا المسدس نفسه الذي في يده الآن ، وعلى بعد خمسة أمتار من الكاديلاك ، ومن خلف إحدى الدغلات صرخ به حبيب : - " ( رضوان ) ! " استدار ( رضوان ) القوي البدين القصير ربما بخوف من هذا الصوت الهادر ، في هذه الساعة من الليل ، وتحت ضوء النجوم ، ربما كان سيمدُّ يده إلى مسدسه ، لكن حبيباً لم يُمهله ، إذ سرعان ما ضغط على زناد المسدس الذي في يده . طار صوابه وقد انتبه فجأة إلى نباح كلاب . أواه . الكلاب مرَّة أخرى ، ولكن بمجموعات أكبر من المرّات الأخرى ، وأقرب كثيراً هذه المرّة . إنها قادمة وهي تنبح . ليست قادمة ، بل مهاجمة . عليه أن يهرب وينجو . الشيء الوحيد الذي يتوجب عليه فعله هو الهروب والنجاة . وإلاَّ فهناك رجال الدرك ، والسجن ، والمحكمة ، والمحاكمة ، والحبل في صبيحة إحدى الليالي ! كان متعباً ، منهكاً ، خائر القوى ، لكنه رغم ذلك ، نهض من مكانه ، وبقوة فوق طاقة البشر ، التقط أنفاسه واستجمع قواه المتهالكة ، ومن جديد راح يجري هارباً .كان يظن أنه هرب ونجا من الكلاب . ولكن من أين ؟ وليس هناك مكان يلجأ إليه . يكاد يسقط ، وعيناه تسودَّان ، وخيالات قاتمة تتطاير أمام عينيه المسودَّتين . وفيما هو يفر في طرف البلدة التي لا يعرف أحد في أي درجة من درجات النوم تغط بيوتها المُعتمة النوافذ . لفت انتباهه فجأة ضوء أصفر . توقف . هناك إذن بيوت صاحية في هذا الحي المتطرّف من البلدة الناعسة . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * كانت ( سارا ) منحنية تغسل غسيلها ، كان ضوء البيت المستيقظ الأصفر ينبعث من مصباح صيد يكاد يكشف ص*رها النصف عاري وينع** بريقه على طست الغسيل الذي أمامها . كانت ( سارا ) ، كما هي دائماً تغسل فرش ولحف ووسائد وملاءات أحد فنادق البلدة ، وتغسل غيارات زبائن الفندق المتَّسخة . تأخذ بين قبضيتها قطعة الغسيل المنقوعة جيداً بالماء والصابون وتفركها وتدعكها بقوّة ، ثمّ تغطسها في الماء وتقلِّبها ، ثمّ تعاود الكرّة بين قبضتيها . مسحت بظاهر قبضتها الملأى بالصابون حبّات العرق المتجمّعة على نحرها . بعد أن استلم ذلك " الديمقراطي " الخنزير ( أنور ) الأعرج وأمثاله مقاليد الحكم ، أثروا واغتنوا بحصولهم بسهولة على اعتمادات من المصارف ، فاستبدلوا بيوتهم العتيقة المتآكلة ، وبنوا أبنية من طابقين أو ثلاثة ، واقتنوا السيارات ، والبرادات ، وأجهزة الراديو ، واشتروا لأولادهم ولأحفادهم درّاجات بعجلتين وبثلاث عجلات ، ولأنهم اشتروا فوق كل ذلك غسالات كهربائية ، ما عادوا يسمحون للنساء الغسالات أمثال ( سارا ) بغسل غسيلهم ، مع أنها كانت سابقاً تذهب إلى بيت ( هاشم بك ) عم ( أنور ) الأعرج ، وتغسل جبال غسيلهم ، من طلوع الفجر حتّى ساعات متأخرة من الليل ثمّ تغادر . لو وضعنا ( أنور ) الأعرج على طرف ، فإن ( هاشم بك ) وزوجته وبناته ، أناس كرماء لطفاء يقدّرون مشاعر الآخرين . فقط ( أنور ) . . . و( سارا ) ترغب دوماً في الذهاب إليهم ، لولا وجود ذلك الحقير السافل . فهناك على الأقل يلعب ( سمير ) مع ( مسعود ) إبن إبن ( هاشم بك ) كأخوين ، ويمتطي درّاجة ( مسعود ) من الصباح حتّى المساء فيبتهج ويُسَرُّ . هل كان يشعر ببهجة حقيقية ؟ لا تعتقد . ذلك أنه في مساءات مثل تلك النهارات كان يعود إلى البيت مقطِّباً ، فلا يأكل ولا يشرب ، ويندس في فراشه في صمت ، يسند رأسه إلى ص*ر أمّه الرحب ، وينعس . نصبت جذعها فوق طست الغسيل . ا****ة ! ظهرها . . . يا للألم الرهيب ! عدم وجود زوج من ناحية ، وهذا الغسيل الذي لا ينتهي أبداً ولا ينفد من ناحية أخرى ، والتعب . . .مَمَّن ، ومن زوجة من هي أبشع ؟ وكما في كثير من الليالي ، اجتاحتها بقوة نيران رغبة أنثوية عارمة . . . لقد رأت زوجها في الحلم ليلة أمس أيضاً . هل كان زوجها عائداً من حيث ذهب ، أم أنه لم يذهب أبداً ؟ لا تعرف . الرجل عندها ، وابنها ( سمير ) يغفو نائماً بقربهما . يدا زوجها المفتولتان المشعّرتان بساعديهما القويّين تتجوّلان في جسدها ، وتتحسَّسان أكثر الأماكن الأنثوية حساسية وأكثرها إثارة ، وأكثرها تهييجاً . كادت تجن هيجاناً وقد التصقت بالرجل التصاقاً شديداً . ومن ناحية أخرى كانت تعرف أنها إنما ترى حلماً ، وتجاهد نفسها كيلا تفيق منه ، لذلك لم تسأله : " لقد ذهبت لتنل نصيبك من الإرث من ميراث أمك ، فمتى عدت ؟ " . فهي تريد لهذا الحلم أن يطول ويطول ويستمر ويمتد إلى الأبد ، وأن تبقى يداه القويتان تتجوّلان في المنابع الأكثر حساسية وإثارة وتهييجاً . لا شيء . صوت ابنها ( سمير ) : " ماما ! " اعتدلت مرّة أخرى فوق طست الغسيل ، ثمّ مالت عليه ثانية وعادت تغسل . في كل مرَّة ترى فيها زوجها في الحلم ، وفي اللحظة التي يهمَّان فيها بفعل الحب ، يأتي صوت ابنها ويبعثر الحلم : " ماما ! " وقد علمت من أحاديث الجارات العرائس الشابات ، والأرامل المسنَّات أنهنَّ جميعاً يعانين من هذه الحالة . ما أن يدخل زوج إحداهنّ أو عشيقها أو حبيبها في حلمها وما أن يبدأ بالعربدة حتّى يظهر من لم يكن في الحسبان ويبعثر الحلم ويشتته . فهل هذا هو سحر الحلم يا ترى ؟لكنها وإلى أن صاح ( سمير ) : " ماما ! " كانت في قمة شهوتها بفعل لمسات زوجها . لو لم يصرخ الطفل في اللحظة المناسبة تماماً ، لكان الرجل . . .استوت مجفلة فجأة فوق طست الغسيل . دلف أحدهم من باب الحوش مثل طائر عملاق وسقط عند المدخل . قفزت من مكانها وهي تبسمل وتحوقل . كان رجلاً غريباً ممدَّداً على ظهره على الأرض بلا حراك ، عند الطرف الداخلي لباب باحة الدّار المفتوح ، ومصباح الصيد المعلَّق بمسمار على باب الغرفة ، يضيء الغريب بضوئه الأصفر الشاحب ، وبالأحرى يضيء التلّة الصغيرة الغريبة التي سقطت وتمدَّدت على الأرض . قفزت ( سارا ) من مكانها وهي ترتعد ، وهتفت : من أنت يارجل ؟ من أنت ؟ نظرت فيما حولها حائرة مذعورة ، ويداها مغطاتان برغوة الصابون وص*رها الوافر يعلو ويهبط . راودتها فكرة الصراخ طلباً للنجدة من الجيران . تبيّنت على ضوء مصباح الصيد المضيء من بعيد ، أن هذا الممدّد على ظهره على الأرض رجل عملاق . وبرق في ذهنها بريق : حذار ، هل هي حيلة من حيل ( أنور ) الأعرج ؟ نظرت فيما حولها خائفة ، وقبضتاها مضمومتان بقوة . لماذا لم تغلق باب باحة الدار هذه الليلة ، وهي التي تغلقه بإحكام كل ليلة ؟ ألا تعرف كيف يدور ( أنور ) الأعرج الكلب حولها ؟ لو كان الباب مغلقاً لما استطاع هذا الرجل كائناً من كان أن يدخل إلى الداخل ، ويرتمي عند حافة الباحة . أنور الذئب لا يكف عن أن يحوم حولها ويلاحقها تماماً مثل كلب ضال ، ويهدّدها قائلاً : " ( سارا ) . . . تعالي بالحسنى ، وإلا والله ، بالله لأكنَّ زانياً بأمي سوف آخذك بالقوة وبالشر ! " . ولشدّة حنقها تنقلب ( سارا ) إلى مجنونة هائجة وتصيح فيه : " امشِ في طريقك أيّها الكلب الضال ، فأنا لست ممّن تعرفهنّ ، يدك طويلة ، وذراعك طويلة ، ألم يبق في هذه البلدة الكبيرة غيري ؟ " . - " لم يبقَ يا ( سارا ) . إن كان هناك أحد فأنتِ ، وإن لم يكن فأنتِ ! " - " اغسل يد*ك مني ، فلا خير لك مني يا ( أنور ) ، عملك هذا لن يوصلك إلى نتيجة حسنة . أنا لن ألتفت وأنظر إلى رجل غريب ، طالما أن لي زوج مثل الأسد على قيد الحياة ! " . فيطلق ( أنور ) قهقهة ويقول : " لو كان حيَّاً لسأل عنك بسطرين يا ساقطة ! " - " إن كان ميتاً يجب عليّ أن أتأكد من موته . لكني عندئذ أيضاً لن أقول لك نعم ، لتعلم هذا ! " - " لماذا ؟ ما الذي لا يعجبك في شخصي ؟ " . - " أنا أيضاً لا أعرف ، لكني أحسّ عندما أراك كأنني أرى خطيئة أمي . . . " . - " خلاصة القول ؟ " . - " لا خير لك مني ! " . - " حسناً ، إن كنتُ ( أنور ) فسوف أوقع بكِ . . . " . - " . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . " - " . . . . . . . . . . . . " . بسبب كل هذه الأشياء تذكُّرُها كلمحة خاطفة ، زاد من خوفها ، وراحت ترتجف ، لم لا ، وها هو قد ضبطها بالجرم ، وأدخل شخصاً غريباً إلى ساحة بيتها . من يدري أنه لن يحضر هو بعد قليل ، وربما جاء معه بعض أصدقائه المنحرفون أمثاله ، ويقومون بحماقة ما ؟ ماذا لو قبضت على الرجل الآن ، وصاحت وصرخت وجمعت الجيران جميعاً في ساحةبيتها ، وتم القبض عليه ، وفي قسم الشرطة قال الرجل : " ( سارا ) هي التي أدخلتني إلى دارها ! " انفعلت وأوشكت على البكاء . " الوحدة ، أه من الوحدة ، لا أحد معي ! " قالت في نفسها وأردفت : - " لو كان لي زوج أو أب أو أم أو أخ مثل الأخريات ، فمن كان يستطيع أن يمسني بسوء ؟ بل من كان يجرؤ على التفكير في ذلك ؟ " .لسنوات وسنوات لم تُدخل إلى هذا البيت رجلاً آخر غير زوجها إذ كانت واثقة أن زوجها سوف يظهر ويعود في يوم من الأيام ، وهي ما زالت على ذمته ، بمعنى أنها شرفه ، والمحافظة على هذا الشّرف حتّى النهاية دَين في عنقها . الله يعلم دخيلة نفسها . لم تكن على غير علم بالتصرّفات الشائنة التي تتصرفها النساء اللواتي لا أزواج لهنَّ ، بل وبعض الزوجات مِن خلف أزواجهن . لكن ليكن ، فهي مع غير زوجها . . . .نظرت مرة أخرى بهلع وارتياب إلى الرجل الممدَّد على الأرض . من هذا الرجل ؟ ما قصته شأنه ؟ إذا كان مأجوراً ل( أنور ) فلماذا ينام ؟ لماذا لا يتحرك ؟ لماذا لا يتكلم ؟ هل هو جريح ينازع ؟ هل ضربوه بالنار ؟ لو أنهم رموه بالرصاص لكان المفروض أن تسمع صوت إطلاق العيار الناري . حسناً والآن ماذا ؟ * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * وتحسُّباً لأي طارئ تناولت بهدوء فأساً صدئاً مرمياً في أحد الجوانب وبحذر شديد اتَّجهت نحو الرجل الممدَّد على الأرض بلا حراك قُرب الجهة الداخلية للباب . إذا كان الرجل مأجوراً لـ( أنور ) الأعرج ، ونهض وأراد أن يحتضنها فسوف تعمل اللازم بالفأس دون أي ذرة من تردّد أو تفكير . لكن الرجل الممدَّد على الأرض لم ينهض ، بل ولم يتحرك . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * مالت ( سارا ) عليه ، وحاولت أن ترى وتتبيّن وجهه ، لكنها لم تستطع التعرّف عليه على ضوء مصباح الصيد الأصفر الباهت . إنه رجل عملاق ذو لحية سوداء خفيفة تغطي وجهه العريض . هل هو مسن ؟ أم أنه شاب أطلق لحيته ؟ على كل حال هو ليس من الناس المعروفين في البلدة . ولكن من هو ؟ ما شأنه ؟ ما عمله ؟ وللحظة تصرّفت بعصبية مفاجئة . فكرت في أنه سواء كان من هذه البلدة أم لم يكن ، هو في النهاية رجل غريب ! لماذا جاء وارتمى في ساحة بيتها الذي لم يجرؤ أي رجل على أن يخطو فيه خطوة واحدة على مدى سنوات طويلة ؟ وماذا لو أن جاراتها ذوات الألسنة الطويلة ، اللواتي يغرن على أزواجهن منها رأينَه ورحن يتقوَّلن عليها ؟ ضربت الرجل بطرف قدمها : " هيا ، قم من هنا ! " لم تبدر عن الرجل أية حركة .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD