جلس الجِد مُترأس طاولة الطعام الفخمة، يجلس حوله أبنائه وزوجاتهم وأحفاده أيضاً، وجهه مُجعد ومع ذلك لازالت تلك النظرة الصارمة بعيناه، و القسوة التي أرتسمت على وجهه، ينظر لأبنه الكبير "أمجد العلالي" قائلاً بصرامة:
- لسة بردو ملقيتوش حفيدتي يا أمجد؟!!!
أرتبك المدعو "أمجد" و زوجته "هناء" التي تجلس جواره، ليسترسل قائلاً بصوتٍ مهزوز:
- لاء يا حاج، قلبنا مصر كُلها عليها أنا و ماجد بس مالهاش أثر كأن الأرض أنشقت وبلعتها، مش كدا يا ماجد!!!
ألتفت "ماجد" له ينظر له بسأم، قائلاً بصوتٍ حاقد:
- كدا يا أمجد، دوّرنا عليها فعلاً ومالقيناهاش!!!
ض*ب الجد "الطاولة" لينتفض الجالسين من ثورة غضبه، ليصرخ بهم بصوته الواهن قليلاً لكبر سنه:
- يعني أيه اللي أنتوا بتقولوه دة، راحت فين أختفت!!!، بقالكوا أكتر من شهر من ساعة مـ هربت بتدوروا عليها ومش لاقيينها، أتصرفوا ولاقوها في أسرع وقت فاهمين!!!
أنهى كلامُه واضعاً يده على قلبه بألم ليقع على المقعد متآوهاً بألم فصرخ الجميع لينهضوا ملتفتين حوله، فهتف الجد قائلاً برجاء ممسكاً بـ كف "أمجد" وتحولت نبرته القاسية إلى أخرى متوسلة:
- أنا عايز "ليلى" يا أمجد، دي يتيمة يابني وأمانة في رقبتي، عشان خاطري دوّر عليها في كل مكان انت وأخوك، متسيبوش فندق ولا مُستشفى إلا وتدوروا فيهم، أكيد هتلاقوها!!!
زاغت عينان "أمجد" لينظر بعيداً عن أبيه ولكن هتفت زوجته بنبرة مُرتبكة:
- يا جدي أحنا دوّرنا في كل المستشفيات والفنادق اللي في القاهرة وبردو مش لاقيينها!!!
نظر لها الجد بحدة قائلاً بضيق:
- أسكتي أنتِ يا هناء أنا بتكلم مع ولادي!!!
تراجعت "هناء" بحرجٍ، فأكمل الجد يوّجه حديثه إلى "ماجد":
- دّور انت يا ماجد بنفسك، يمكن يابني تلاقيها، دة هي من ساعة مـ هربت وأنا مشوفتش راحة، ياريتني مـ جبرتها تتجوز، أنا السبب في كُل اللي حصل!!!!
أنهى حديثُه ببكاءٍ شديد كالطفل، فأدمعت عينان "ماجد" على حالة أبيه، ولم يتأثر "أمجد" بل هتف بجمود:
- أنت مش غلطان في حاجة يا حاج، أنت كنت عايز تستّرها وتجوزها، وبعدين "أحمد" ظابط وليه أسمه، وهي بهروبها فضحتنا وفضحتُه، وزي مـ حضرتك عارف أنه مستحلفلها أنه لما يلاقيها.. هيقتلها!!!!!!
ذُعر الجد من حديثه، لينظر له هادراً بصوتٍ عالي:
- عشان كدا بقولك لازم نلاقيها أحنا الأول قبل مـ يعمل فيها حاجة، أحمد مجنون ومتهور ولو طالها هيقتلها، وأنا مش مستعد أخسر ليلى أبداً يا أمجد سامعني!!!
• • • •
جلسا معاً على إحدى مقاعد المشفى، هو ينصُت لما ستقوله بكامل جوارحه، وهي تفرُك أصابعها بتوتر، فهيبتُه لها أثر عليها، ولكنها تن*دت لترفع عيناها له، ليتأهب هو لسماع حكايتها، ولكنها أدهشته بقولها:
- أنا مش هقدر أحكيلك حاجة عن حياتي..
عقد حاجبيه مُستغرباً ليُردف:
- ليه؟!!!
غرزت أسنانها بشفتيها بحرجٍ وهي تنظُر لقدميها، قائلة بصوتٍ خافت:
- مش عايزة أفتكر حاجة، ممكن أحكيلك بس عن .. عن اللي حصلي هنا في المستشفى دي، يمكن دة يساعدك أنك تطلعني من هنا، مع أني بردو مش عايزة أفتكر اللي حصلي هنا!!!!
تن*د بتفكير، فهو كان مُتحمساً ليعرِف ما جعلها تدلُف لهُنا، ولكنه سيصبِر، حتى تثق به وتقُص عليه ما حدث دون ضغط!!! عاود النظر لهيئتها، ثم قال بهدوء:
- أسمك أيه، وعندك كام سنة؟!!
إزدردت ريقها قائلة وهي تنظُر له:
- أسمي ليلى، وعندي عشرين سنة..!!!
- ليلى!!!
أعاد نُطق أسمها مُتلذذاً، ثم أبتسم بثقة عندما علِم أنها في العقد الثاني من عُمرها كما أستبطن، ليُردف يحُثها على الإكمال:
- تمام، كملي.. أيه اللي حصلك هنا!!!
- أنا .. أنا هقولك، عارف ليه؟!!!
هتفت ببراءة وهي تنظُر له فأبتسم سانداً ظهره على ظهر المقعد عاقداً ذراعيه، قائلاً و الأبتسامة تُزين ثِغره:
- ليه يا ليلى؟!!
اردفت بخجل و هي تنظُر له:
- عشان أطمنتلك، مع أني مش عارفاك..بس حاسة أنك الوحيد اللي هطلّعني من هنا!!!
دُهِش من حديثها، فهو دائماً ما كان مصدّر قلق للأخرين، مص*ر خوف من جميع الأشخاص اللذين حوله، دائماً ما يضعوه بمهمات صعبة لأنهم يعلمون أنه الوحيد في الداخلية القادر على إنهائها، جميع من حوله يحترمونه ويقدّرونه ويخافون من الأقتراب منه، لأنه لا يرحم، لا يستهين وتأتي تلك الفتاة التي ما إن رأته حتى ألقت بنفسها في أحضانُه دون تفكير، تُخبره أنها تطمئن له، بل وتشعر أنه سيحميها من هولاء الذئاب البشرية الذين يتربصون لها، ولم تُفكر أبداً .. أنه من الممكن أن يكون أحد هؤلاء الذئاب!!!
شرَد طويلاً، فطرقعت بأصابعها أمام عيناه، ليُفيق من شروده ينظُر لها لتُردف بإستغراب:
- أنت سامعني!!!
أومأ لها ثم هتف بهدوء:
- سامعك، أحكي..
أعتدلت في جلوسها، لتعبث بالثوب الأبيض الذي ترتديه، ثم نظرت له قائلة بصوتٍ لمح الألم به:
- أنا لما دخلت هنا، كُنت بتعامل مُعاملة وحشة جداً زيي زي باقية اللي معايا، بيحطونا على كراسي كهربا، وبيكهربونا لحد مـ يُغمى علينا، بس الفرق أن الناس اللي هنا فعلاً مجانين، بس أنا مش مجنونة، بس صدقني باللي بيعملوه فيا بقالي شهر حاسة أني أتجننت حقيقي، كُنت بصبر نفسي وبقول كُل دة هيعدي، أيه اللي هيحصلي يعني.. هموت!!! طب ياريت أموت، أنا أصلاً ميتة من زمان..
أنهمرت الدموع من عيناها على وجنتيها تِباعاً، فتألم "آسر" لرؤية عباراتها وسماع كلماتها التي جعلته يوّد لو يقتل كُل من تسبب في أذيتها، ولكنه تصنع الهدوء، ليتلاشى ثباتُه عندما نظرت بعيناها الدامعة له تقول وشفتيها ترتجف:
- تخيل نفسك تبقى عايش في وسط مجانين، ودانك مليانة بصراخهم وهما بيتألموا، ياريت جات على كدا بس، الراجل اللي كان بيجري ورايا دة، كُل يوم كان بييجي عندي الأوضة بليل ويحاول يتحرش بيا، لولا أن مراته اللي هي الممرضة اللي كانت معاه بتيجي وبتحوشه عني، وكانت بتقفل عليا بالمفتاح عشان ميعرفش يدخل، وأنا مبعرفش أنام بعدها، بفضل أعيط على الأرض.. لحد مـ أنام من التعب، وللأسف عشان أنا متوصي عليا وأكيد أنت ظابط وفاهمني فـ هُما حجزوني في اوضة لوحدي، وكمان أوضة عازلة للصوت!!!
يعني أي حاجة بتحصل في الاوضة دي محدش يعرفها!!
خُرس ل**نِه عن الحديث، ينظر لها فقط بجمود يحاول ألا يظهر غضبه أمامها، ولكن خانته عيناه الموقودة بنيرانٍ مُتأججة لينظر للفراغ أمامه قابضاً على كفيه بقسوة، غارزاً أظافرُه بهما وهو يشعُر ب*عورٍ لا يوصف، صوتها الباكي وقلبها الملكوم جعلانه يود لو ينهض ويأتي بذلك الرجُل ويُحطم ضلوعه من شدة الض*ب، تماسك قليلاً ثم ألتفت لها ليسأل بنبرة جامدة:
- في علامات في جسمك؟!!!
تفاجأت من سؤاله لتنظُر له بإستغراب، فهتف مُبرراً حديثه:
- دة هيفيدنا كتير في تقرير الطب الشرعي، عشان أثبت أنه الزفت دة بيتحرش بيكي وأعرف أخرجك من هنا..!!!
أومأت له وهي تنظر للفراغ أمامها بنظراتٍ مُتحجرة، فسأل بضيق وهو يشعر بأختناق غريب من حديثها:
- أخر مرة كانت أمتى؟!!
- أمبارح!!!!
قالت وهي تنظُر له والدموع تملأ عيناها، فأبعد عيناه عنها ثم نهض فجأة من أمامها ليسير في ممر المشفى يبحث عنه بأنظاره، فركضت خلفه تحاول أن تلحق به وهي لا تعلم ماذا سيفعل، ولكنها شهقت بعنف عندما وجدته يجذب ذلك المُمرض من تلابيب مئزرُه الأبيض بقسوة يهتف بُعنف:
- تعالى يا روح أمك!!!، دة أنت أيامك اللي جاية سودا على دماغك!!!!
وقفت " ليلى" تُراقب ما يحدُث بينهم، ودون تدخل من أحد خوفاً من تهوره..
دفعه "آسر" ثم هتف إلى "ليلى":
- تعالي معايا!!!
أومأت له لتذهب وراءه على قسم الشُرطة!!!
• • • •