"دعينا نغادر المكان..." تمكنت من إخراج الكلمات بصعوبة، لكن صوتي كان ضعيفًا، بالكاد سمعته نفسي. شعرت وكأنني أطلب الهروب من واقع لا أستطيع تحمله.
ردت بأسف: "لكننا وصلنا للتو، والمكان جميل وسنتسلى..." كانت ملامحها تحمل تعجبًا واضحًا، وكأنها لا تفهم لماذا أريد مغادرة كل هذا الجمال.
"أرجوك، لنغادر. لا أشعر أني بخير." كنت أضغط على أسناني، أحاول التحكم في مشاعري.
"هل أنت بخير؟ تحتاجين إلى طبيب؟" سألت بقلق، وقلبي كان يؤلمني برؤية قلقها.
"لا، لا... فقط دعينا نعود إلى النزل. بعض الراحة والنوم ستفي بالغرض." كانت كلماتي بمثابة محاولة لتبسيط الوضع، لكنني كنت أعرف أن الأمور أعمق من ذلك بكثير.
خلال الطريق، كانت أسينات تسألني بلا توقف. "لم غادرنا؟ ما الذي حدث؟ هل هناك ما يؤلمك؟" كنت أريد أن أجيبها، لكن الكلمات لم تكن تتشكل في ذهني، وكأن كل ما كانت تقوله يتلاشى في ضباب أفكاري.
وصلنا إلى النزل، وعندما رأتني أبدو متعبة ومرهقة، أصرت على المبيت عندي لتطمئن على صحتي. "لا أريد أن أتركك وحدك،" قالت بنبرة حانية، وقد شعرت بشيء من الدفء في كلماتها، حتى وإن كان الألم ما زال يعتصر قلبي.
كنت أحتاج إلى لحظة من الهدوء، إلى مكان أستطيع فيه مواجهة أفكاري. لكن وجودها بجانبي كان أيضًا مص*رًا للأمان. "حسنًا،" أجبت بصوت خافت، "لكنني أحتاج إلى بعض الوقت بمفردي أولاً."
تركت لي مساحتي، لكنها كانت تراقبني بعناية، وكأنها تعرف أنني كنت أعاني، وأن الألم لا يزال يجثم على ص*ري. في تلك اللحظة، أدركت كم كانت أسينات تحمل لي الكثير من الأمل، رغم كل الظلام الذي كنت أعيشه.
جلست أسينات بجانبي، محضرة كوبين من نعناع، وكأنها تعرف أن هذا الشراب سيمنحني بعض الراحة في لحظة ضعف. كانت ملامحها تع** القلق والحنان، وكان صوتها دافئًا عندما قالت: "كفاك الآن، اشربي هذا ودعينا نتحدث قليلاً. ال**ت لن يزيد الأمور إلا سوءًا وتعقيدًا. شاركيني وجعك ما الذي رأيته هناك وأوصلك لهذه الحالة. أجيبي؟"
أجبتها بصوت ضعيف، يكتنفه الألم: "كانت ريم هناك... هي وحبيبتها."
"ريم؟! من تكون؟ لم تحدثيني عنها من قبل!" كان تعجبها يحمل براءة غريبة، وكأنها لا تعرف أنني أحتفظ بجراح الماضي بعيدًا عن أنظارها.
"إنها حبيبتي السابقة،" قلت، محاولة السيطرة على مشاعري. "إنها السبب في كل الألم والذكريات التي أحاول الهروب منها."
بعد **ت دام برهة كنت أستعد للحديث عن كل شيء، لكن الكلمات لم تكن سهلة. "أتدرين، أسينات؟ شعرت لحظة رؤيتها أنني عدت لنقطة الصفر." قلتها وصوتي يرتجف، ودموعي التي حاولت جاهدة عدم ذرفها انزلقت دون إرادتي، لتشعرني بالضعف الذي حاولت إنكاره.
أسينات لم تقل شيئًا، بل كانت تتأملني بعينين مليئتين بالتفهم. احتضنتني بهدوء، وكأنها تقول لي إنه لا بأس في أن نشعر بالألم، وأن نواجهه معًا. لم أكن أتوقع أن أجد في لحظات الضعف هذه نوعًا من الدعم، لكن وجودها بجانبي أعطاني شعورًا بأنني لست وحدي في صراعي.
"أنتِ قوية، سيرينا. وما مررتِ به لا يحدد من تكونين. نحن جميعًا نملك ماضٍ، لكن عليكِ أن تتعلمي كيف تتركينه خلفك."، على الرغم من أنني كنت لا أزال غارقة في أفكاري وأحزاني الا ان كلماتها قوّتني .
"أحتاج إلى وقت،" قلت، محاولة جمع شتات نفسي. "لا أريد أن أكون هكذا، لا أريد أن أعود إلى نقطة البداية."
"سأكون هنا من أجلك. سنواجه كل شيء معًا،" ردت أسينات بابتسامة دافئة. لم تضف أسينات أي كلام بعدها، بل حضنتني بحنية، وساد **ت طويل بيننا. كانت لحظة مليئة بالراحة تضج بالمشاعر الودية والغير مفهومة على الأقل بالنسبة لي،حالتي التي رأتني عليها كانت كفيلة بشرح كل شيء، ولم نعد بحاجة للكلمات.
غفوت بين ذراعيها كطفل صغير غفى بحضن والدته بعد مغص شديد. كان حضنها هذا ملاذي، حيث كان كل ما حولي يختفي، وأستطيع الهروب من الألم.
لم أدرك شيئًا بعدها حتى أفقت صباحًا على أشعة الشمس الخفيفة تتسلل من خلال الستائر. نظرت بجانبي، فرأيت آسينات نائمة. استغرقت بعض الهنيهات لأستذكر ما حدث بالأمس، وسرعان ما استوعبت سبب نومها معي بهذه الوضعية.
بدت لي ملامحها بريئة وهادئة، كأنها تبعث السكون والراحة للقلب. تساءلت بصوت شبه مسموع، دون وعي مني: "لمَ الآن، بعد أن فكرت أنني وجدت ما أبحث عنه، تظهرين دون مقدمات لتربكي مشاعري مجددًا؟"
قلت هذه الكلمات وأنا أتحسس وجه آسينات بخفة ولطف، لا أريد إيقاظها. كانت يدي تتحرك برفق على خديها الناعمين، كما لو أنني أحاول أن أستوعب كل تفاصيلها، وكل مشاعري لحظتها.
تسللت إلى ذهني صورة ريم، وابتسامتها التي كانت تملأ روحي شغفا يوما ما، تدفق شعور غريب مضطرب في ص*ري، مزيج من القلق والشوق. كأنني في عالمٍ آخر، دوامة من الذكريات المؤلمة من الماضي و الطمأنينة التي تنتابتي في حاضري مع أسينات.
لا أعلم ما الذي ينتظرني، لكني ادركت في هذه اللحظة شيئًا واحدًا: لقد وجدت في آسينات شيئًا لم أشعر به منذ وقت طويل، وأريد أن أعيش هذا الإحساس بكل تفاصيله من جديد.
انتظرت ب**ت، متمنية أن يستمر هذا الهدوء، وأن يظل هذا الصباح طويلا بعيدا عن أي شائبة قد تعكر صفوه .
بعد فترة وجيزة من الزمن، نهضت من فراشي بتثاقل ودخلت الحمام. أخذت حمامًا دافئًا سريعًا، حاولت فيه غسل أفكاري بدلاً من جسدي، كأن الماء قادر على تطهير ذاكرتي من عبء الذكريات الذي يثقل ص*ري. شعرت للحظة أن حرارة الماء تتسلل إلى داخلي، لتهدئ اضطراب روحي ولو قليلاً.
هذه المدينة باردة، تكاد تكون كذلك طوال العام. الجو هنا يميل إلى البرودة حتى في فصل الصيف، لذا يكون الصباح منعشًا ومفعمًا بالنشاط. الهواء البارد يلفح وجهي، وكأنه يوقظني من سبات داخلي. بعد أن انتهيت من الحمام، أعددت لنفسي كوبًا من القهوة الساخنة، وتوجهت إلى الشرفة.
الشرفة صغيرة لكنها تمنح شعورًا بالدفء والراحة. بها مقعد كبير نوعًا ما، يتسع لجسدي المتكاسل، بجانبه طاولة صغيرة عليها بضع كتب كنت قدرأتها في أمسيات سابقة. الهواء هنا خفيف، ينزلق برفق على وجهي ويملأ ص*ري بنسمات منعشة. أحببت هذا المكان، كم اتمنى لو ان هذه الأجازة لا تنتهي
نظرت إلى الداخل، فوجدت آسينات ما زالت نائمة. يبدو أنها بقيت مستيقظة لوقت متأخر الليلة الماضية. ليس من عادتها النوم لهذا الوقت؛ فهي عادةً من توقظني بطرقاتها الخفيفة على باب غرفتي، أتسأل كيف ستنظر لي بعد ليلة امس او ما الذي دار بفكرها نحوي وانا بتلك الحالة ....
آسينات
...
أحسست بالهواء البارد يتسلل من الشرفة، محمّلاً برائحة القهوة الزكية. "لا بد أن سيرينا هناك"، فكرت بينما أدرت نظري نحو الباب. نهضت ببطء من السرير، وتوجهت نحو غرفني بالنزل ثم الى الحمام. لاحظت أنني نمت بثيابي، وأحسست بثقل على جسدي. مثل هذه الثياب لا تريحك في نومك أبدًا، لقد شعرت بتعب شديد يتراكم في كل عضلة.