الجزء الثاني
بنت شوارع
رأت ليلى أثناء ركضها عدة مباني شبه مهدمة فاختارت مبنى منهم، كان يصلح نوعا ما للأختباء خلفه، فهو عبارة عن طابقين به حجرات كثيرة.. أما المباني المجاورة عارية فلن تستطيع حجبها عنهم، رأت سلم صعدت عليه صارت تتفقد جميع الحجرات فوجدت حجرة واسعة بها أغراض كثيرة..كبراميل كبيرة، وأثاث كثير متهالك، قمامة مبعثرة في أركانها، بعض الأخشاب والطوب اللازم للبناء، و أدوات ومعدات مختلفة خاصة بأعمال السباكة والتشطيب، جلست خلف كومة من الأثاث وكانت منقطعة الأنفاس، جسدها يئن من الأرهاق، كانت في حاجة لنيل قسط من الراحة حتى تستطيع أن تواصل الفرار، خوف.. تعب ..إرهاق ، يتأكلونها بلا رحمة.
في نفس تلك اللحظة كان هيما يركض بلا هدى في كل مكان يبحث عنها كالمجنون، يبحث عنها في اصرار كالذئب الجائع الذي فقد فريسته، أما حنتيش توقف أمام تلك المباني التي اختبئت ليلى في واحد منهما، فتوقف مكانه، ينظر لها في حيرة وتساؤل هل يمكن أن تكون بداخلها؟ وأي مبنى فيهما قد تكون مختبئة فيه؟ ففكر بالمنطق والعقل يداعب ذقنه في تفكير ..لو كان مكانها فأي منهم يختار ..فاختار ذلك المبنى المختبئة به بالفعل، فلا يوجد غيره يصلح..ظل يبحث في كل ركن فيه..كانت ليلى وقتئذن تخفي وجهها بين ركبتيها اللتان قد ضمتهما بيديها تفرغ بينهما خوفها واضطرابها في صورة دموع غزيرة..وفجأة رفعت رأسها حينما شعرت بوقع أقدام تقترب منها، هجم عليها خوف شديد.. وأصاب جسدها قشعريرة..تنفست بقوة حتى تقضي على توترها، انحنت لكي ترى من صاحب تلك الأقدام..كان حنتيش يدور بعينيه بحثا عنها، فكتمت أنفاسها بيدها ..وزحفت حتى تبتعد عنه، بهدوء شديد وحذر ظلت تواصل زحفها حتى وصلت للحائط الذي اقيم من القوالب..في وسط الحجرة..وكلما اقترب منها انتقلت لمكان آخر.. تريد أن تترك تلك الحجرة حتى تبتعد عن انظار ذلك الذئب، وكان بينها وبين الباب خطوات ..أغمضت عينيها في أستعداد فتشجعت ونهضت وسارت بهدوء وحذر وهي تنظر لظهره يبحث عنها خلف الأثاث وخلف كل شئ..وبالفعل خرجت على حين غفلة منه من تلك الحجرة.. وظلت تجري بكل قوتها ، وعندما اصطدمت قدمها في بعض المخلفات وقد أحدثت صوتا جعلت حنتيش ينتبه لها التفت اليها سريعا فلمحها تركض حيث الطابق الأول فركض خلفها لكي يلحق بها، استطاع أن يمسك بها من ثوبها فصرخت ليلى برعب وظلت ترجوه :
-سبني الله يخليك..انتو عايزين مني أيه؟ سبوني في حاالي بقى.
دموعها، وتوسلاتها، جسدها الذي يرتعش خوفا بين يديه كعصفور بلله المطر.. لم يرقق قلبه بل ظل ينظر لها بسعادة لأنه استطاع أن يعثر عليها فقال لها وهو يتأملها بوقاحة:
-يعني حنكون عايزين منك أيه ياقمر..عايزين نقضي وقت حلو مع بعضينا فخليكي حلوة بقى.
فكر في أن يواطئها ويكون هو الأول فهو أحق بها.. ساقها أمامه وهو يأكلها بعينيه.. كانت تصرخ وترجوه أن يدعها، وفجأة وجدته يترنح و يحررها ثم سقط فاقد للوعي، التفتت خلفها لكي ترى مالذي حدث، وجدت شاب أسمر ذو لحية وشارب منحاه وسامة ..يبدو عليه الشحوب والتعب الشديد ملابسه ملطخة بدماء يبدو عليه أنه أصيب بطلق ناري في موضع كتفه اليمنى حيث كان واضعا يده على موضع الجرح والدماء تسيل من بين أصابعه..وفي يده الأخرى ألة حادة هي التي ض*به بها ذلك الذئب الآدمي على رأسه فأفقده الوعي..ظلت تحدق به بدهشة وتوجس في نفس الوقت..تتساءل من هذا؟ من يكون؟ اهو ذئب آخر ينتمي لتلك الذئاب اللذين يريدون الفتك بها ..ظلت تتراجع للخلف تريد أن تهرب فيأتي صوت هيما وهو ينادي على حنتيش.. ذلك الذئب الذي رأته بعينيها وهو ينقض دون رحمة على زميله.. فنظرت للشاب بحيرة ..كيف تصنع؟؛ هل تركض للداخل أم للخارج في كلتا الحالتين هي ضائعة.
ويأتي هذا الشاب ويحسم الأمر بسرعة فجذبها من يدها.. وتوارى بها خلف أحد الأعمدة وقد ألصقها به يسد فمها بيده وقال لها محذرا و قد اخترقتها عيناه بقوة:
-تعالي هنا..أوعي تفتحي بقك لحسن نروح في داهية...هششسش ولا نفس.
اغمضت عينيها وكل خلية بها ترتجف.
ما يحدث لها فوق طاقة احتمالها أنها تتنقل بين أيادي الذئاب كزهر النرد. فتحت عيونها فرأته وهو يتسمع خطوات هيما..وصوته الجعوري وهو ينادي على زميله صوت يزعج الجماد..بعد لحظات سمع أقدامه تبتعد ..حينها رفع يده عن فمها..وقال وهو ينظر لها وقد وجد نفسه يتأمل وجهها الذي كان عبارة عن صورة مجسدة للرعب:
- الحمد لله مشي ..متخافيش.. أنا مش حأذيكي. والا مكنتش خلصتك من الكلب ال هجم عليكي ده.
بحروف ترتعش وصوت لاهث همست:
-أ أ أ أ ..أنت مين وعايز أيه مني..سبني الله يخليك لو بجد مش عايز تأذيني..أرجوك تسبني أمشي.
-قلتلك متخافيش..أنا الظروف رمتني في طريقك يمكن عشان انقذك أو انتي تنقذيني الله أعلم..المهم دلوقت نخلص من الكلاب دول ونخرج من المكان ده.
كانت عيناه بدأتا في التراخي وعلى وشك أن يفقد وعيه جراء الدماء الكثيرة التي نزفها..حتى أنه كاد يسقط أمامها وبحركة لا أرادية منها أسندته بيديها قائلة بانزعاج:
-في ايه؟؛ مالك يا بيه؟
فهمس بوهن وهو يحاول بالكاد أن يتماسك ويتغلب على شعوره بالأغماء:
-أنا تعباان قووي..حا حاسس أن حيغمى عليا..لازم نطلع من هنا بسرعة .
-طب ..طب قولي اعمل أيه؟
شدد الضغط على موضع جرحه وهو يتوأه فقال لها بصوت ضعيف كاد أن يتلاشى:
-بصي من الشباك ده لو ملقتيش اثر للجدع ده ال كان بينده ..اسنديني ووصليني لحد عربيتي هي الحمد لله مش بعيدة حنمشي بس شارع وبعدين نطلع بسرعة قبل ما يوشفنا.
قالت بلهفة من يريد الفرار من الجحيم :
-ح حاضر.
ليس أمامها الا أن تصدقه.. نظرت من النافذة ولما لم تجد أحد أسندته وجعلت ذراعه يحيط كتفها ..وسارت به في خطوات سريعة تسبق بها الزمن فسألته:
-العربية فين؟
أشار لها على الجهة التي يجب أن تسلكها فلما لمحتها..تسلل إليها الأمل كشعاع من أشعة الشمس حين تشرق فتملأ الدنيا بهجة وسعادة فهمست له :
- أيوة العربية أهي هناك يلا بسرعة أرجوك.. حاول أن يركض ولكن كان على وشك أن يفقد وعيه..اردفت وقسمات وجهها مضطربة:
-ارجوك..ارجوك ..استحمل لحد منوصل.
أومئ برأسه وعيناه المتعبة تقول لها لا تخافي.
وصلا اخيرا للسيارة فسألها بوهن:
-ت ت تعرفي تسوقي.
هزت رأسها تنفي عدم ايجادتها للسيارة بخجل.
فقال لها:
-طب ساعديني وقعديني على كرسي السواقة.
فتحت له الباب وقبل أن يدلف بها وجدت من يجبره على الولوج مرة أخرى، وقد أمسكه من ياقة قميصه فصرخت بفزع أنه هيما يبتسم بخبث ويقول بسخرية :
-على فين ياحيلتها هو بالساهل كده تاخد المزة مننا وتفلسع لا ياروح أمك دي مدفوع فيها كتييير قوي.
ثم أتبع قوله هذا لكمات في بطنه وفي فكيه وكان الشاب كدمية في يده لا يستطيع حتى أن يدافع عن نفسه.
في خضم ذلك ظلت ليلى تبحث عن شئ لكي تض*ب بها ذلك الوحش.. فوجدت قالب فأخذته وض*بته به في أمة رأسه فسقط على الفور..تنفست الصعداء وظلت ترفع ذلك الشاب بكل قوتها الى أن ادخلته واجلسته داخل السيارة كان وجهه كله مخضب بالدماء التي تسيل من جرحه بغزارة فقالت له باضطراب:
-أرجوك حاول تفوق وتسوق يارتني أعرف اسوق كنت سوقت من فضلك فوق بسرعة واتحمل ..فوق الله يخليك قبل مايفوقوا هما.
كانت تقول ذلك وهي تض*به ض*بات خفيفة على وجنتيه عله يستقيق وتمسح عنه الدماء..هز رأسه أنه يسمعها فانبثقت ابتسامتها من بين دموع الأمل ..وقال وهو شبه فاقد للوعي كأنه يحتضر يجاهد لكي ينقذها وينقذ نفسه من وحوش البشرية.. كانت لا تريد الا أن يخرج بها من وقر الذئاب هذا ثم تتصرف هي ..وبالفعل أستطاع أن يقود بها حتى خرج الى الطريق السريع ،وعلى الرصيف وقفت تمد يدها عل سيارة تتوقف لها.. قلبها ينبض بشدة فما زال الخطر يلحقهم ظلت تشير لأي سيارة باستماتة..وأخيرا توقفت سيارة نقل فطل من نافذتها رجل في الأربعين من عمره قالت لها وعيناها تتوسله:
-من فضلك ممكن تساعدنا الله يخليك.
الرجل وهو يتفحصها بفضول:
-أؤمري يامدام.
وجدت نفسها تقول له:
- أ أ ناس حرامية طلعوا علينا انا وجوزي سرقونا وض*بوه بالرصاص..ربنا يباركلك ودينا أقرب مستشفى..الله يكرمك .
كان الرجل يخشى المسأل القانونية فهمس مترددا:
-أيوة يامدام..بس دي مسئولية يعني ووو..
قاطعته ليلى مشجعة:
-متخافش ..تقدر توصلنا وتسبينا..أرجوك ربنا ما يوقعك في ضيقة.
بعد تردد قال الرجل:
-ماشي يامدام ..هو فين
.باابتسامة امتنان قالت له اهو في العربية ياريت تساعدني عشان ننقله..
وبالفعل ساعدها ونقلاه الى سياراته وأمام أقرب مستشفى توقف بها وهو يقول:
-لحد كده يامدام ومقدررش..
لم تجعله يكمل حينما قالت له وهي تشكره:
- كتر خيرك لحد كده.. ساعدني بس ونزله واتوكل أنت على الله ربنا يجازيك كل خير.
بعد أن اخرجه لها من سيارته ظلت تصرخ على أمن المستشفى وهي تنادي عليهم:
-اسعاف بسرعة ..جوووزي حيممموت.. بسرعة حد يساعدني..وبالفعل هرول إليها اثنان من الممرضين بناقلة للمرضى حملاه وأدخلاه الى حجرة الطوارئ.
وقفت أمام الحجرة تزفر في انهاك، تشعر أن كل طاقة بداخلها قد نفذت.. قوتها خارت..قلبها اجهد، كل خلية فيها تئن وتتوجع..تفكر في كل ما حدث لها الذي الى الآن لم تصدقه، ولم تصدق أنها قد نجت ..نظرت الى أعلى وظلت تشكر الله على نجاتها وعلى حفظه له..رأت الطبيب يخرج من الحجرة فسألته:
-أخباره ايه يادكتور.
الطبيب بعملية:
- أحنا نقذناه على آخر لحظة..بس الحمد لله متقلقيش احنا طلعنا له الرصاصة.. هو نزف كتير وعوضناله الدم ال فقده ده.
بكرة الصبح حيبقى كويس..ياريت تكتبي لو سمحتي يامدام بياناته بره عن الأستعلامات.
تركها في حيرة ولا تعلم كيف تدلي ببياناته وهي لا تعلم أي شئ عنه..زفرت في ضيق وهي تردد في نفسها:
-ينهار أسود.. أعمل ايه أنا دلوقت ياربي..أعمل ايه وأنا معرفش عنه حاجة معرفش حتى اسمه؟
في خضم حيرتها وزخم أفكارها خرجت الممرضة وهي تعطيها أغراضه.. وكانت عبارة عن محفظته..وأوراقه الشخصية..ابتسمت في سعادة..أخرجت هويته الشخصية وقرأت أسمه ( مؤيد عبد الرحمن سعيد )
ابتسمت رغم عنها وهي تتأمل صورته ترى مالذي يخبأه لها القدر مع هذا المؤيد.أخرجها من شرودها نداء الممرضة لها لكي تأتي وتدلي ببيانات المريض.
ظلت بجواره حتى الصباح وكان هو قد بدأ يفيق من الم**ر، دار بعينيه في الحجرة فوجدها نائمة على مقعد أمامه حاول أن يرفع رأسه ولكن جرحه حال دون ذلك..حتى أنه تأوه من فرط الألم..قامت هي فزعة على صوته فقالت له باضطراب:
-مالك فيه أيه؟ حاسس بحاجة..أنده للدكتور؟
انتبه لخوفها البادي في عيونها وقسمات وجهها بماذا يترجم خوفها عليه؟؛ تعجب ولما انتبهت لنظراته المترجمة لخوفها أطرقت برأسها خجلا، قال سريعا بصوت واهن حتى يخفف عنها الحرج:
-أيه الحصل..وأنا فين؟؛
-الحصل ان ربنا نجانا من الكلاب وقدرنا نهرب والحمد لله قدرت أني اجيبك هنا في المستشفى..شالوا الرصاصة منك وعلى بكرة حتبقى زي الفل باذن الله.
ابتسم بتفهم وأردف بامتنان:
-أنا مش عارف أشكرك ازاي من غيرك كنت زماني في تعداد الأموات.
فقالت وعيونها تنطق بالأمتنان والشكر:
-بالع** المفروض أنا ال أشكرك لأنك أنقذتني من الكلاب الخ*فوني دول.. أنت أنقذت حياتي كلها ومستقبلي.
فضحك ضحكة ضعيفة جعلت الجرح يؤلمه وأردف وهو يكتمه:
-مش قلتلك الظروف بعتتني ليكي وبعتتك ليا عشان ننقذ بعض.
ابتسمت وهي تهمس لنفسها:
-ياخسارة بعد شوية حنفترق يارتني أفضل معاك عالطول لكن أنا لازم أمشي دلوقت بكرامتي بدل ما يجي حد من قرايبه ويمشيني..تداركت نفسها سريعا وهي تقول له باابتسامة عذبة:
-طيب أنا اطمنت عليك حسيبك بقى. . أنت دلوقت كويس وأكيد حتتصل بأهلك عشان يجولك..مع السلامة بقى وكتر خيرك.
في لمح البصر وجدته يجذبها من يدها وتملك ذراعيها بقبضتيه، على الرغم من الألم الذي يشعر به ظل ينظر لها بغضب ، يتعمق في عينيها ، يهمس لها بقسوة:
-أستني هنا عايزة تسبيني وتروحي فين، ازاي تمشي وتسبيني وأنا بالحالة دي.. احنا جينا هنا سوا وحنمشي مع بعض فاهمة.
كلماته..نبرته القاسية..عينياه اللتان تلمعان بشئ لا تفهمه، كل هذا يحيرها، شعرت ان قلبها يصرخ بداخلها ينبض بجنون، يرجوه أن يتركها حتى ينبض كالبشر نبضات طبيعية حتى لا ينفجر بداخلها..لم تجد ما تقوله شفتيها تتمتمام بكلمات غير مفهومة كل الذي قالته:
-أ أ أ أ أنا..أنا....
قاطعتها طرقات على الباب .
اضطرا أن يحررها من سجنه ومن قبضته ومع ذلك هي مازالت أسيرته ترتعش..ترتجف تريد أن تفر بعيدا عن عينيه اللتان تحصرانها.
دخول الطبيب أنقذها من سيطرته عليها وهو يقول باابتسامته العملية:
-صباح الخير
جاهدت أن ترد بصوتها الطبيعي:
-صباح النور.
-اخبار مريضنا ايه؟؛
ظلت تحت تأثير تملكه له ولم تشعر بوجود الطبيب الا بعد أن انتهى من فحصه وقال:
-لا كويس جدا يومين وممكن يخرج باذن الله.
**********************************
يومان بعدهما خرج مؤيد من المستشفى..اصطحبها الى شقته وفي الطريق كلما سألته الى أين نحن ذاهبين، لم يجبها حتى وجدت نفسها في شقة فخمة تتأملها بزهول تقول لنفسها:
ياترى جايبني هنا ليه؟؛ آه أكييد عايزني أخدم هنا..طب وماله يبت ياليلى مش أحسن من لفك في الشوارع، وبيعك للفل والمناديل.. أيوة بس ازاي أخدم واحد عازب..عازب ايه انتي كمان اكيد كمان شوية حتيجي مراته.. عالعموم هو واضح انه انسان كويس..وربنا يستر بقى وأنا لو حسيت بحاجة كده ولا كده حهرب عالطول.
أخرجها من شرودها صوته وهو يقول لها:
-أدخلي الاوضة دي..غير هدومك..واستريحي شوية ووفي كمان لبس حتلاقيه جوه ياريت تلبسيه و تستعدي عشان بالليل في ناس جاية.
سألته وهي تضيق عينيها بعدم فهم:
-ناس مين؟؛
-لما يجيوا حتعرفي.
كادت أن تسأله أسئلة أخرى لو لا أنه قال ولم يعطها فرصة..أنا كمان حدخل أوضتي أخد شور وأنام شوية لحسن أنا حاسس بشوية تعب..تركها ودلف حجرته دون أنتظار رد..فاضطرت الى أن تصبرحتى المساء.. هي الأخرى دلفت حجرتها كانت حجرة كبيرة متسعة مؤثثة بأثاث فاخر تبعث للنفس الراحة والأحساس بالحياة.
على الرغم من غموض مؤيد الذي يؤرقها ..وعدم فهمها لبعض الأمور التي تص*ر منه ..الا أن قلبها مطمئن سعيد ولا تدري ما السبب، سعادة كتلك التي تنعمت بها في وجود والدها رحمة الله عليه..وعلى ذكر والدها عبئت رئتيها بهواء الحنين ثم زفرته باشتياق وأسف.
حاولت أن تجبر عقلها الا يستقبل وفود الذكريات تلك فانها وفود سمجة..لذلك راحت تستمتع بما منحه الله لها..أخذت حماما دافئ وارتمت على فراشها ترتشف منه الراحة والنوم.
بضع ساعات مرت وهي تتقلب على فراشها في هدوء وراحة بال..حتى ايقظتها دقاته وصوته وهو يوقظها:
-ليلى اصحى..ليلى
نفضت عنها النوم سريعا ثم قالت:
-ايوة صحيت..صحيت أهو
قال من خلف الباب:
-طب ممكن تخرجي بقى عشان ناكل ونستعد قبل ماالضيوف تيجي.
-حاضر.
خرجت بعد قليل وجدته جالس في الصالون نظرت له على استحياء ثم اردفت:
-مساء الخير.
رد وهو يتفحصها بأعجاب:
-مساء النور..تعالي اقعدي.
جلست في المقعد المقابل بعد أن تأملها لحظات قال لها:
نمتي كويس.
رفعت عينيها له فأجابت:
-أه الحمد لله.
همس وعيناه تحتويها:
-طب ايه مش جعانة؟؛..أنا جعان .
قالت وهي تنهض بنشاط:
-حاضر ثواني احضر العشا.
وقبل أن تهم للانصراف أوقفها عندما أمسك يدها..ووقف قبالتها قرب رأسه من رأسها وكأنه على وشك تقبيلها..لا تدري أي شلل أصاب جسدها..بل عقلها..ول**نها أيضا..كل الذي استطاعت أن تفعله أن تبادله تلك التأملات، لا تنكر بينها وبين نفسها سعادتها وهي بين يديه، وسعادتها بقربه منها..أنها بلا وعي حتى قلبها ينبض بلا ارادة منها ولا تستطيع التحكم في دقاته، زادت خفقاته عندما همس قرب أذنها:
- تتجوزيني؟
حدقت فيه بعدم تصديق حتى انها تراجعت للوراء بضع خطوات وهي تمتم:
-تتتجوزني؟؛؛ تتجوزني أنا؛؛
جذبها اليه من جديد فقربها اليه أكثر وقال ويده تتخلل خصلات شعرها مما جعلها تقرب رأسها من كتفها وقد تسللت اليها بعض القشعريرة:
-أيوة أتجوزك أنتي..الناس ال جاية بعد ساعتين دول يبقوا المؤذون والشهود.
مازالت تحدق فيه بعدم استيعاب ، تريد أن تسيطر على الزلزال الذي يهز قلبها وعقلها بقوة فقالت له:
-اجوزك ازاي..وأنت متعرفش عني حاجة..وكمان أنا ابقى........
وضع يده على شفتيها حتى لا تكمل جملتها التي يعلمها جيدا ( انها بنت شوارع) . فقال لها وهو يجذبها ويجلسها ثم يجلس قبالتها:
-مهو انتي حتحكيلي كل حاجة بعد ما ناكل وتعرفيني بنفسك أنا كمان حقولك كل حاجة عني متقلقيش.
هذه القصة عشت أحداثها عن قرب ورصدت تفاصيلها ، فقد حدثت لعائلة قريبة مني ، وبطلها كان أحد أبناء هذه العائلة.
البداية كانت لرجل مسن هده المرض ، إذ أصابته جلطة ألزمته السرير الأبيض ، قرر بعد ذلك أبناؤه أن يسافروا به للعلاج خارج المملكة ، ولكن لا جديد إذ أفادهم الأطباء بأن حال والدهم ستظل هكذا عاجزاً عن الحركة ، عاجزاً عن الكلام حتى يقضي الله في أمره ما يشاء.
تشاورت الأسرة في حال الوالد العزيز ، وعندها أعلن الابن الرابع قراره ، قراراً سيكون له أثر بالغ في مسيرة حياته كلها ؛ لقد قرر أن يرافق والده في المستشفى حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أسئلة كثيرة دارت في ذهن من حوله هل هو جاد فيما يقول؟ أم هي حماسة أملتها طبيعة الموقف ومنظر الأب المحزن؟.
⁉️وإن كان جاداً فما الذي سيفعله مع وظيفته؟ وماذا سيفعل مع أصدقائه؟ وزياراته وسفراته؟ إذ لا يزال شاباً في مقتبل العمر تغريه الدنيا بمفاتنها، إلا أن الجواب جاء بطريقة عملية أنهت كل تساؤل.
ثلاثة عشر عاماً متواصلة ليلها بنهارها ، قضاها بجوار سرير والده ، يقوم بشأنه كله ، يطعمه ويسقيه ، وينظفه من جنب إلى آخر ليريحه ، كان يتعامل مع والده بلغة الإحسان ، إذ ل**ن والده عاجز عن الكلام ، فتارة يحس أن والده جائعٌ فيطعمه ، وتارة يحس أنه ظمآن فيسقيه ، وتارة بحاجته إلى تغيير رقدته فيقلبه على جانبه الآخر.
أصبح كل من في المستشفى يعرفه ، كلهم يعجب من صنيعه ، وكلهم جعل من بره قصةً يعطر بها مجالسه.
دخل هذا الشاب المستشفى مع والده مرافقاً في نهاية العشرينات من عمره ، ولم يخرج إلا وقد تخطى الأربعين كان المستشفى عالمه الكبير ، أما خارج المستشفى فلم يعرف عنه شيئاً فاته الزواج والكثير من مباهج الدنيا ومتعها ، لكن أرجو أن يكون قد نال ما هو أعظم من هذا كله وهو رضا الله عز وجل.
يتبع
#سهير_عدلي