لماذا جاء وارتمى في ساحة بيتها الذي لم يجرؤ أي رجل على أن يخطو فيه خطوة واحدة على مدى سنوات طويلة ؟ وماذا لو أن جاراتها ذوات الألسنة الطويلة ، اللواتي يغرن على أزواجهن منها رأينَه ورحن يتقوَّلن عليها ؟
ضربت الرجل بطرف قدمها : " هيا ، قم من هنا ! "
لم تبدر عن الرجل أية حركة .
فازدادت حدَّتها : " أقول لك انهض من هنا ، وإلا فوالله العظيم سوف أصرخ الآن وأجمع الدنيا ! "
ـ " . . . . . . . . . ؟ "
ـ " قم ، قم ، هيا يا أنت ! "
ـ . . . . . . . . . ؟
ـ " إني امرأة أرملة أعيش بمفردي ، ولا أريد أن تشاع عني الشائعات والقيل والقال ، قم ، هيا قم ! "
( حبيب ) الذي قتل رجلاً ، والذي قاد عملية إحراق مزرعة ، حاول بوهن يثير الشفقة ، أن يرتفع بجسده .
لمح الفأس في يد ( سارا ) ، فارتسم للحظة طيف ابتسامة صبيانية على وجهه الملتحي الذي يضيئه ضوء الفانوس الصغير المعلّق على باب البيت ، ثمّ استند على الأرض بيديه الضخمتين وساعديه القويين محاولاً القيام : " لا تخافي يا أختاه ، فلن أسبب لك أي أذى ! "
قالت بحدة : " تسبب ضرراً أو لا . هيا قم وارحل عن هنا ، فأنا امرأة وحيدة ، ولا أريد أن أكون عرضة للأحاديث والاتهامات بسببك ! "
ـ " صحيح يا أختاه ، خلاك ذم . "
وفيما كان ينهض ، يبدو أن أحد ساعديه القويين لم يتحمل ثقل جسمه فالتوى تماماً عند المعصم ، وهوى جسمه على التراب ثانية ، فأنَّ الرجل أنيناً نابعاً من جوفه : " ياالهي ! يا أمي . ليتك لم تلديني ! " هذا الأنين ، وهذه الكلمات المقهورة ، أعاد ( سارا ) إلى اتزانها . هذا إنسان متعب فعلاً ، أو مريض . ربما كان غريباً ، ولا يمكن أن يكون عميلاً لـ( أنور ) الأعرج .
لم تفكر ، ولم تستطع أن تفكر في كيف ولماذا لا يمكن أن يكون عميلاً لـ( أنور ) . وبدلاً من هذا ألقت الفأس من يدها إلى جانب . ثم أنها التصقت بالغريب العملاق تريد مساعدته في محاولته الثانية للنهوض ، فأحاطت بكتفيه بقوة شدته من يده اليسرى دفعة واحدة . أنَّ الرجل ثانية أنيناً عالياً : " ياالهي الرحيم ! "
نظرت ( سارا ) إلى يده . كانت يده اليسرى غارقة بالدم . سألته بتأثّر : " هل أنت جريح ؟ "
تنهَّد الرجل وأومأ برأسه : " أنا جريح يا أختاه . "
سألته : " لماذا ؟ هل تشاجرت ؟ "
أومأ من جديد : " تشاجرت يا أختاه ، وأصبت . "
تراجعت ( سارا ) : " أصبت ؟ "
كرر : " أصبت . "
أمسك بغتة عن الكلام ، وفكَّر في أنه إذا أخبرها بأن رجال الشرطة أو حراس المزرعة التي قاد عملية إحراقها ، هم الذين جرحوه . وبما أن كل الأطراف محاصرة ، فقد يلقى القبض عليه ، وإذا ما ألقي القبض عليه فهناك السجن ، ثمّ الحبل ! وأخيرا قال مخترعا : " لي أعداء ، إما دمي وإما دمهم . إنها مسألة ثأر . وهم خلفي وسوف يقتلونني إذا ما لحقوا بي . الموت أمر الله . لكنه سيكون محزناً جداً إذا متُّ قبل أن آخذ بثأري وأتم ما بدأته . "
أيقنت ( سارا ) أنه ليس عميلاً مأجوراً لـ( أنور ) الأعرج : " هذه هي القصة اذن ؟ "
اكّد في ضعف : " هذه هي القصة . "
سألت : " لماذا لجأت وارتميت في داري ؟ "
غمغم : " لا أعرف . لابدّ أنني لمحت ضوءاً . "
رددت : " هي مسألة ثأر إذن ؟ "
ابتلع ريقه وأجاب : " مسألة ثأر . "
أنَّ ( حبيب ) كأنه يرزح مرة أخرى تحت وطأة ألم رهيب .
جثت ( سارا ) ملتاعة قربه : " ما بك ؟ "
دمدم : " جرحي . "
سألته في لهفة : " هل يؤلمك ؟ "
أجاب : " يؤلمني . "
وعادت تسأله : " هل يؤلمك كثيراً ؟ "
" لا يمكن أن تتصوري ، فقد مضت عليه عدّة أيام ، وقد يشتعل إذا لم يُغسل ويُنظّف . آه ممّا يدور برأسي . . . لكني حتّى ذلك الحين ، سوف أنهي عملي وأقطع دابرهم ، ثمّ بعد ذلك . . . " أسندَ ساعديه القويين على الأرض وهمَّ بالنهوض : " يا الهي ! " بصعوبة ، وبصعوبة بالغة جداً ، قام . كان متعباً منهكاً خائر القوى بحيث لا يستطيع الوقوف على قدميه . وهو وإن خطا مترنّحاً بضع خطوات نحو باب الدار ، أمام نظرات المرأة المشفقة ، إلا أن عدم قدرة ساقيه المتعبتين على حمل جسمه الثقيل ، جعله ينكفيء ويهوي على الأرض ، مثل شجرة جميز عملاقة .
أسرعت ( سارا ) إليه : " هل أنت منهك إلى هذا الحد ؟ "
أومأ متألماً : " جداً . "
سألت في اهتمام : " لماذا ؟ "
أجاب : " ركضتُ طويلاً ، طويلاً ، وفقدتُ دماً كثيراً يا أختاه . "
قالت ( سارا ) التي لم تتخل عن حذرها ، بعد أن نظرت حولها بارتياب : " أنت لست من هنا ، أليس كذلك ؟ "
أجابها : " لستُ من هنا يا أختاه . "
سألته : " ماذا تفعل هنا ؟ "
كذب ثانية : " أعدائي هنا . "
خطر ( أنور ) الأعرج ببالها . حذار من أن يكون هو عدوه ! وسألته : " إذن عدوّك هنا ؟ "
وأجاب : " هنا . "
نظرت في عينيه وسألت : " من هو ؟ "
غمغم مجيبا : " لا تعرفينه . "
الفضول وحب الاستطلاع زادا من لهفتها : " ربما أعرفه . "
وبدلاً من أن يجيب تعمَّد ( حبيب ) الأنين .
أصغت ( سارا ) للحظة إلى الليل الذي يردّد أصداء نباحات كلاب من بعيد ، ثمّ سألته : " هل رآك أحد وانت تدخل إلى هنا ؟ "
لم يفهم حبيب السؤال : " إلى هذه البلدة ؟ "
قالت : " لا . إلى بيتي . "
أجاب : " لا يا أختاه . "
عادت تسأل : " هل يعرفك أحد في هذه البلدة غير أعدائك ؟ "
فَهِمَ خشية وحذر المرأة فأجاب : " لا أحد يا أختي . لا تخافي . "
وبأمل يملأ نفسها ، وبلهفة سألته : " هل تعرف ( أنور ) الأعرج ؟ "
فكَّر لحظة : " لا أعرفه . " " إذن فقد ارتكبت جريمة أخذاً بالثأر ؟ "
تنهَّد : " لم يكن الأمر بيدي يا أختاه . لقد سبق السيف العزل ، ولم يكن أمامي إلا أن ألطِّخ يدي بالدم ، لذلك عليّ أن أنجز ما بدأته . أولئك قتلوا أبي وأشقائي منذ زمن ، كنت صغيراً حينها . الدَّور عليَّ الآن . لابدّ أن اقطع خبرهم ! "
قبَّل المسدس الذي في يده .
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
حارت ( سارا ) في أمرها . هي وإن كانت تريد للرجل أن يخرج ويغادر قبل لحظة ، لكن لسانها لم يطاوعها ، ليقينها بأن ذلك سوف يكون شكلاً من أشكال الطرد . هل هي مشفقة عليه ؟ أم أنها خائفة من أن تراه أثناء خروجه من الدار ، أم علي أو إحدى جاراتها السليطات اللسان ـ اللواتي لا يفتأن يحفرن لها بئراً ـ فيطلقن ألسنتهنَّ بالشائعات ؟
كان نباح الكلاب قد اختفى تقريباً . مهما يكن ، يجب عليها إخراج الرجل . هيئته ، شكله ، قوامه وحتى لحيته السوداء تدل على أنه شاب . من بين كل البيوت الموجودة رمى بنفسه من باب باحة دارها إلى الداخل . أي أن الله أرسل هذا الرجل المسكين إليها هي . هل يليق بالإنسانية أن تُلقي برجل غريب جريح ، خائر القوى إلى أعدائه المحيطين به من كافة الجهات ؟
تنهَّدت . طبعاً لا يليق ولكن ، ماذا يمكنها أن تفعل ؟ هي امرأة عاشت بلا زوج لسنوات عديدة ، وتعرَّضت بسبب ذلك للأقاويل والإشاعات ، وتشاجرت عدة شجارات .
الله تعالى يعرف دخيلتها قطعاً . لكنها مُجبرة على إيضاح ذلك لعبيد الله . من ناحية أخرى هناك هذه المسألة : كيف تتصرّف بما يعارض أمر الله الذي رأى بيتها الأجدر من بين بيوت البلدة الكبيرة ؟ كيف تطرد رجلاً غريباً جريحاً مريضاً مُتعباً . . . ؟
انقطع شريط أفكارها ، وقد طرق مسامعها ضجيج سيارة جيب مصحوب ببكني سكارى . ويبدو أن ذلك طرق مسامع الغريب أيضاً ، إذ نظر إلى المرأة بارتباك .
كانت المرأة تعرف هذه الأصوات جيداً ، فقالت : " إنه ( أنور ) . ( أنور ) الأعرج وأصدقاؤه ، لابدّ أنهم عائدون من المدينة . . . "
سألها حبيب بلا مبالاة : " ومن يكون ( أنور ) ؟ "
فالت موضحة : " في البلدة رجل غني جداً وذو نفوذ يُدعى ( هاشم بك ) صاحب محلجة قطن ، ورئيس الديمقراطيين هنا . وهذا ابن أخيه طائش يعيش على هواه فلا ضابط ولا رابط ، مستهتر لم يترك ما لم يفعله معتمداً على نفوذ عمّه ! "
اقترب صوت سيارة الجيب المحمَّلة ببكني السكارى . بدأ قلب ( سارا ) يخفق من جديد . أيمكن أن يكون هذا الغريب من رجال ( أنور ) الأعرج ؟ إنها متأكّدة أنه ليس كذلك . . الرجل جريح ، بلا حول ولا قوة ، رجل مشغول بهمّه ، مع ذلك من يدري ؟ فهذه الدنيا دنيا عجيبة . الحجر الذي لا يعجب يشجّ الرأس . ذهبت وأغلقت باب باحة الدار المفتوح . فقال ( حبيب ) : " أرى أني بقيت هنا ؟ "
بحركة آنية أخذت المسدس من يد الرجل : " هاتِ هذا . . . "
اعترض : " حسناً ، ولكن يا أختاه . . "
قاطعته : " لا تخف ، لن تمسَّك مني ذرة سوء . لكني لا أعرفك ، تداخلني الريبة ، سامحني . أنت لستَ كما أتخيّل ، وسيبقى المسدس مسدسك ! "
هزَّ ( حبيب ) رأسه ضاحكاً : " إني أفهمك يا أختاه . أنت مثلي إذن لك أعداء أيضاً ؟ "
قالت في مرارة : " وأي أعداء ! "
" حسناً ، فليبقَ المسدس معك ، أنا أيضاً لن أمسَّك بسوء فاطمئني . بقيت في خزنته رصاصة وحيدة ، إذا استدعى الأمر . . . "
لا يا صديقي لا . لا أنوي تلطيخ يدي بالدم . ولكن كما قلت ، الدنيا غدَّارة ، وأمورها غامضة !
أقبلت سيارة الجيب المحمَّلة بأصوات البكني والموسيقى ، مُسرعة وتوقفت أمام باب باحة دار ( سارا ) .
تعالى صوت ( أنور ) الأجش ساخراً : " في بيتها ضوء ، هي هي ، هل تنام تلك أبداً ؟ "
سمعت ( سارا ) و( حبيب ) الحديث ، فقطعا أنفاسهما ، وصارا آذاناً صاغية . ثمّ ذهبت ( سارا ) بهدوء ، وأنزلت فتيل مصباح الصيد الصغير .
انتبه ( أنور ) الأعرج إلى ذلك ، فصاح في الخارج : " هاها . هكذا إذن ؟ " ثم ركل الباب برجله : " هي إذن تغسل الغسيل في الداخل ؟ "
انتقل ( حبيب ) من مكانه إلى نقطة أكثر ظلمة في طرف الباحة . ينما انتصبت ( سارا ) بحدّة في الضوء الخافت والمسدس في يدها .
وبعد فترة جاء صوت ( أنور ) الأعرج هامساً : " ( سارا ) ، افتحي هذا الباب ! "
خطرت خواطر سيئة في ذهن ( حبيب ) . المرأة إذن من هذا النوع ؟لو لم تكن هكذا لما تجوّل السكارى بالسيارة الجيب أمام باب بيتها في هذه الساعة المتقدَّمة من الليل .ولمّا طلبوا منها هذا الطلب : " ( سارا ) ، افتحي هذا الباب ! " . صحيح أنها تحدّثت قبل قليل عن ( أنور ) الأعرج وعن عمّه الغني ذي النفوذ ، رئيس الحزب ( هاشم بك ) .على أن هذا لا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع التبرير تلجأ إليه مثل هؤلاء النسوة . لكن هذه المرأة المنتصبة بحدّة قريباً منه وإلى الأمام قليلاً ، قد شحب وجهها تحت ضوء النجوم وصار كورقة بيضاء ، فيما كانت رموشها تلتمع مبللة . وهذا يعني أنها استاءت منهم ، وطالما استاءت منهم فهي إذن ليست من تلك النوعية من النساء . اقتربت منه المرأة بانفعال ، ومدَّت إليه مسدسه وهمست : " خذ ، فقد أرتكب جناية الآن ! " ثمّ أردفت وكأنها أدركت ما كان يجول في خاطر الرجل الجريح : " لا تحسبني من تلك النساء أرجوك ، فأنا ليست لي أدنى علاقة لا بهذا ولا بغيره ، إن كنت تؤمن بالله فصدِّقني . منذ سنوات وكلّما شرب هذا الكلب كأساً ودارت الخمرة برأسه يأتي ويزعجني ويضايقني هكذا ! "
في هذه اللحظة تماماً رُكل الباب مرّة أخرى : " افتحي ، ا****ة عليك يا ع***ة ! "
اضطربت المرأة واهتزّت ، وفيما كانت تبحث فيما حولها عن أي شيء يمكن أن تلجأ وتستند إليه ، لامست يدها يد الرجل . أمسك الرجل بهذه اليد وقد أدرك ما تعانيه المرأة ، ولم تجد المرأة حرجاً في عدم سحبها . كانت يدها باردة مثل الثلج . وفي الخارج كان ( أنور ) الأعرج يتابع كلامه : " أي امرأة مخبولة أنتِ يا ؟ هل تظنين أني أطلب منك فتح الباب بقصد الإساءة ؟ لقد جئتك بخبر من زوجك يا سافلة . الرجل تزوج في بلدته ، تحدَّثت إلى زملائه الذين رأوه بأعينهم . وأنت امكثي هنا وانتظري للأبد . "
سرت قشعريرة باردة كالثلج في جسد ( سارا ) ، وقد ضُغط على وترها الحساس . وأحسَّ ( حبيب ) بذلك من يدها التي في كفه . كلا كلا ، هذه المرأة لا يمكن أن تكون من " أولئك النسوة " .
جاء الآن دور أصدقاء ( أنور ) الأعرج في قذف الكلام يميناً ويعتاقة : " إذن فقد قال زملاءه هذا ؟ "
أجاب ( أنور ) : " نعم بشرفي . "
قال أحدهم : " هذا ظلم للمرأة ! "
" طبعاً ظلم . ولكن كونوا شهوداً ، بأنني موافق عندما تقول هي نعم . هل سمعتم ؟ "
" سمعنا . " وعلق أحدهم : " نحن شهود على ذلك إكراماً لله . "
سأل آخر : " وإذا طلبت عقد نكاح ؟ " فأجاب ( أنور ) : " أنا موافق على ذلك أيضاً . "
وجاء صوت أحدهم : " يا روحي ما الداعي للنكاح وغيره ؟ لتوافق هي ، فتسرع أنت وتملأ ساعديها حتّى المرفقين بالمصاغ ! "
صاح : " هكذا تماماً . . . "
وجاء صوت آخر : " حسناً ، ولكن الطفل ، ماذا سيكون مصير الطفل ؟ "
قال : " وماذا سيكون ؟ ذاك سيصبح ابني . وسيصبح مفضَّلاً على ابني الفعلي ! "
اهتزّ جسد المرأة وهي تشهق بالبكاء . وصعد الدم إلى رأس ( حبيب ) . نسي مشكلته ، وجُنَّ جنونه للإهانات التي أُمطرت بها هذه المرأة المسكينة التي لا حامي لها .
سأل سائل منهم : " طيب لماذا لا تتزوجك ؟ "
قال آخر : " ربما كان لها حبيب آخر . . . "
فجاء صوت ( أنور ) مغضباً : " مَن ؟ فلأعرفه ، والله برصاصتين . . . "
ـ . . . . . . . . . . . .
ـ . . . . . . . . .
كانت ( سارا ) تبكي وجسمها يهتزّ ويختلج . ولم تكن قادرة على الكف عن البكاء . فجأة صارت يدها التي نسيتها في يد الغريب ، تلتهب نيراناً . كان نصف هذا اللهيب نابعاً من غضب وانفعال الغريب ، ونصفه الآخر من النيران التي تدبّ في جسمها كله ، والتي يغذّيها الحقد فتزيد يوماً بعد يوم . هي تستطيع قلع عيني الرجل الذي يقف أمام باب بيتها ويُمطرها بوابل من الإهانات ، وتستطيع ذبحه . ولكن ماذا تفعل بالآخرين ؟ إنها تحقد على أولئك أكثر من حقدها على الأعرج . إنهم يتبعونه ويقفون أمام بابها وهي المرأة المسكينة ويحرقونها بكلامهم الزائد والناقص لكي يأكلوا ويشربوا مجاناً على حسابه . ألا ما أسفل هؤلاء الناس !
شهقت بالبكاء .
ضغط حبيب على اليد المنسية في كفّه ، وقال : " كفى يا أختاه ، لا تبكي . حرام على دمع عينيك ! "
سحبت ( سارا ) يدها ، وهمست وهي تمسح دموعها : " هكذا مرّتان أو ثلاث مرّات على الأقل في الأسبوع ، لقد سئمتُ ومللتُ من روحي وحياتي . ما هذا الذي أقاسيه من هؤلاء الأوغاد وأنا قابعة في بيتي المتطرّف هذا أغسل ملابس الناس المتّسخة لكي أتمكّن من تربية ابني اليتيم رغم وجود أب له ؟ قد تكون المرأة لعوباً مستهترة فتنحرف يميناً ويعتاقة ، وتكلّم هذا وتحدّث ذاك . هذه المرأة يمكن ملاحقتها لأنها سيئة السلوك . أمّا أنا فأنسحب إلى بيتي منذ ساعات المساء الأولى وأغلق بابي على الدنيا . مع ذلك . . . "
استمر الصياح والصراخ في الخارج ، وتتابعت أصوات البكني والموسيقى والكلمات المبطَّنة والمهينة . واستيقظ جيران ( سارا ) ذوو الألسنة الطويلة وتجمهروا شبه عُراة على النوافذ والأبواب . ولم يكونوا خالين ممن يلعنون في أعماقهم هذه السَّفالة في مثل هذا الوقت من الليل ، لكنّهم كانوا يخافون من أن يساندوا هذه المرأة المسكينة التي تُجابَه وحيدة ، مع ابنها الصغير ، هذه الحياة التي لا تطاق . كانوا يخشون من أن يحشروا أنفسهم مع دب في جوال واحد . أمّا الذين يأملون فائدة من **ب رضاء ( أنور ) الأعرج ، فقد هرعوا ينفخون في النار : " إذن فقد تزوّج الرجل ؟ "
ـ " طبعاً يا ناس ، وهل في هذا شك ؟ "
ـ " وهل الزوجة الثانية جميلة يا ترى ؟ "
ـ " وهل تفي كلمة جميلة . ؟ سمعت من زملائه أنها كالشهد ! "
ـ " وإذا كانت ذات أموال وأملاك إضافة إلى ذلك . . . "
ـ " يا لحلاوتها ! "
ارتفع صوت ( أنور ) الأعرج ثانية : " هي ذات أموال وأملاك لا تعدُّ ولا تُحصى . صار الرجل يزن ذهبها بالميزان . مال ومُلك وطعام وشراب ولباس وزينة . . . "
ـ . . . . . . . . . . . . ؟
ـ . . . . . . . . . . . .
ـ . . . . . . . . .
همس ( حبيب ) ثانية : " لا تبالي يا أختي . فالكلاب دائما تنبح ! "
زفرت ( سارا ) : " صحيح ولكن . . . "
ـ " لا لكن . اسكتي ! "
ـ " ليتني أستطيع السكوت ، ليت الله يأخذ روحي فأسكت إلى الأبد دون أي صوت . . . "
تضايق ( حبيب ) من كلامها : " افتحي فمك على خير . انظري ، ولد*كِ ابن أيضاً . . . "
ـ سكتت ( سارا ) ولم تُجب . وبعد أن حقق الواقفون أمام باب بيتها رغبة " ( أنور ) بك " بإلقاء الأسئلة التي يريدها ( أنور ) الأعرج ، والأجابة عليها الأجابات المناسبة ، ابتعدت سيارة الجيب رويداً رويداً بصوتها المترافق بروائح البنزين . كذلك انسحب الجيران الفضوليون أو المهووسون بالشماتة الذين هرعوا من مراقدهم شبه عراة ، وعادوا الآن إلى مراقدهم .
كانت ( سارا ) تبكي بلا انقطاع . أمّا ( حبيب ) فقد انتصب ناسياً تعبه ، غير مكترث بألم جرحه الذي بدأ يشتد ، حائراً فيما يجب عليه فعله . هل يجب عليه الرحيل ؟ أم يجب عليه البقاء وبذل روحه برفقة هذه المرأة ؟ وقد بدأ يحسُّ في داخله باهتمام غريب بها ، اهتمام تغلب عليه مشاعر الأخوة والإشفاق على إنسان ضعيف عاجز . كان يظن أنه إذا رحل وترك هذه المرأة التي قاست وعانت الكثير من التحقير والإهانة على مدى سنوات ، فإن أولئك الرجال سوف يعودون ثانية فيخلعون الباب ، ويدخلون إلى البيت عنوة ويغتصبون المرأة .
نعم ، ولكن ألم جرحه . . .تلوَّى ألماً رغماً عنه . وأدركت ( سارا ) أن جرحه يؤلمه ، فنسيت فوراً مصيبتها التي فوق رأسها ، ووضعت يدها برفق فوق كتف الرجل السليمة ، وسألته : " هل يؤلمك ؟ "
فأنَّ الرجل قائلاً : " جداً . "
ـ " كم مضى على إصابتك ؟ . . . "
ـ " عدَّة أيام . "
ـ " عدَّة أيام ؟ "
لمست الجرح بيدها وقالت :
ـ " إنه ينزف . "
ـ " إنه ينزف يا أختي . "
ـ " لماذا ؟ "
ـ " لابدّ لأنني ركضت طويلاً . جوفي يحترق أيضاً . . . "
ـ " هل تقصد أنك عطشان ؟
ـ " نعم ، إن كان لد*ك بعض الماء ، ولو أثقلت عليك . . . "
ـ " الماء موجود ، ولكن . . . "
ـ " أعرف أن شرب الجريح للماء . . . "
ـ " ليس صواباً أبداً ! "
- " جوفي يحترق ! "
ـ " ليحترق ، لا تشرب . أود أن أضمد جرحك ، لكني لا أعرف . . . "
هزَّ . حبيب رأسه يمنة ويسرة وقال :
ـ " سلمتِ يا أختي ، ليعطك الله على قدر نيّتك . إنه لا يستحق . . . "
ـ " ما هو ؟ "
ـ " أن تنظّفي جرحي وتضمديه . "
ـ " لماذا ؟ "
ـ " لأنني لن أعيش طويلاً . . . "
استاءت ( سارا ) من كلامه :
ـ " افتح فمك على خير . ما هذا الكلام ؟ ولماذا لن تعيش ؟ "
ـ " أنا أعرف حالتي يا أختي ! "
-8-
انقلبت ( سارا ) الآن إلى أنثى نسر ، وقرّرت أن تمدَّ يد المساعدة لهذا الإنسان الشريف اليائس من حياته ، وأن تحبِّب إليه الحياة ، مهما كانت النتائج والعواقب . قد تكون النتائج سيّئة ، وقد يراه من يراه فتلوكها الألسن من جديد . ليكن ، فالله الذي فوق يعرف دخيلتها وإن لم يعرف العبد فلا يعرف . كم سمعت من أمّها قولها - " اعمل المعروف وارمهِ في البحر ، فإن لم يعرفه السمك يعرفه خالق السمك " .
ـ " هيا . . . "
نظر حبيب حائراً وقال : " إلى أين ؟ "
ـ " إلى الداخل ، إلى الغرفة ! "
ـ " إلى الداخل ؟ إلى الغرفة ؟ "
ـ " نعم ، ماذا هناك ؟ "
ـ " أيمكن ؟ "
ـ " لماذا لا يمكن ؟ "
ـ " سوف تتعرضين للشائعات وللأقاويل بسببي . . . "
ـ " ومن سيراك في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ "
ـ " . . . . . . . . . . . . ؟ "
ـ " ثمّ إنك ذكَّرتَني بالمرحوم أخي . . . "
ـ " أنا ؟ "
ـ " هو أيضاً مثلك كان يناديني يا أختي . حتّى أنه ، أستغفر الله عندما أصيب ، هو أيضاً مثلك طلب مني ماء ! "
ـ " إذن . . . "
ـ " أجل . "
ـ " وهل أعطيتِهِ ؟ "
ـ " ماذا ؟ "
ـ " ماء . "
ـ " ليتني لم أعطه . "
ـ " هل مات إذن ؟ "
ـ " مات ، ولكن إصابته لم تكن في الكتف مثلك . "
ـ " أين كانت ؟ "
ـ " كانت الرصاصة ، بسم الله ، قد اخترقت الرئة تماماً . هيا انهض ، تمسَّك بي ، تمسَّك بي جيداً يا أخي . نعم هكذا . . . "
كانا يتبادلان اختلاق القصص .
لم يكن لـ( سارا ) أخ مات من جرّاء رصاصة اخترقت رئته ، بل لم يكن لها أخ مطلقاً .
إنما كانت قد سمعت هذه القصة منذ سنوات طويلة من إحدى صديقاتها المقرَّبات ، وبقيت القصة ماثلة في ذهنها .
ولكن لماذا أطلقتها ونسبتها لنفسها الآن ؟
لماذا رفعت معنويات الرجل هكذا ؟
أمن أجل شبابه ؟
أم لمساندته إياها ؟
أم لأن لـه أعداء كما لها ؟
أم لأنها . . . ؟
لم تكن تريد التفكير بالسبب ، كائناً ما كان السبب ، هي لا تريد للغريب الجريح أن يرحل .
( حبيب ) أيضاً ، لم يكن يريد الرحيل لسبب ما .
اختلق قائلاً :
ـ " أنا أيضاً كانت لي أخت في مثل سنك . "
ـ " هكذا . وماذا جرى لها ؟ "
ـ " لاشيء . هي عند زوجها . "
ـ " هل كانت تحبك ؟ "
ـ " كثيراً . "
ورغماً عنها قالت :
ـ " وأي أخت يمكنها أن لا تحب أخاً مثلك ؟ "
نسي حبيب آلام جرحه ، وتشبث تماماً وبغرور بالمرأة . وخطر بباله رغماً عنه أن هذه العبارة قد تحمل معنى - " وأيُّ امرأة يمكنها أن لا تحب رجلاً مثلك ؟ " .
ـ " دمتِ سالمة ! "
ـ " دمتَ سالماً أنت أيضاً ! "
عتاقة سوية وببط باتجاه باب الغرفة ، حيث تطاولت ( سارا ) وأنزلت مصباح الصيد الصغير الخافت الضوء ، المعلّق بمسمار على باب الغرفة ، ودخلا إلى الغرفة ببطء وتؤدة .
كان ابن ( سارا ) الصغير ينام هانئاً قرير العين في فراشه الممدود على أرض الغرفة .