اسوار واسرار

4878 Words
على يمين الداخل الى الغرفة الصغيرة القذرة من الباب كان ( سمير ) نائماً في الفراش الممدود على أرض الغرفة . وهنا وهناك أشياء مبعثرة ، وفساتين سقطت عن المسامير المعلّقة عليها ، وبنطال ( سمير ) . رفعت ( سارا ) فتيل الفانوس ذي الضوء الخافت الذي تحمله في يدها ، فازدادت إضاءة الغرفة ، وبانت الأشياء أكثر . قال ( حبيب ) : " أليس من الأفضل أن تخففي ضوء الفانوس ؟ " فتساءلت ( سارا ) وهي تعلَّق الفانوس على مسمار في الحائط : " لماذا ؟ ماذا هناك ؟ " أجابها : " لا أعرف . أفكر بالجيران ، لكي لا يقولون شيئاً . . . " لم تجبه . واستبدَّ بها الغيظ من الجيران ، ومن كل الناس ذوي الألسنة الطويلة . لقد أمضت طيلة سنوات عمرها بشرف واستقامة هكذا ، فماذا استفادت ؟ ألم يقفوا قبل قليل مع ( أنور ) الأعرج الكلب ، ويُسمعوها أقذع الكلمات الجارحة ، لكي يكبروا في عينه وينالوا رضاه ؟ أشارت إلى أريكة على اليمين وقالت : " ادخل واجلس هنا . " جلس ( حبيب ) . وأردفت قائلة : " تمدَّد إن شعرت بالرغبة في هذا ! " لن يكون ذلك سيئاً ، لكنه خجل ، فقال : " هكذا أفضل . " قالت بهدوء : " لدي ماء ساخن ، هل أغسل جرحك وأضمّده ؟ " ابتسم وقال : " ليرضَ الله عنكِ ، وليعطِكِ على قدر نيّتك . . . " غمغمت : " وأنت كذلك . " وفيما كانت تغادر لجلب الماء ، رمقها الشاب بنظراته الودودة التي لا تنم عن أيّة نوايا سيئة . ولما خرجت جالت نظراته المُشفقة في أرجاء الغرفة . على اليمين ، وعند طرف الفراش الذي ينام فيه ( سمير ) ، يستند سُلَّم للصعود إلى العلية . إذن فللغرفة علية ؟ نعم كانت للغرفة علية ، وكانت أخشاب السقف مخلوعة . هذه الجدران المتسخة ، وهذه الأخشاب المخلوعة تنتظر رجل البيت لينظفها ويطليها ويصلح من شأنها ، فهذه الأمور ليست من أعمال امرأة مسكينة . عندما عادت إلى الغرفة حاملة طستاً مليئاً بالماء الساخن ، سألها : " ألا ينقط هذا السقف عند هطول المطر ؟ " رفعت ( سارا ) رأسها ونظرت إلى الأعلى ، وقالت : " أيمكن أن لا ينقط ؟ " ـ " لماذا لا تصلحينه ؟ " قالت بحنق : " هكذا يصبح حال البيت الذي لا رجل لـه . وهل لدي القدرة الكافية للإصلاح يميناً وشمالاً ؟ " ذهبت وأحضرت بعض الخرق النظيفة وقالت : " هيا ، انزع عنك ثيابك ؟ " تضرج وجه الرجل بالحمرة مثل طفل صغير : " أنزع ثيابي ؟ كيف ؟ " تمتمت : " نصفك العلوي . " فهم : " سيكون ذلك ثقيلاً عليك . " أجابت : " لا لن يكون . انتظر ، دعني أساعدك . . . " وفيما هي تساعده في نزع الثياب عن نصفه العلوي ، كانت الانفعالات الأنثوية العارمة تهيج جسدها ، فقالت وهي تحاول أن تتماسك ، وأن لا تفكر في أي تصرف غير لائق : " وأنت تُعتبر أخي . . . " هز رأسه : " طبعاً يا أختي طبعاً ، وهل كان بإمكاني الدخول إلى هنا ، لو لم أُعتبر كذلك ؟ " قالت باسمة : " ألا أعرف ذلك ؟ الوجه مرآة الإنسان . . . " ردد : " صحيح . " وتابعت : " عندما لمحت وجهك للوهلة الأولى قلت في نفسي لا يمكن أن يصيبني أي أذى من هذا الرجل ! " تمتم : " سلمتِ . ليعطك الله على قدر نيتِكِ ! " قالت باسمة : " وأنتَ كذلك . " وأسلَمَ نفسه ليَدَيِّ المرأة المكتنزتين . أمّا هي ، فكان كل جهدها منصباً على أن تبقى متمالكة نفسها ، كانت تخشى من ملامسة هذا الرجل الذي ظهر الآن بنصفه العلوي العاري تماماً . وراحت تتمتم : " لن يسألني الله إلا عن حلالي ، طالما أني ما زلت زوجته وعلى عصمته . . . وأوّلهم ( أنور ) الأعرج الذي سمعته بأذنيك . فكم من مرة عَرَض عليَّ عديمُ الحياء مالاً وملكاً وأطياناً ، ووعدني بأن يعقد نكاحه علي . وكأنني بحاجة إلى ماله وملكه ونقوده ، والله لن ألتفت وأنظر إليه حتّى لو متُّ جوعاً ! " خطرت ببال ( حبيب ) زوجته ، تلك أيضاً ستصبح وحيدة مع وليدها اعتباراً من الآن ، تماماً مثل هذه المرأة . تألّمت نفسه . فعلاً كان تصرفه سيئاً جداً . لماذا قاد عملية إحراق المزرعة الكبيرة ؟ ولماذا حرَّض الفلاحين ؟ وما هي النتيجة ؟ مات ( رضوان ) بيك ، وأحرقت مزرعته . ما الذي حصل عليه الفلاحون من جراء ذلك كله ؟ سوف تؤول الأراضي والمزرعة والأملاك والأموال الطائلة كلها الآن إلى زوجته . لابد أن هذه المرأة الشابة الفاتنة سوف تتزوج ثانية ، وسوف يحل ( عثمان ) آخر محل عثمان ، ولنفرض أنه علي أو حسن أو مصطفى أو رجب . لم تكن زوجته الشابة تفارق مخيلته . هل ستبقى هكذا وحيدة في الميدان بعد الآن يا ترى ؟ وإذا أفلت ولم يصبح طعاماً لرصاصة ما ، وهرب إلى سورية ، واضطرته الظروف إلى البقاء فيها سنين طويلة ، هل ستستطيع انتظاره طيلة تلك السنين ؟ هذه المرأة تنتظر زوجها منذ سبع سنين ، فهل ستستطيع زوجته الانتظار أيضاً ؟ أم أنها ستأخذ ابنها وتذهب إلى بيت أمها ؟ هل ستغسل ملابس الناس وتنتظر مع ابنها عودة زوجها في يوم من الأيام ؟ أمّا ( سارا ) فكانت تتكلّم كأنما تخاطب نفسها : " . . . . . . لا أدري ماذا يريد مني . أنت غني ، وعمك رجل ذو مركز مرموق . أفلا توجد امرأة أو فتاة لك ؟ لو أشرت بيدك لهرعت إليك خمسون ، كما يقال . خذ واحدة منهن وابنِ عشَّ زوجية ، ودع اللَّف والأنور والجري وراء أعراض الناس . قل أنه نزل إلى المدينة ، قل أنه التقى بزملاء زوجي ، قل أنهم أخبروه كذا وكذا ، وأنه تزوج بفتاة جميلة ذات أموال وأملاك . . . " رفعت رأسها إلى ( حبيب ) وقالت : " كذب ، أليس كذلك ؟ " قال : " طبعاً . " وتابعت : " أعرف أنه كذب ، كما أعرف اسمي . . . " سألها : " لماذا بكيتِ إذن ، طالما أنك تعرفين ذلك . " غمغمت : " هكذا بكيت ، جنونٌ ! " عاد يسألها : " أتحبيه كثيراً ؟ " سألها : " مَن ؟ " قال : " زوجك . " نصبت ( سارا ) رأسها مثل فرس جموح : ـ " مَن ؟ أنا ؟ " أجاب : " نعم أنتِ . " وبدون سبب واضح ، ولكي لا تقول " طبعاً إني أحبه " قالت : " هو زوجي ، وأنا على عصمته ، ولن أسمح بأن يقال عن ابني ابن مومس ! " ومرَّرت الخرقة المبلَّلة بالماء الساخن ببطء وتؤدة فوق الدماء المتجمدة حول الجرح أولاً . كانت رغبتها في عدم علامه تجعلها تتباطأ . ورويداً رويداً تفتتت وذابت الدماء المتجمّدة كقالب طوب أحمر . غطست الخرقة الملوّثة بالدماء ، في الماء الساخن مجدداً وبلَّلتها ثمّ عصرتها ومسحت حول الجرح ثانية . وبتكرار المسح البطيء ، نظفت ما حول الجرح من الدماء المتجمّدة ، ولما جاء دور الجرح ، بللَّت خرقة أخرى وعصرتها عصراً خفيفاً . تمهّلت . وضعتها بخفة ومهارة فوق الجرح ، إلا أنه شعر وكأن تياراً كهربائياً يسري في جسمه العملاق المتين كثيف شعر الظهر والكتفين ، لكنّه تظاهر باللامبالاة ، إذ لا يليق بالرجل الشكوى والأنين أمام امرأة . عضَّ على شفته السفلى ، ولتتألّم نفسه كما تشاء ، سوف يظل يضغط . ولتنقطع شفته بين أسنانه . سألته بصوت خافت : " هل تتألم ؟ " ومع أنه كان يتألم أجابها : " لا . " سألته : " إذن ، سوف تثأر من أولئك عندما تتماثل للشفاء . . . " كان قد نسي الكذبة التي كذبها عليها ، فتساءل : " ممن ؟ " أجابت : " من أولئك . " تذكَّر فجأة : " اها ، من أولئك ؟ طبعاً ، سوف أمحو أثرهم ، وبعدها فلتُعدمِنْي الحكومة . وماذا في ذلك ؟ سواء متُّ في الثانية والثلاثين أو في المئة والثانية والثلاثين . . . " سألته : " هل أنت في الثانية والثلاثين ؟ " فأجاب : " دخلتها حديثاً . " زوجها أيضاً في مثل سنه الآن . قالت في تأثر : " أليس حراماً ؟ إنك شاب ، إنك مثل الأسد . . . " ابتسم وقال ساخرا : " لقد راحت عليَّ . " سألت بلهجة خاصة : " إذن فأنت لست متزوجاً أيضاً ؟ " كذب مرّة أخرى : " لست متزوجاً . " سألته : " لِمَ لمْ تتزوج ؟ " كذبة جديدة أخرى : " تزوجت ، لكن أعدائي فصلوا زوجتي عني ، ورموا ابني في جب أحد البساتين وخنقوه . " أجفلت المرأة وتساءلت : " في جب بستان ؟ " أجاب : " أجل . " التفتت ونظرت إلى ابنها ( سمير ) الذي ينام هانئاً ، وطار صوابها . فـ( أنور ) الأعرج عدوها أيضاً ، وعندما يُدرك في يوم من الأيام أنه لن يستطيع الوصول إليها ، فسوف . . . رفعت الخرقة عن الجرح . لم تكن تريد التفكير في ذلك ، وكما في كل مرة تحاول فيها طرد فكرة ما ، تراودها الفكرة ذاتها ، وتلحُّ عليها ، وتتجسَّد حيَّة في مخيّلتها ، فتزعجها وتقلقها ، كذلك حدث الآن أيضاً . ها هي ذي تتخيَّل جبَّاً كبيراً ذا مياه وسخة آسنة في إحدى ساحات القرية . و( أنور ) الأعرج ورجاله المقربون يخطفون ( سمير ) ، ويكمِّمون فمه بإحكام بحيث لا يستطيع التفوّه بحرف مهما حاول ، ويكبلون يديه ورجليه ، ويمسكونه من ساقيه ويدلون به إلى غياهب الجب ويخنقونه وهو يتخبّط في الماء ! تجسَّدت وتجسَّمت صورة ( سمير ) المخنوق في المياه الآسنة ! نظرت ثانية إلى ( سمير ) ، وهبَّت فَزِعَة من مكانها ، وهرعت إليه ، فقبّلته عدة مرات ، وسحبت الغطاء وغطّت كتفيه ، وهي تردد : " يا فلذتي يا حبيبي ! " أدركَ الرجل الموقف فقال : " لا تبالي ، فنحن كانت بيننا مسألة ثأر ، ولذلك . . . " اقتربت المرأة برموشها المبللة من الرجل الجريح وقالت : " وعدوي ؟ ألم تسمع ما قاله في الخارج قبل قليل ؟ " تمتم : " أعرف ولكن ، مهما يكن . . . " قاطعته : " ليس هناك مهما يكن . فذاك أفظع من أعدائك . ليُصبه الله بالبلاء ، وإن خطر هذا بباله ؟ " ـ " . . . . . . . . . . . . . . . " ـ " . . . . . . . . . . . . . . . " وبعد حين من الزمن نهضت نحو الزاوية المقابلة من الغرفة ، وأحضرت زجاجة معلقة إلى مسمار في الحائط ، بخيط مربوط حول عنقها . سألها : " ما هذا ؟ " أجابت : " هذا ؟ هذا يقال لـه كانتورون ، كان الدواء المفضل لدى المرحومة والدتي ، إنه الند للجروح . هل تعرفه ؟ " ابتسم حبيب وقال : " الكل في منطقتنا يعرف هذا . " أسالت ( سارا ) كمية كبيرة من سائل الكانتورون فوق الجرح الذي نظّفته ، ومسحت به الجرح وما حوله . ثمّ مزَّقت الخِرَق بترتيب وإتقان ، وأحكمت تضميد الجرح بها . وفيما كانت تفعل ذلك ، كانا يتبادلان الحديث : " لم يؤلمك ، أليس كذلك ؟ " ـ " لا يا روحي . " ـ " هل تشعر بالرغبة في النوم ؟ " ـ " أشعر بالتعب أكثر . . . " ـ " غداً تنام طوال النهار ! " دهش الرجل : " أنام ؟ " ـ " طبعاً . " ـ " كيف يمكن ذلك ؟ " ـ " عادي جداً . " ـ " أمّا أنا . . . " ـ " ماذا ؟ " ـ " اعتقد أن الرحيل . . . " ـ " تفكر بالرحيل ؟ هذا جنون ! " نهضت وغادرت بالزجاجة والأسمال ، وعندما عادت قالت : " إلى أين يمكنك الذهاب وقد فقدت نهرا من الدم؛ وجرحك ينزف ؟ ابق ضيفاً عندي غداً وبعد غد ، وإن استدعى الأمر ابق إلى بعد بعد غد . ليلتئم جرحك وبعده لتتوكل على الله وتشق طريقك . . . " ثمّ تذكرت فجأة فاستدركت : ـ " ولعلك تعدل عن مسألة الثأر هذه ! " كان حبيب قد نسي تقريباً الكذبة التي كذبها ، وكاد أن يتساءل - " أي ثأر تقصدين ؟ " لكنّه تذكَّر ، فقال : ـ " تعنين أن أنتظر مقتلي على أيديهم ؟ " ـ " خذ رأسك وارحل اذن ! " ـ " إلى أين مثلاً ؟ " ـ " أرض الله واسعة . . . اذهب إلى أي مكان . إن سألتني فأنا أرى أن قتل الإنسان أمر هيّن ، لكن إحياءه عسير . القوة والذكاء في الإحياء . القتل لأي سبب كان ، يعني هدم بناء بناه الله تعالى ، وهذا حرام كبير ، هل من السليم عصيان إرادة الله ؟ " قال مشجّعاً المرأة : " عندك حق . " ـ " سوف أذهب إلى الاحتطاب غداً ، أمّا أنت فنم بجانب ابني ! " نظر حبيب إلى حيث الطفل النائم وقال : " ولكن . . ؟ " ـ " ماذا ؟ " ـ " ألا ينفر مني ؟ " ـ " لا . إنه هادئ جداً . وهو عاقل أيضاً . " - " ربما ، لكنه طفل رغم كل شيء ، وقد يزلّ لسانه أثناء لعبه مع رفاقه من الصبية . " - " مالَك وللأطفال ؟ " ـ " حسناً ، وأين سوف أنام ؟ " ـ " في تلك الغرفة الخلفية . " فكَّر قليلاً ، ولم يرَ ذلك مناسباً . ثمّ رفع رأسه ونظر إلى الأعلى وقال : ـ " العلية أنسب مكان . " نظرت المرأة أيضاً إلى العلية وقالت : ـ " تلك مملوءة بالغبار والأتربة . " ـ " لا ضير في ذلك . نمدّ كيساً . " كان الأمر سيَّان بالنسبة لها : ـ " أنت تعرف . " ـ " نعم نعم يا أختاه ، ذلك برأيي أنسب مكان . لقد غسلتِ جرحي ونظفتِه ، وداويتِه ثمّ ضمدتِه . " ليرضَ الله عنكِ يا أختاه . إن كنتُ موجوداً هنا اليوم فغداً لن أكون ، ولا أريد أن أسبب لكِ أيّة أقاويل تضرّ بسمعتك بعد رحيلي ! أغرورقت عيناها . يا لـه من رجل طيّب القلب ، يا لـه من رجل يملك عقلا في رأسه . آه لو استطاعت أن تصدق قصّة زواج ذلك اللعين المسمى عليها زوجها ! نظرت بطرف عينيها إلى عضلات ساعديه المفتولين ، وإلى شدة رجليه العملاقتين ، وإلى منكبيه العريضين ، وإلى جسمه متين البنيان . كان الرجل أيضاً ينظر إليها دون أن يجعلها تشعر بنظراته أو تشعر به . وقال لنفسه أنه لا يمكنه أن لا ينظر يا سيدتي . لكن هل هذه إنسانية ؟يداها المكتنزتان بيضاوان كالثلج ولكن ، حتّى مجرد الخاطر . . .تعلَّقت عيناه للمرة التي لا يعرف كم عددها ، بص*رها الوافر الذي كان يثيره ويتعبه منذ فترة . ثار على نفسه ، وشعر بحنق وسخط بالغين . هذا يعني التغوّط على الصحن الذي أكل منه . عض اليد التي امتدّت إليه بإحسان . نعم مجرّد هذا يعني ذلك ، مجرّد هذا القدر الصغير من مثل هذا الخاطر ! ـ " نمْ في العلية فوق أنسب حل . " زوجها يعتبر عوداً يابساً بجانب هذا المنظر البديع . تهيّج ثانية من منظر ص*رها الوافر وغمغم : ـ " نعم . " ـ " لكن يجب أن تنام ، فلا يمكن أن أتركك قبل أن يلتئم جرحك بالكامل وأطمئن عليك ! " سرَت قشعريرة غريبة في جسد الرجل : " أشكرك . " ـ " شكراً لك أنتَ أيضاً ! " انسحقت تحت رجولته الجبّارة ، نصبت رأسها مثل فرس ثائر ، ثمّ رفعته إلى الأعلى بحركة كأنها تريد أن تردَّ إلى الخلف خصلة شعر سقطت على جبينها . هيَّجته هذه الحركة هياجاً عظيماً فاشتعلت النار في جسدهً ، وهو وإن خجل إلا أنه لم يقف عند الخجل . وحين التقت نظراتهما تنهَّد دون قصد . سألته بحرارة ، وربّما فهمت سبب التنهيدة على هواها : " ما هذا ؟ " ازداد خجله وقد ضُبط متلبساً : " لا شيء . " ـ " هل غرقت سفنك في اليم ؟ " ضحك وقال : " لا لم تغرق ، الحمد لله ما زالت تسبح . " ضحكت بدورها : " إذن ؟ " رد ببساطة : " لا شيء ، حقا . " ـ " لا شيء ؟ " ـ " يعني ، إنها تسبح . " تثنَّت المرأة وهي تضحك : " هل كنت تتكلّم مع زوجتك هكذا أيضاً ؟ " " ماذا تقصدين ؟ " " هل كنت تمزح معها على هذا النحو ؟ " غرقت في العرق حتّى شحمتا أذنيها وهي تودّ أن تقول لـه بأسلوب لا يفضح أحاسيسها - " يا رجل . هل كنت تكلّمها عن كل شيء ، عمّا راح وعمّا جاء . . . " . كانت المرأة سكرى برائحة " رجولته " النَّفَّاذة . فهبّت تنفض عن رأسها الفكرة ونهضت من مكانها في الحال؛ إذ كانت ستُجَنُّ لو لم تنهض ، وهي حتّى لو لم تخسر نفسها ، لكنها وبتصرف هستيري ربما كانت ستمسك بإحدى يدي الرجل المشعّرتين . ـ " فلأجهّز لك فراشك ! " تطايرت تنورتها ، فأظهرت ت**يراتها ثنيات ساقيها البيضاوين ، فجُنَّ الرجل . أمّا هي فقد مشت الهوينا إلى حيث يستند السلم . فأخذته ، وأسندته إلى فتحة مربّعة في السقف ، ثمّ حملت مكنسة وكيساً من القنب وتسلَّقت السلم دفعة واحدة . أغمض الرجل عينيه ، وأمال رأسه إلى الأرض ، لكن لا فائدة مهما فعل . ثنايا ساقيها البيضاوين ، وفخذيها الأبيضين بياض الثلج ، الظاهرين تحت تنورتها ، كانت داخل عينيه المغمضتين . تسارعت دقّات قلبه . ها هو الشيطان الأعمى يغويه ! تنهَّد بحرقة . ثم أنه فتح عينيه المغمضتين ، ونظر رغماً عنه . كانت نظرته في اللحظة المناسبة تماماً . كانت المرأة تحاول في تلك اللحظة الولوج إلى داخل الفتحة المربّعة بفخذيها المكتنزين اللذين يضجّان حيوية من تحت تنورتها المرفوعة تماماً . لماذا فتح عينيه الآن ؟ هل كان ذلك صواباً ؟ لم يكن يريد ذلك . فهذه خسة . هذا يعني عض اليد الممتدة إليه بالمعروف . هذا يعني البصق في الطبق الذي أكل منه . هذه رذالة وقذارة . هذه يقال عنها جحشنة جحش ابن جحش ! كانت المرأة فوق تكنس بانفعال أرضية العلية الغارقة في التراب ، وتفكّر متسائلة : - " هل نظر يا ترى ؟ هل رأى ؟ هل أعجبه ؟ " . لم يخطُ رجل خطوة بعد زوجها في هذا الحوش ، أمّا هذه الغرفة فلم يدخلها ذكر . " وهذا ؟ " تنهَّدت في نفسها " ماذا عنه ؟ " متحسّرة ومبرّئة نفسها " حسناً فعلتُ . هو يتزوّج هناك أليس كذلك ؟ ألا يسأل عني ولو بسطرين ؟ ثمّ ماذا ؟ ماذا فعلتُ ؟ ألا أعرف نفسي ؟ وماذا في ذلك ؟ وهل قعد ذلك ا****ر ابن الكلب عاقلاً هناك طيلة هذه السنين ؟ لا يقعد ولا يهمد ، لا يمكن أن يظل عاقلاً ! " نظرت إلى الأسفل بتلقائية ، كان الرجل واضعاً رأسه بوجهه غير الحليق وشعره الأشعث بين كفيه العملاقتين . هل رأى انحناءتها أثناء ولوجها إلى الفتحة فراقه مّا رأى ؟ ربما رأى ثيابها الداخلية . . . " حسناً ، لكنه خجول جداً . " فكرت في نفسها " الرجل يجب ألا يكون . . . ( أنور ) الأعرج الكلب . . . آه لو كنت أحببته ، أو بالأحرى ، لو كان هذا مكانه ؟ لو كان هذا لاختلف الأمر كثيرا ! " . كنست بأسرع ما يمكنها ، ومدَّت كيس القنّب . سوف تتمهّل الآن أثناء نزولها ، وكذلك ستفعل أثناء صعودها ثانية حاملة الفراش . " وإذا ما رأى فليرى . ماذا في هذا ؟ " قالت في نفسها " زوجي لم يسأل عني طوال هذه الأعوام . وهذا موجود وجاهز ، فقد قتلوا زوجته ، ولكن لا يجوز يا حبيب قلبي ، فهل أعجب الرجل بي يا ترى ؟ إنه لا يبدي شيئاً ، لو كان زوجي لما التفت ونظر إلى الجارات . وهل كل الناس مثل الأعرج الحقير النتن ؟ " . تقصَّدت التمهّل أثناء نزولها والمكنسة بيدها ، وأطالت العملية . حتى ينظر الرجل إليها ، ورأى حتّى ثيابها الداخلية تحت التنورة ، ومع رؤيته أعاد خفض رأسه بسرعة كمن تلقى صفعة . هاجت المرأة لمنظره ولخجله . ربما كان الرجل شديد الحياء . ولم يكن ذلك ذنبها ! نزلت ، ووضعت المكنسة على جانب ، ثمّ دخلت إلى غرفة جانبية صغيرة ، تحوي فرشاً ولحفاً وأكياساً ، وغسيلاً وسخاً . رتَّبت فراشاً ذي وجه أزرق مرقَّع برقعة زرقاء أغمق ، مع لحاف ووسادة ، وحملتها على كتفها . صرخ الرجل من الخارج في نوع من الشهامة الذكورية : " دعي الأمر لي ، فلأحملها أنا إلى الأعلى . " وبدفعة من كتفها أزاحته من طريقها قائلة : " عد أنت إلى مكانك ! " امتثل الرجل لأمر المرأة ، وعاد ليجلس حيث كان . أطالت المرأة عملية الصعود وارتقاء السلّم والحمل على كتفها ، وجاهد الرجل في أن لا ينظر ، لكن عينيه كانتا ترتفعان رغماً عنه فيرى كل شيء . بل ، لقد رأى هذه المرة بوضوح أشياء جديدة . ارتجفت يداه المكتنزتان العملاقتان ، رغماً عنه ، إذ بدأت عينه اليمنى تنظر وترى ، ثمّ تبعتها اليسرى . لو تيسَّر لـه بعض الماء البارد لغطس فيه بوجهه ويديه . كان قلبه يدق بعنفً ! رأت المرأة وأدركت أنه نظر إليها ورأى كل شيء ، ثمّ انسحب إلى داخله مثل سلحفاة ، وراح يوبّخ نفسه . لماذا ؟ وما الداعي ؟ وما الذي يستدعي الخجل ؟ الحقيقة أنه لا يليق بالرجل كل هذا الخجل ! نظرت إلى الأسفل ثانية . كان كما قبل قليل ، قد وضع رأسه بشعره الأشعث بين كفّيه العملاقتين ، وأنزل رأسه وأسنده إلى ركبتيه . " أ**ق ! " قالتها في نفسها ، " وأنت يقال عنك رجل ؟ يجب أن أكون أنا مكانك . . . ما الداعي للخجل ؟ ها إني أمامك امرأة بلا زوج ، قلتها لك بوضوح ، وسمعت بأذنيك كلام الأعرج الكلب ، وفهمت كيف يدور حولي ويلاحقني مثل كلب حقير . فما بك ؟ صحيح أنني لا أحبه ، لكن ماذا عنك . . . " . توكد لديها أن الرجل لن يدرك ذلك بسهولة ويفهمه . فرشت الفراش فوق كيس القنّب بسرعة ، وطوت الغطاء بطريقة أنثوية ثم وضعته فوق الفراش ، ثمّ نزلت السلّم . لم تتبدَّل وضعية رأس الرجل الذي بين كفيه . لم يكن ينظر . كان يخشى الرؤية . ليس من الإنسانية أن ينكر الجميل ويعض اليد التي تمتد . وعضُّ اليد التي امتدت إليه بالصداقة خسة لا يمكن أن يقدم عليها . . .لا لا ، لا . .مستحيل . كان قهره وان**اره من الخيالات التي تملأ مخيّلته ، ومن المناظر التي لا تفارق ناظريه . وكان أقهرها منظر فخذيها ، آه لو يستطيع رمي هذه الخيالات من ذهنه ! لا يستطيع ، لا يستطيع ! " توبة يا الله ، توبة ، أستغفر الله العظيم . . . لقد ناديتها أختي . . . عملت معي معروفاً . وآوتني في بيتها ، وضمّدت جرحي ، ثمّ ها قد جهّزت الآن فراشاً في بيتها . لا يمكن . مجرّد التفكير بذلك حقارة ما بعدها حقارة ! " . خطرت بباله فجأة صورة سيدة المزرعة التي أشعل فيها النار . .الخادمة ( كوللو ) التي استحوذ ( رضوان ) بيك عليها لنفسه مستخلصا إياها من يد ابن أخيه ، وعقد عليها . تلك أيضاً كانت ممتلئة الجسم في مثل حجم هذه المرأة . تلك أيضاً كانت بيضاء وطرية كالمهلّبية مثل هذه . أحرقوا المزرعة . وفيما كانت المزرعة تحترق بلهيب النيران التي تلتهم كل شيء ، هاجم مخدع السيدة بقصد استئصال شافة ورثة ( رضوان ) بيك الذي قتله قبلاً . كان الباب مغلقاً ، فراح يلكمه ويضربه ، بوجه عابس مكفهر ، وبعينين جاحظتين تكادان تبرزان من محجريهما . . . وفي الداخل كانت زوجة ( رضوان ) الشابة في حالة فظيعة من الرعب والفزع ، وطفلها الوليد لا يكفّ عن البكاء ، وفيما يبدو أنها كانت في حيرة من أمرها ، ومن يدري لعلها كانت تفكر في الهرب ، وتبحث عن طريقة للفرار . فجأة خطرت نافذة الغرفة ببال ( حبيب ) . . نعم نعم ، نافذة الغرفة . يمكن للمرأة أن تلقي بنفسها من هذه النافذة إلى الأرض المبللة بمياه الأمطار ، فتنجو ، مع أنها يجب أن لا تنجو ، يجب أن لا يستمر حق ( رضوان ) أو ورثته في أمواله المنقولة وغير المنقولة . يجب . وبدفعة أخرى من كتفه كُسِرت قطعة من خشب باب الغرفة . تماما كما فكر ودبر ، كانت المرأة الشابة قد فتحت النافذة وراحت تتهيأ لكي تتدلى من النافذة إلى الأسفل . مدَّ ( حبيب ) ذراعه من الفجوة المفتوحة في الباب ، وسحب المزلاج الذي يُقفل الباب من الداخل وإذ بالمرأة الشابة نصف العارية بقميصالنوم تلقي بنفسها إلى تحت . دخل ( حبيب ) كومضة البرق إلى الحجرة التي فتح بابها في اللحظة المناسبة من وجهة نظره . ودون أن يلحظ الطفل في مهده والذي يمزّق بكاؤه الدنيا ، ودون أن يسمع بكاءه ، أسرع إلى النافذة . كانت الطريدة قد ألقت بنفسها إلى الأرض المبللة بماء المطر . وبعد دقائق لمحها تركض حافية القدمين في الأراضي المبلَّلة ، وتقع وتغطّس في الطين والوحل ، وتقوم وتركض كأن الشيطان يطاردها . ألقى بنفسه من النافذة كما فعلت ، وجرى وراء فريسته . بدأت عملية كر وفر مرعبة لمسافة خمسين متراً . غطى الماء والوحل والعرق المرأة وقميص نومها الحريري ، وقبل أن يمضي وقت طويل لحق بها وأدركها ، وقد بلغ بها الإعياء مبلغاً بحيث كادت أن تقع وتتدحرج على الأرض ، أمسك برقبتها ، وطرحها على الأرض الطينية ، وانحنى مجهزا عليها يريد خنقها . راحت تتوسل إليه : " أرحم ولدي ، إن كنت تحب الله أشفق على ولدي " لم يستقر في عقل ( حبيب ) سوى كلماتها " ولدي ، أشفق على ولدي ! " توقفت أصابع يديه الممتدتين لخنقها ولم تستطع أن تطبق على عنقها الهش . ترك المرأة ، واستوى وأشعل لفافة تبغ . إنه يذكر ذلك جيداً . رمى اللفافة على الأرض بسخط . نظر إلى المزرعة التي تحترق بلهيب النيران ، ومن خلال اللهيب البرتقالي رأى رفاقه الفلاحين الثائرين يتدافعون هنا وهناك ، وكمن يشاهد شريطاً سينمائياً نظر إليهم برهة ، ثمّ حمل رأسه و . . .تنهَّد من الأعماق . وما زال هروبه هو ذاك الهروب . كانت المرأة الشابة تلملم وترتّب الغرفة ، وتدور هنا وهناك . . أمّا ( حبيب ) فلم يكن ينظر إليها ما وسعه ذلك . لكن ورغماً عنه ، كانت الأجزاء المثيرة في المرأة ، تتجسَّد في خياله ، فتكتسي لحماً وعظاماً . . .تمسح الحلال والحرام والمسموح والممنوع . - " هيا يا أختي ، إني صاعد . " أجابته ( سارا ) بأسلوب في غاية الإثارة ، بل وبشيء من التحدي الأنثوي : " نوماً هنيئاً . " صعد الشاب السلم ببطء وهدوء . وألقى بنفسه على فراشه ، وتمدَّد على جانبه مستنداً إلى كتفه السليم . لكن ما هذا الذي يرسم المرأة في مخيلته رغماً عنه ، بل ويرسم أدق التفاصيل المثيرة في المرأة محاولاً تهييجه وإثارته وإغراءه وإغواءه ؟ لا يمكن أن يكون من عند الله . الله مص*ر الخير والحسنات والأعمال الطيبة الصالحة ، وكل الأشياء الجميلة . معنى ذلك أنه ابليس . نعم إنه ابليس الأعمى هو الذي يغويه الآن ! اشتهى أن يُشعل لفافة تبغ ، لكن لا ، يجب أن لا يُشعلها . حسناً ، ولكن ما معنى هذا التحدي الأنثوي المثير وهي تقول له - " نوماً هنيئاً " ؟ إنه في الحقيقة مشتّت حائر في أمره . فماذا لو عمد في ساعة متأخرة جداً من الليل ، أي قبيل الصباح ، فاندس في الفراش إلى جانبها ، وراح يداعبها ؟ هل ستصرخ المرأة وتصيح يا ترى ؟ . وفيما كان قسم من عقله يقول : " أي صراخ وصياح ؟ " كان القسم الآخر منه يشد لجامه قائلاً : " حذار . . . فسوف تصرخ وتصيح ، ثمّ هل يجوز ؟ هل يليق بك ؟ كيف تتغوَّط في الصحن الذي أكلت منه ؟ كيف تعضّ اليد الصديقة التي تشبّثت بها ؟ هل هذا من الإنسانية في شيء ؟ " . كان هذان التفكيران المتناقضان ، ينقلبان في داخله ، مع مرور الدقائق ، إلى شخصين يتناقشان . فكان الجانب الشيطاني فيه يقول : " إنها امرأة بكل معنى الكلمة ، أنثى بلا رجل على مدى سنوات . نعم لقد ضمّدت لك جرحك ، وجهّزت لك مكان نومك ، وحمتك ممن يطاردونك . لكن ماذا يعني هذا ؟ إن كنت هنا اليوم ، فمن يدري أين ستكون غداً ؟ أكبر إكرام للمرأة هو أن تستعمل معها رجولتك وتداعبها ، وتحبها ، لا تنسَ ذلك ! " .ويرد عليه الجانب الانساني فيه قائلاً : " لا مجال للغباوة . فهذه المرأة ليست كغيرها من النساء . لقد أسدَت إليك معروفاً . فلا تعضّ يدها ، وبالمناسبة أنت لا تستطيع ذلك ، فذلك مُعيب جداً ، إضافة إلى كونه حرام ! " . - " والله لا علاقة لي ، فقد تشكُّ في رجولتك بعد مغادرتك ! " - " ماذا ؟ ألا تثق بي ؟ إذا طال الشك رجولتي ، فهذا يعني أنه ليس في الدنيا رجال ! " - " عليك أن تظهر رجولتك للمرأة ! ! . " - " ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ " . - " ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ " . وفيما كان في أعماقه يتخيَّل مختلف أشكال انحناء المرأة واستقامتها ، ويتصوّر أكثر وأكثر تفصيلات فخذيها المكشوفين ، أثناء صعودها ونزولها السُّلُّم ، كانت المرأة بكل فتنتها الطاغية تتسلسل إلى دخيلته . ورغماً عنه ، وبشيء من التردّد انزاح عن فراشه ، ورفع على مهل طرف كيس القنّب ، وراح يبحث عن ثقب أو شق ينظر منه إلى الأسفل . وسرعان ما وجد ما يبحث عنه ، فما أكثر الشروخ والشقوق في أخشاب السقف ! وبألف تردّد وتردّد انحنى على ثقب من أنسب هذه الثقوب . لم تكن المرأة الشابة قد نامت بعد . كانت لا تزال تلملم وترتّب الغرفة . وكانت استدارة فخذيها في كل انحناءة واستقامة تجعل ريقه يجري .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD