تشجع مايلو وكاد أن يطرق الباب ولكن جيرميا بادر بفتح الباب، تفجأ مايلو فتراجع بضع خطوات للخلف.
وكذلك فعل جيرميا الذي لم يتوقع أن يزوره أحد اليوم فمن العادات انتظار الزوجين حتى المساء ويزورهما من يريد من الأصدقاء والأقارب لمباركتهما.
تنحنح مايلو وقال بصوت يشوبه الخجل : آسف على الإزعاج سيدي ولكن .. لم يستطع إكمال حديثه فحثه جيرميا على الحديث قائلا : لا إزعاج ماذا تريد ؟ خلع مايلو عنه اللوحة التي يحملها على ظهره ثم رفع عنها ما يغطيها ، وقال تلك اللوحة **ر جزء من إطارها الخشبي ، ووجدت ختمك عليها أى أنك صانع هذا الإطار لذا جئت إليك لتصلحه لي ، أعلم أنك تزوجت أمس ، يمكنني أن أتركها لك تصلحها فيما بعد.
ابتسم جيرميا وربت على كتف مايلو ثم هز رأسه وقال: لا تتأسف ، سأصلحها لك في أقرب وقت، بداخل اللوحة انتبه ماجلان إلى تحركها ورأى صديقه جيرميا يتحدث مع رجل ما .
حاول ماجلان لفت انتباه جيرميا ولكنه كان مشغولا بالحديث مع مايلو يحدد له موعدا لكى يأخذ فيه اللوحة بعد إصلاحها، ولكن تاوا الحيوان الأليف لمايلو لاحظ تحرك ماجلان داخل اللوحة فأطلق نباحه المعتاد .
نهر مايلو حيوانه وقال له : ماذا بك ؟ لا تنبح هكذا . ثم اعتذر من جيرميا وانصرف يجر حيوانه الذي ظل ينبح كثيرا.
أمسك جيرميا اللوحة دون اكتراث، ثم دخل بها منزله ووضعها في المكان المخصص لعمله، كانت أوارا في تلك الأثناء منشغلة في إعداد طعام الغداء لهما ، لم تكن تعلم ما يحب من الطعام لذا انهكمت في إعداد عدة أصناف مختلفة لعله يجد فيها ما يحب.
جهزت المائدة ثم دعته لتناول الغداء ، لبى دعوتها بسرعة ،جلس بجوارها ، سألته أى صنف يريد ؟ تأمل المائدة جيدا فوجدها مليئة بأصناف مختلفة ولكنه نباتي لا يحب الأطعمة الدسمة فقال لها : سآخذ قطعة تامو وبرونا .
رفعت حاجبيها دهشة وقالت : فقط ، ألا تعجبك باقي الأصناف ؟ شعر بالحرج وقال : ليس الأمر كذلك ولكن لا أميل إلى الأطعمة الدسمة لأني مريض وتلك الأطعمة تؤلم معدتي.
أطرقت رأسها خجلا وحزنا ثم قالت : معذرة لم أكن أعلم . ابتسم لها ثم رفع وجهها وقال : لا عليك ، سأخبرك بالأصناف التي تناسب حالتي المرضية.
في تلك الأثناء كانت تمارا قد جهزت الأصناف التي تناسب حالة جيرميا ومن هنا بدأت خطتها في التفريق بينه وبين زوجته .
وضعت الأطعمة في أبهى أطباق ، ثم ارتدت فستانًا يبرز جمالها وحسنها ، ثم حملت الصينية المحملة بما لذ وطاب من أصناف يفضلها جيرميا ، ثم اتجهت إلى منزله بحجة المباركة له ولجارتها.
كانت تعيش مع جدتها العجوز التي لم تتبه لما تخطط له حفيدتها من سوء لجيرميا وزوجته ، وصلت إلى باب منزل جيرميا ثم وضعت الصينية جانبا ، وعدلت من ثيابها قبل أن تطرق الباب.
بعد لحظات استجاب أهل المنزل للطارق ، فتح جيرميا الباب : فلم يتعرفها ، أدخلها المنزل وحمل عنها الصينية ، كانت أوارا قد انتهت من تنظيف الأطباق وغسلهم.
ناداها زوجها لكي تستقبل ضيفتها ، ارتسمت ابتسامة على وجه أوارا عندما علمت أن ضيفتها هى جارتها تمارا ، التي أشارت للصينية ورفعت عنها المفرش الذي كان يغطي الأطباق ؛ لتكشف الأصناف التي يفضلها جيرميا .
برقت عيناه ثم بدأ في تناول بعضها مُشِيدًا بمذاقها الرائع الطيب ، ابتسمت تمارا بمكر وقالت : أعلم أن زوجك مريض وتلك الأصناف المناسبة له .
توقف جيرميا عن تناول الطعام وقال بدهشة : وكيف علمتِ بذلك ؟ وأنا لا أعرفك . ضحكت وقالت : الجميع في حى ناميرا يعرف بمرضك ، لذا تجد في كل منزل تزوره أصناف مناسبة لك .
حاول تذكر المرات التي زار فيها جيرانه وأصدقائه وتناول فيها طعام لديهم اندهش كثيرا عندما تذكر أنه فعلا كلما زار أحدهم كان يقدم له طعامًا يناسب حالته الصحية.
هز رأسه ثم نظر إلى زوجته وقال : الجميع يعلم بمرضي ، شعرت بالخجل فخرجت ، لاحت ابتسامة النصر فوق شفتي تمارا التي حدثت نفسها قائلة: لقد انفرطت أول حبة في عقد المحبة ، كانت تعلم جيدا أن اهتمام المرأة بتفاصيل تخص الرجل هى ما يجعل أ رجل يتاكد من محبة زوجته له وأنه محض اهتمام لها.
استأذنت تمارا من الزوجين وخرجت عائدة إلى منزلها والفرح يملؤ نفسها حيث تمكنت أخيرا من لفت انتباه جيرميا لها بعد أن تناول الطعام التي طهته له بيدها.
ولكن في طريق عودتها التقت بـ ديمرا صديق الطفولة الذي ترك حى ناميرا بعد وفاة والده ووالدته.
والذي اتخذ من السرقة والاحتيال منهجا لحياته ، كان يحمل زهرة كبيرة قد قطفها لتوه فألقاها على تمارا فانتزعتها من حلم اليقظة التي كانت تهيم فيه منذ أن خرجت من منزل جيرميا.
انتفضت وتراجعت للخلف عندما سقطت الوردة عليها ، ضحك ديمرا فأدارت رأسها ناحية الصوت فتفجأت بديمرا فازداد غضبها ، فهى لا تطيق مزاحه منذ الصغر.
قالت بحنق : أنت . ماذا جاء بك إلى هنا أيها التعس؟ دار حولها قبل أن يجيب : لقد اشتقت لمضايقتك فجئت لكى أمرح قليلا .
اشتعلت نفسها غيظا واحمر وجهها غضبا وقالت: ابتعد عن طريقي أيها الأ**ق ، أمسك ذراعها بقوة وقال لها : لست أ**قا وتذكري جيدا أنه من المحتمل أن تكوني زوجتي يوما ما .
نزعت ذراعها من يده بقوة ثم قالت: في أحلامك أيها المتحزلق ثم جرت ذ*ل فستانها بعصبية ، وهرولت مسرعة حتى وصلت منزلها ،أطرقت الباب بعصبية فتحت لها الجدة التي سألتها عما أصابها ولكنها لم تعر لها انتباه فدخلت غرفتها ، و بدأت في نوبة بكاء ، فتلك الفكرة أزعجتها بل أرعبتها للغاية وهى أن تكون زوجة ذلك الأ**ق يوما ما .
أما في داخل اللوحة كان الأمر مثيرا للشفقة ، فالكاهنة ساري لازال قلبها يشتعل غضبا بما فعله جومار لها وسجنها بداخل اللوحة ، ترى ماذا يمكنه أن يفعل بجسدها الذي أسره وعاد به إلى عالم عالم جورما؟ كان هذا السؤال الذي ضج بها رأسها منذ أن سجنت في اللوحة.
سألت أوسان نفس السؤال المعتاد لماجلان : وما العمل الآن ؟ اقترب ماجلان من الكاهنة وقال بلهجة حازمة : أعتقد أن الكاهنة ساري الوحيدة التي يجب أن تجيب عن سؤالك يا أوسان.
أشاحت الكاهنة بوجهها عنه ثم قالت : السبيل الوحيد للتحرر من سجن اللوحة هو الحب ، نيجاتيفيا تع** ما بداخلكما ؟ إذا أحببتما بعضكما البعض بداخل اللوحة ستتحرر روحيكما المعلقة فيها لتعود إلى جسد*كما مرة أخرى .
التحرر في يدكما وليس في يدي ، قالت أوسان بلهجة ساخرة : وهل لنا سلطان على قلوبنا ؟ هل يمكن أن نحب من نشاء ؟
أمسكت الكاهنة يد أوسان وقالت بلهجة معاتبة : الحب في العالم الذي جئت منه ، كالزهرة التي بدأت ببذرة لا روح فيها ولا حياة ، ثم تخضبت بحنة الأرض لتبدأ أول خطوة في رحلة الحياة ، تترعع البذرة شيئا فشيئا حتى تكبر ، لتزهر في آخر الأمر عن زهرة خلابة تطيب بأريجها الحياة.
قاطعها ماجلان : لحظة أى عالم الذي جئت منه ؟ تن*دت الكاهنة وقالت : إنها قصة طويلة وعليك أن تعلم أنك أيضا من ذلك العالم أيضا .
شعر بالحيرة ثم قال : لا أفهم شيئا . اقتربت أوسان منه وقالت : كنت أشعر أنك لست من عالم نورشا فحيلك السحرية ليست مألوفة هنا.
قالت الكاهنة بحماس : قدراتك السحرية اكتسبتها من عالم جورما وهو عالم يوازي عالم نورشا ولكن هناك فجوة زمنية كبيرة بين العالمين حيث أن العام في عالم جومار يعادل مائة عام في عالم نورشا والعام في جورما يساوي عشرة أيام.، أى أن اليوم في جورما يعادل عشرة أعوام من عالم نورشا.
ولكن من ذلك الرجل الذي تسبب في سجنك معنا ؟ سألت أوسان باهتمام ، اعتلت الحسرة ملامحها عندما تذكرت فعلته فقالت : إنه عدو مشترك لعالمي وعالمكما. إنه قائد إحدى عالم جورما وهى مملكة ماهيرا ، إنه عنصري ، قتل الكثير من نساء مملكته والممالك المجاورة ، كان يتزوج هو ورفاقه النساء غصبا لإنجاب الذكور منهن .
والمرأة التي تنجب الفتيات كانت تلقى في وادي زولا ، لقد تمردت عليه ولم أوافق على الزواج منه فقضى أن أهلك في ذلك الوادي. ولكن هناك ساحرة أنقذتني وساعدت في تهريبي إلى عالمكم فأصبحت الكاهنة ساري.
ألقيت الكثير من التعاويذ بين الحد الفاصل بين عالم نورشا ، وعالم عالم جورما ولكنه وجد ثغرة ما تمكن بسببها التسلل لعالمكما.
أمسكت الكاهنة ذراعي ماجلان وقالت برجاء: أنت الوحيد القادر على التصدي لجومار ورجاله ، أنت الوحيد القادر على إنقاذ كلا العالمين من طغيانه وأفكاره المجنونة ، إنه يريد أن يحكم كلا العالمين .
تنحنحت أوسان لتلفت انتباهما لها ثم قالت: ولكن كيف انتقل ماجلان لعالمي؟ ولماذا ؟
هزت الكاهنة كتفيها وقالت : هذا ما أريد أن أعرفه منك يا ماجلان ، أتذكر كيف جئت إلى عالم نورشا؟
عقد ذراعيه خلف ظهره ثم قال : لقد أخبرتني أمي قبل وفاتها أنني لست ولدها ولكنها تعهدت بتربيتي بعد أن وجتني بالقرب من عتبة باب منزلها ، حيث استيقظت في الصباح لتجدني بجوار منزلها.
فرحت بي كثيرا وتعهدت بتربيتي ولكنها وجدت تلك القلادة حول رقبتي ثم أشار لقلادة يرتديها كانت مخبأة تحت ملابسه فأخرجها.
خلعها ثم أعطاها للكاهنة التي تملكتها المفاجأة عندما رأت ذلك الرمز الذي يتوسط القلادة .
"الهجين الأول" صرخت بتلك الجملة ففزعت الطيور بداخل اللوحة فطارت متخبطة هنا وهناك . انتفضت أوسان فسألتها بلهفة : ماذا هناك ؟
أجابت بصوت مرتعش منفعل : إن ماجلان الهجين الأول إنه يحمل صفات العالمين ، ولكن مَن مِن والد*ك من عالم نورشا ومن مِن عالم عالم جورما ؟
زفر ماجلان بحنق ثم قال : الأمر يزداد تعقيدا ، لا أعلم شيئا عن حياتي . شردت ساري للحظات ثم قالت بلهجة حماسية : لقد وجدت الحل ، يمكننا أن نعلم كل شىء عنك.
سألتها أوسان بلهفة : وكيف سنعرف؟ أجابتها قائلة : بالسحر ومن خلال بضع قطرات من دم ماجلان يمكننا أن نعرف كل شىء عنه. ثم التفتت له وطلبت منه أن يستحضر شيئا من غرفتها بالمعبد. تلك النافذة التي كانت تعلم من خلالها أحوال عالمها .
استجاب لطلبها على الفور ، فأغمض عينيه للحظات مركزا تفكيره في استحضار ما طلبته ، وفي غضون لحظات تواجدت النافذة السحرية بين يديها. فتح عينيه ببطء ثم ابتسم عند رؤيته للنافذة.
كانت النافذة عجيبة حقا فهى كالنافذة الحقيقية دائرية الشكل يحيط بها حجر المرمر المصقول من ، تلفظت الكاهنة ساري ببعض الكلمات ففتحت النافذة مصراعيها تلقائيا . كانت النافذة بطول الشخص البالغ.
أمسكت الكاهنة كف ماجلان ثم أحدثت فيها جرحا صغيرا ؛ لتنفع بضع قطرات من دمه ، فوجهتها لداخل النافذة عندما أدخلت كفه حرم النافذة.
بدأ الفراغ الواصل بين مصراعي النافذة يتموج بألوان زاهية مختلطة ، وبالتدريج بدأ المشهد تنتظم أحجياته .
فكرة عمل تلك النافذة ومثيلاتها في عالم عالم جورما ،هى أن كل ما يحدث على أرضها يتحول إلى قطع صغير جدا تظل معلقة في السماء حتى يتم استدعائها بواسطة تلك النوافذ ، التي لا يملكها سوى الأمراء والملوك في ذلك العالم .
ولكن كيف يتم الاستدعاء ؟ الخلايا الجسدية لهؤلاء القوم مميزة، للغاية حيث تحتوي على ذرات صغيرة تميز كل فرد عن الآخر ، فعندما تحدث الأمور ، فإن خلايا أجسادهم تنسخ بشكل مستمر ما يحدث وتتحول تلك النسخ إلى ذرات صغيرة جدا معلقة في السموات.
وعندما يتم استدعاء مشهد ما يتم إدخال بعضا من خلايا الفرد المراد استدعاء المشاهد الخاصة به ، وفي الغالب يكون بعضا من دمه .
وفي حالة ماجلان فإن المشاهد التي تص*رها ستظهر من خلال النافذة منذ ميلاده وحتى دخوله عالم نورشا فقط ، لأن نظام نورشا يختلف تماما عن نظام عالم جورما.
فلا يزال عالم نورشا بدائي جدا مقارنة بما وصل إليه عالم جورما من تطور رهيب.
وهم لا يريدون سوى ما حدث له عندما كان في عالم جورما ، بدأت الأحداث بامرأة يبدو عليها إمارات التعب والوهن ، ذات بطن منتفخ يعتقد الرائي لها أنها حبلى ، وفي شهرها الأخير ؛ بل إنها على مقربة من الوضع.
كانت هيئتها تدل على أنها من عالم نورشا ، جميلة رغم ظهور علامات الاجهاد على وجهها ، انطلقت منها تأوهات تنم عن شعور بألم عظيم.
كانت محاطة بعدة أسلاك يتابع حالتها الصحية رجلا هيئته تشبه علماء عالم جورما ، يدخل جومار بكامل هيبته ، ليطمئن على طفله الهجين الأول ، شعرت الكاهنة ساري بالاشمئزاز عندما شاهدته يمرر يده الملوثة بدماء آلاف النساء فوق بطن تلك المرأة المسكينة ، كانت عيناه تلمع بكل شغف توقا لرؤية طفله الهجين بين عالمه وعالم نورشا.
فجأة انطلق صراخ من الأم وتأوهات عالية انتفض لها جومار الذي توترت عضلاته ، طلب العالم المتابع للحالة خروج جومار الذي اعترض على ذلك ولكنه انصاع لأمر العالم في نهاية الأمر وانتظر خارجًا.
يتبع...