أجتمعوا جميعاً على طاولة الطعام العريضة ، جلس "ظافر" على رأسه السُفرة بطبيعة الحال ، تجاوره والدته الذي بدى الشحوب على وجهها و رُغم ذلك رفضت تناول الغداء في غرفتها لتصرّ على أن تجلس معهما ، و من جهة اليمين جلس "باسل" الذي قد أتى للتو بحوزة "رهف" ..
بدأوا الجميع بتناول الطعام ب**ت تام ، كانت "ملاذ" تحدق بصحنها بشرود ، لا تصدق أنها تجلس في قصر ذلك الرجل بل و تأكل على طاولة طعامه ، شردت لبعيد تماماً عندما كانت تبلغ من العمر خمس سنوات ..
طفلة صغيرة تصرخ بصوتٍ عالٍ على تلك السيدة الكبيرة بالعمر ، رُغم عُمرها الذي لم يتعدى الخمس سنوات و قُصر قامتها إلا أن صوتها كان يصدح بالبيت الصغير بأكمله ، حاولت تلك السيدة أن تهدأها بكلماتها الحنونة و هي تجلس كالق*فصاء لتصبح في مستواها :
- أهدي يا ملاذ يا حبيبتي صدقيني براءة أختك هتبقى بخير أهدي ..
نفت "ملاذ" بوجهها الطفولي الذي أمتلأ بالدموع و هي تقول بطفولية بريئة :
- لا مُس (مش) هتبقى كويسة هي لاسم (لازم) تعمل عملية بفلوس كتير .. أنتِ بتضحكي عليا أنتِ كذابة !!!
ثم تركتها وذهبت بعيداً خارج البيت بأكمله ، عيناها غارقة بالدموع الطفولية ، ركضت من على الدرج غير عابئة لصراخ تلك السيدة عليها ، عيناها مُلتمعة ببريق أصرار رغم صُغر عمرها ، ولكن معالجة شقيقتها كانت أكبر من أي شئ أخر ..
قادتها قدميها الصغيرة لقصر ذلك الرجل فاحش الثراء ، لم يكُن يبعد كثيراً عن بيتها المتواضع ، وقفت أمام البوابة و رُغم الفزع الذي أعتراها عندما وجدت رجلين قويان البنية و منكبيهما العريضان و طولهما الفارع ، أعتلت ملامحهما غرابة شديدة لوجود تلك الطفلة أمام قصر متحجر القلب ذلك ، ق*فص أحدهما على قدميها أمامها قائلاً بحنو :
- عايزة حاجة يا حبيبتي ؟ فين مامتك وباباكي توهتي منهم ولا ايه ؟..
هزت رأسها برفض قائلة بنبرة قوية لا تليق إلا بها :
- عايسة (عايزة) أقابل عمو اللي جوا ، اللي معاه فلوس كتير ..
رفع ذلك الشخص حاجبيه بدهشة مسطرداً :
- و أنتِ عايزة عمو في أيه ؟ تعالي أود*كي لمامتك وباباكي ..
ثم سحبها من يديها لتنفض يده بقوة ، أنفجرت في بكاء شديد ليصرخ بها الأخر بعنف شديد :
- أمشي يابت من هنا مش ناقصين ق*ف ع الصبح !!
نظرت له بحقد و لم تكف عن البكاء المزعج والقوي ، فمن يراها لا يصدق بأن ذلك الصوت المرتفع نابع من تلك القزمة !
ظلت تبكي الكثير من الوقت حتى أعلن أستسلامه أحد الحراس قائلاً :
- خلاص هنخليكي تقابليه ..
أبتهج وجهها سريعاً لتلمع عيناها من فرط سعادتها ، قفزت تصفق بطفولية ، صرخ الأخير محتجاً بإستهجان عما قاله رفيقه :
- أنت بتقول أيه يا مراد لو شافها سيدنا الكبير هيتعصب علينا أحنا ..
صرخ به المدعو "مراد" هو الأخر متأففاً بضيق :
- أنت مش شايفها مهرية من العياط ازاي دي ممكن تموت كدة !!!
فتح الحارس بوابة القصر بضيق مشيراً لها بالدخول .. دلفت "ملاذ" بنصرٍ و بخطوات سريعة ، نظرت حولها للحديقة التي أمتلئت بالزهور مبهجة اللون لتصدم بجمالهما ، لم تعبأ كثيراً لتركض نحو باب القصر ، أخذت تطرق الباب بكفيها الصغيرتان لتفتح لها الخادمة ، صُدمت من تلك الصغيرة لتقول بغرابة :
- أنتِ مين يا عسولة ؟ و آآ
و في غضون ثانيتان كانت "ملاذ" تعبر تاركة إياها تهذي ، فقد ملت كثيراً أهذا كله لكي تقابل ذلك الرجل فقط ، وقفت "ملاذ" في منتصف القصر تقول الخادمة بنبرة يغمرها الغرور :
- فين أوضة اللي بتستغلي (بتشتغلي) عنده ؟
جحظت حدقتي الخادمة و لكنها لم تمنع تلك الأبتسامة التي زحفت على ثغرها لتشير لها على غرفة مكتب "سرحان الهلالي" لتذهب "ملاذ" لتلك الغرفة لا تصدق أنها و أخيراً ستتحدث مع الذي سينقذ شقيقتها ، وقفت أمام الباب لتقف على حافة قدميها حتى تصل لمقبض الباب ، جاهدت كثيراً و لكن فتحته بالأخير ، دلفت للغرفة بخطوات خائفة لتجده أخيراً ، "سرحان الهلالي" ذو الملامح القاسية و العينان المخيفتان بلونهما الأسمر ، خصلاته تتخللها الشيب قليلاً يجلس خلف مكتبه بغرورٍ يعمل بأوراقه ، لفت أنتباهه تلك الصغيرة التي دلفت لمكتبه لينتفض محدق بها بذهول ، أخذ يتسائل من أين جاءت ولماذا ، وقف أمامها واضعاً كفيه بجيوب بنطاله و معدته تدلى قليلاً أثر الشحوم المختزنة بها ، لم يتخلى عن جموده ليردف :
- أنتِ مين و بتعملي أيه في مكتبي ؟
لم تنبث "ملاذ" ببنت شفة ، مدت كفها الصغير في جيب بنطالها الصغير لتخرج بعض الجنيهات القليلة ، بسطت كفيها الصغيرتان معانا أمامه ، لم تجرؤ على رفع رأسها لتقول بعينان ممتلئة بالعبرات ليخرج صوتها متحشرجٍ أثر البكاء العالق بص*رها :
- دول بس اللي معايا .. ممكن يا عمو تساعد أختي عسان (عشان) تقدر تمسي (تمشي) على رجليها لو سمحت .. أنا عايفة (عارفة) أنك معاك فلوس كتير أوي .. لو سمحت يا عمو ساعدنا ..
قست ملامحه يطالعها بتهكمٍ ليصرخ بالخادمة بقوة :
- يا مديحة .. تعالي طلعي الأشكال دي من القصر ..
لم تفهم "ملاذ" ما قاله و لكن عندما وجدت الخادمة تأتي لتأخذها صرخت بقوة به و ببكاء يفطر القلب :
- لاء يا عمو لو سمحت ساعد أختي .
نظر لها ببرود جليدي ، و كأن الرحمة نزعت من قلبه نزعاً فأصبح كالحجر ، بل ربما قد نظلم الحجر إن شبهنا ذلك الشخص به ..
بكت "ملاذ" بكل ما أوتيت من قوة عندما سحبها ذلك الرجل بقوة ليدفع بها أمام مكتبه بقوة غير مراعياً صِغر سنها ، شفقت عليها الخادمة لتهم بإيقافها و لكن منعها "سرحان" بإشارة منه ، نظر لها بعيناه القاسيتان ليقول بنبرة خالية من الرحمة :
- لو شوفتك هنا تاني هحبسك في أوضة ضلمة فاهمه ؟!!!
ثم دلف لمكتبه صافعاً الباب خلفه ، أجهشت "ملاذ" بالبكاء لتترسخ عيناه القاسية بعقلها ، لم تيأس "ملاذ" أبداً بل نهضت رُغم جسدها الصغير الذي تألم من قوة دفعته ، طرقت على الباب مجدداً و لكن تلك المرة بقوة أكثر و هي تصرخ به بغضب :
- أفتح الباب .. أفتح أنت لازم تساعدنا !!!
رق قلب الخادمة لها لتجذبها و هي تقول برأفة :
- أبعدي يا حبيبتي عشان ميحبسكيش في الأوضة ، أنا مش عارفة أزاي باباكي و مامتك سابوكي تيجي القصر دة ..!!!!
نفضت "ملاذ" يدها عنها بقوة و هي مازالت تطرق على الباب بحدة رافضة الذهاب قبل أن تعود أختها في السير كما كانت ...
فتح "سرحان" الباب بعينان ملتهبتان ، حدقتيه حمرواتان بطريقة مرعبة تطلق شراراً ، شهقت "ملاذ" بخوف طفولي عندما وجدته هكذا لتنكمش على نفسها برهبة ، جرّها "سرحان" من ذراعها بعنف لغرفة كانت بالقبو ، باردة كالجليد ، حاولت الخادمة منعه و لكن لم تستطع لتركض لزوجته السيدة "رقية" لتحاول منعه مما سيفعله بتلك الطفلة ، ألقى "سرحان" بـ "ملاذ" داخل تلك الغرفة شديدة الظلام ، نظرت "ملاذ" حولها برعبٍ شديد محتضنه نفسها ، فـ فوق ظلام الغرفة الموّحش و لكن أيضاً برودتها لا يتحملها شخصٍ بالغ ما بالك بطفلة صغيره لا تفقه شئ !!!
اغلق "سرحان" الباب عليها ليوصده بالمفتاح ، قابل زوجته في وجهه بملامح فزعة مما قصت لها الخادمة ، أمسكت السيدة "رقية" ب تلابيب زوجها قائلة بفزع شديد :
- وديت البت فين يا سرحان .. متجولش أنك دخلتها الأوضة إياها !!!!
نظر لها بحدقتان خاليتان قائلاً :
- دخلتها يا رقية .. أبعدي من وشي الساعة دي ..!!!
جحظت عينان الأخيرة بقوة لتصرخ في وجهه ضاربة على ص*رها بقوة :
- يـخـرابـي .. دي البت زمانها مفلوجة من العياط يا حبة عيني ، هات يا سرحان المفاتيح ..
تركها ماراً بجوارها غير عابئاً لها أبداً ..
بينما في الداخل كانت المسكينة تبكي بقوة. بشهقات لم تتوقف ، ينتفض جسدها بين الحين و الأخر من قوة بكاءها ، أخذت تناجي والدتها و والدها قائلة ببكاءٍ شديد :
- تعالي يا ماما خوديني ، تعالي خوديني أنا خايفة أوي ، أنا عايسة (عايزة) أخرج من هنا ، تعالي يا ماما أبعدي السرير (الشرير) دة عني ، أنا مس عايسة أقعد هنا أنا بخاف من الضيمة (الضلمة) .. الجو برد أوي هنا تعالي يا ماما خوديني بقا تعالي يا مـامـا !!!!
أنفجرت في بكاء قوي لتجلس بزاوية ما في الغرفة تضم ركبتيها إلى ص*رها لتنسدل خصلاتها الغجرية على كتفيها ، سمعت صوتٍ من وراء الباب ، كان صوت فتى .. و لكن صوته حنون للغاية ، نبرته تغلغلت في جوارحها بقوة ، كان يمهس من وراء الباب بنبرة مطمأنه :
- متخافيش .. هطلعك من هنا !!!!
أجهشت بالبكاء بقوة ، أزرقت شفتيها من شدة البرودة و بردت أطرافها ، زاغت عؤناها لتصتدم رأسها على الأرضية بسكون تام ، و في تلك اللحظة بالضبط دلف "ظافر" إلى الغرفة الباردة ، ليشاهد ذلك الجسد الصغير يسقط امامه على الأرضية الباردة ، أنقبض قلبه ليركض نحوها ، طالعها بنظرات قلقة تشمل وجهها بأدق تفاصيله ، بشرتها الشاحبة بقوة و ثغرها المزموم الذي تحول لـ اللون البنفسجي ، دموعها العالقة بأهدابها المغلقه و البعض منثور على وجنتيها كاللؤلؤ ..