أشرقت الشمس فوق أرض أونتاريا من جديد، بعد أن قضى سكانها ليلة رعدية ممطرة ، أضاء البرق ليلها احتفالا بالزيجات الجديدة . ترانيم الطيور المغردة بدأت ، استقيظ سكان حى (مورا مورا) على إثرها.
بدأت أشعة الشمس تلمس اللوحة وتتحرك تدريجيا حتى أضاءت النهار بداخلها ،استيقظ ماجلان فور ملامسة ضوء الشمس لعينيه ، التي فتحهما بسرعة. أدار رأسه يمينا ويسارا .
حدق مهلة خارج اللوحة لعله يدرك أين استقرت اللوحة بعد عناء رحلتها أمس. ولكنه تفاجأ باقتراب ظلا صغيرا نحوها يلثمها بل**نه فشعر ماجلان باشمئزاز عندما غمره ل**ب هذا الكائن، بطريقة ما عالم ما بداخل اللوحة متصل بما خارجها ولكن سجنائها يشاهدون ما بخارجها أما الآخرون فلا يرون سوى آخر مشهد توقفت فيه حركة سجنائها.
كان الكائن ذو فرو كثيف لامع أبيض اللون أقرب إلى الثعالب في الهيئة، وأقرب إلى الكلاب في الطباع . انتبه صاحب ذلك المخلوق المسمى (تاوا) لصوته الذي يطلقه عندما يجد شيئا غير مألوف له.
انطلق فتى يبلغ من العمر سبعة عشر ربيعا نحو صوت حيوانه الأليف ليتحقق مما وجد، ازداد عوائه أكثر عندما استيقظت أوسان وبعدها الأميرة ساري كما دار ذلك الحيوان حول اللوحة عدة مرات.
اقترب الفتى مايلو من اللوحة فرفعها على الفور وحاول تنظيفها برفق وحذر من ذلك التراب الذي تخلل زخارف إطارها.
كان المشهد الذي تحتويه اللوحة لا يزال كما هو :امرأتان ورجل يتكئون بظهورهم على قارب دون وجود نهر .
تأملها مايلو في حين كان حيوانه الأليف تاوا يعوى ويحرك ذ*له بعصبية واضحة أثارت دهشة وحيرة صاحبه.
ربت مايلو على ظهر تاوا برفق؛ لعله يهدأ وقال محدثا إياه : لا تقلق. إنها مجرد لوحة زيتية، يبدو أن المطر جرفها إلى هنا، ثم تساءل في نفسه، ولكن من أى مكان انجرفت أيتها اللوحة الخلابة؟
لاحظ ذلك الجزء الم**ور من إطارها ذو النقوش الرائعة والتي يسهل معرفة صائغها، فمن يحترفون تلك الحرفة وهى صناعة الأطر الخشبية قليلون جدا، ومن يتفنن فيها هكذا واحد فقط وهو جيرميا .
هكذا ظن مايلو أنه هو من صاغ تلك النقوش، لذا عليه أن يذهب في زيارة قصيرة لحي ناميرا من أجل إصلاح إطار اللوحة حتى لا يصيبها التلف.
وفي مكان آخر حيث ترك جومار العربة التي كانت تُقَلُّه ، كان هناك لصًا يبحث عن غنيمة ما ي**قها ليبيعها .
كان هذا اللص هو ديمرا وهو شاب طائش يهوى المغامرة والقتال، اتخذ من السرقة مهنة له ، لم يوفق في أى عمل تقدم له ، فهو لا يطيق العمل تحت إمرة أحدهم ، ولم يتمكن من إجادة أى حرفة بسبب طيشه وقلة صبره.
هذا دفعه إلى اتخاذ السرقة مهنة له، وجد في التخطيط للسرقة متعة تشبع غريزة المغامرة لديه.
فالشعور بالخطر لدى البعض له لذة خاص، يجعله دون وعى منه البحث عن الأخطار ومواجهتها .
هذا ما دفعه لاتخاذ السرقة مهنة له، فما يجده من أخطار في كل مرة ي**ق فيها جعله من أشهر اللصوص، وبالرغم من شهرته فحتى الآن لا يعلم أحد هويته الحقيقة .
لأنه بارع جدا في التخفي والتنكر، وكذلك قلب الأحوال رأسًا على عقب في أى مكان يريد أن ي**قه ، فمثلا في يوم من الأيام أراد أن يشعر بقمة الخطر. حيث يقوم بالسرقة في وضح النهار وأمام أعين الناس.
تنكر في زي امرأة عجوز ثم تظاهر بالاتكاء عل أحد الأوتاد التي كانت تمسك بالخيمة الكبيرة، والتي تظلل كل العربات التي تحمل البضاعة التي يعرضها أصحابها في السوق.
فك الحبل دون أن يلاحظه أحد ثم انطلق ، واصطدم بالوتد الذي سقط بدوره ثم سقطت معه باقي الأوتاد واحدا تلو الآخر.
مما أحدث جلبة كبيرة في السوق وسقطت الخيمة على الجميع ، واختلط الحابل بالنابل ، فانتهز تلك الفرصة ، وقام بسرقة أموال وجواهر الناس ، مستغلا انشغالهم برفع الخيمة عنهم ليتمكنوا من الخروج.
كان المشهد مضحكًا في ذلك اليوم ، ولأنه كان يعلم ضحاياه ، فلم يحتاج الأمر سوى بضعة دقائق حتى تم الاستيلاء على ما يريد سرقته.
شعر بكثير من المرح في ذلك اليوم ، ولكنه لم يشعر بالخطر الكبير ، وهذا ما ضايقه كثيرا.
عندما وصل ديمرا لتلك العربة التي تركها جومار كان يعلم جيدا أنها للكاهنة ساري مما أثار فضوله للتفتيش فيها ، كان من الواضح أنها خاوية على عروشها ولا يوجد بها أحد.
فتحها ، فتش فيها ؛ فوجد تلك الأداة التي ساعدت الكاهنة ساري في سجن ماجلان وأوسان بداخل اللوحة. لم يدرك ديمرا كنهها حينها ، ولكن لمعان المعدن الذي صُنِع منها سال له ل**به ، فقرر الاحتفاظ بتلك الأداة وصهرها ؛ للاستفادة من معدنها في حالة أنه لم يتمكن من بيعها.
وضعها في كيس جلدي صغير حيث كان حجمها يساوى حجم يده ، ثم دس الكيس في سرواله بمكان خفي لا يمكن أن يتوصل إلى أحد.
أكمل مسيره إلى حى ناميرا، ولكنه انتبه إلى اقتراب عربات تقودها الجياد من الغابة فاختبأ في أعلى شجرة بالغابة.
كانت تلك العربات تابعة لكهنة المعبد، الذين لاحظوا غياب الكاهنة الأولى ساري ؛ فتتبعوا أثر عربتها التي قادتهم لتلك المنطقة النائية.
قام مقتفي الأثر بالبحث عن آثار لها في كل شبر بالغابة ، تتبعوا الخطوات فوجدوا أن هناك بعضا منها للكاهنة والبعض الآخر لرجلين ، تنتهي خطوات الكاهنة ، وأحد الرجلين لخارج الغابة ، فتتبعوها حتى وصلوا لأعلى التلة حيث توقفت الخطوات هناك.
أدركتهم الحيرة في اختفاء آثار الأقدام ، أين اختفت الكاهنة؟ ومن ذلك الذي كان مرافقا لها؟ أخاطف هو؟ تساؤلات حلقت فوق رؤوس الجميع.
صعد أحد رجال الكهنة إلى تلك الشجرة التي توقفت عندها الخطوات، ولكن لم يجد هناك أحد ، كان ديمرا قد تنبه لوجود مقتفي الأثر ؛ فقام بالتنقل بين الأشجار مستخدما الفروع الطويلة حتى تمكن من الخروج من الغابة بأمان وبعيدا عنهم.
مرت ليلة العرس بأمان على الجميع ، عانقت السحب البيضاء أشعة الشمس الوردية فكان المشهد خلابًا ، شاهده جيرميا الذي استيقظ مبكرا كعادته ، كانت النافذة أمام فراشه ، والذي تقاسمته معه زوجته أوارا منذ ساعات.
كانت ليلة رائعة تذوق فيها رحيق الحب لأول مرة ‘ ففي مملكة جوانا تمنع القوانين ممارسة الحب إلا في إطار الزواج ، وتحت رعاية هارتيا التي تضمن للأزواج الحب الأبدى والاستقرار الأسري بين الزوجين مدى الحياة.
عاش سكان المملكة في رغد من العيش بسبب الاستقارا الأسري الذي تنعمت به المملكة أخيرا بعد زوال تلك ا****ة التي أطلقها سحرة جومار عليهم ؛ لبث الشقاق بين نفوس الزواج حتى يسهل التخلي عن زوجاتهم عندما يغزو جومار ورجاله عالم نورشا ويكون أسرهن بسهولة.
نزل جيرميا من فراشه ، مد ذراعيه المفتولتين ، لينفض عنهما ال**ل ، ثم اتجه إلى النافذة ، أزاح الستائر الحريرية البيضاء والمزخفة بقلوب وردية ؛ لتزيد من عاطفة الحب كلما يراها الزوجان.
فتح زجاجها، فدخلت أشعة الشمس الوردية لتصافح وجه زوجته التي لاتزال نائمة والابتسامة ، لم تفارق ثغرها الصغير منذ الليلة التي انقضت لتوه.
بدأت حواسها تنتبه لأشعة الشمس ، حيث أحست بشرتها الرقيقة الناعمة بدفئها ، كما انتبهت عيناها للضوء ، فبدأت تفتحهما ببطء وتكاسل.
انطلقت تثاءبات رقيقة من أوارا ثم نهضت بتكاسل حركت رأسها ؛ لكى تنفض عنها ال**ل ، اتجه نحوها زوجا جيرميا ؛ ليساعدها على النهوض من الفراش.
قالت برقة : ما أجمل شمس أونتاريا إنها من أكبر النعم التي حظينا بها ، ابتسم زوجها ثم قال: وأنا كثير الحظ لأن حياتي تشرق فيها شمسان ، أنتِ وشمس أونتاريا .
قالت بخبث : بل ثلاثة شموس تنير حياتك من الآن ، رفع حاجبه دهشة وقال: ثلاثة ثم فرك شعر رأسه مفكرا.
ضحكت أوارا وأشارت إلى بطنها : شمس طفلنا القادم ، مدَّ يده بسرعة ليضعها فوق بطنها ؛ ليتحسس الجنين الذي بدأ تكونه منذ ليلة أمس ، أشارت إلى السوار الملتصق حول يدها اليمنى ، والذي تحول لونه من الأبيض إلى الأحمر ، وهذا معناه أنها حملت بأنثى.
أما إذا تحول لونه للأزرق فيكون الجنين ذكرا ، أما التوائم فهى نادرة الحدوث في عالم نورشا ، لذا فكان السوار يتلون نصفه بالأحمر والأزرق إذا كان التوأم ذكرا وأنثى.
أما لو كانت التوائم إناث فقط أو ذكور فقط ، فكان السوار يتلون بلون واحد ، ولكنه يكون أكثر توهجًا.
فرح جيرميا كثيرا بذلك الخبر ، فهذا الجنين أول ثمار حبه والتي قطفها من زوجته منذ بضع ساعات ، والآن هو مسؤول عن شمسين عليه أن يرعاهما جيدا حتى ينعم بدفئهما مدى الحياة.
جال بخاطره سؤال كيف سيرعاهما؟ أو بالأحرى ماذا عليه أن يفعل لكي يقوم بدوره على أكمل وجه من أجل الحفاظ على أسرته.
سؤال لم يخطر بباله قبل ذلك ، حيث كان يعيش وحيدا بعد وفاة والديه منذ الصغر ، وقد تعهدت أخته برعايته حتى تزوجت وانشغلت بأسرتها عنه كثيرا خاصة عندما صار شابا قادرا على رعاية نفسه.
كانت تزوره بين الحين والآخر ، كان قليل الأصدقاء ، حتى ماجلان ليس لديه الخبرة في تلك الأمور بل إنه كان لعوبا ولا يميل إلى الاستقرار.
قفز إلى رأسه صديقه ماجلان كيف تقبل فكرة زواجه بتلك السهول كان في غاية السعادة في حفل الزفاف.
ماذا حدث لصديقه؟ هذا الذي كان يسخر من مشاعره لأوارا منذ أيام ، والآن ها هو يراه سعيدا بتلك الزيجة التي لم تكن على هواه.
لاحظت زوجته أوارا شروده ، وهى تصفف شعرها بعد أن ارتدت أجمل ثيابها لاستقبال جيرانها وأقاربها بعد قليل كما يجري العُرف في عالم نورشا.
كان جيرميا متكئا على النافذة شاردا في أمر صديقه ماجلان ، أخرجته زوجته من شرده باحتضانه من ظهره ، فانتبه لها فأدار نفسه ليرد لها عاطفتها بقبلة فوق جبهتها الناعمة الغضة.
سألته أشارد في أحد غيري؟ ضحك من غيرتها فأجابها : لقد تذكرت صديقي ماجلان ، لقد كان سعيدا جدا أمس وهذا أمر عجيب للغاية.
اندهشت من حديثه فهزت كتفيها وقالت : ولم العجب في ذلك ؟ عقد ذراعيه أمام ص*ره ثم قال : لو تعرفين ماجلان لتعجبتِ من أمره أيضا ، فهو لا يؤمن بالحب أو الزواج ، كيف هارتيا قبلت به زوجا وهو لا يكنز منه ولو قدرا يسيرا.
تأبطت أوارا ذراعه لتحثه على الخروج من الغرفة لكى يتناولان طعام الإفطار، قالت له: إن صديقتي أوسان أيضا حالها يبعث الدهشة ، فهى مثل صديقك لا تأبه بأمر الحب ، وكانت تسخر مني دائما عندما كنت أحكي لها عــ... ثم توقفت عن الحديث ، ليرسم الخجل أروع لوحة على وجهها الرقيق ، ففهم جيرميا باقي حديثها ، فضمها وقبل يديها بحنان بالغ.
رافقها جيرميا للمطبخ ؛ ليساعدها في تحضير الطعام ، بعد لحظات انتقلا إلى المائدة ، وأيديهما محملة بما لذ وطاب من أصناف جهزوها بمحبة وحب.
على صعيد آخر وفي منزل ماجلان كانت ليلة زفافهما خاوية من الروح حيث امتزج الجسدان فقط دون تلاقي روحيهما ، وكيف يحدث ذلك وقد سجنت روحيهما ووعيهما في لوحة زيتية مصيرها بين يدى مايلو الذي لا يعلم عن سجنائها شيئا حتى الآن.
انطلق مايلو من حيه إلى حى ناميرا من أجل البحث عن منزل جيرميا أشهر صانع في أونتاريا لصناعة الأطر الخشبية للَّوحات الزيتية .
كان يرافقه صديقه تاوا ذلك الحيوان الأليف الذي رأى في اللوحة ما لم تستطع عيون صاحبه من رؤيته.
تاوا رأى سجناء اللوحة يتحركون كأنهم أحياء على ع** صاحبه الذي رآهم بلا حياة فقط خربشات فنان ، أراد أن يصف مأساة ثلاثة أشخاص يبدو عليهم التيه والارهاق والتعب.
حمل مايلو اللوحة خلف ظهره بعد أن لفها بعناية بقطعة قماش تحميها من الأتربة وأشعة الشمس، كانت أشعة شمس أونتاريا تجاهد لتشرق على اللوحة ، ولكن قطعة القماش حالت دون ذلك.
كانت المسافة بين حى (مورا مورا) الذي يقطنه مايلو لا يبتعد كثيرا عن حى ناميرا الذي يقصده ؛ لذا آثر الذهاب سيرا على الأقدام مستمتعا بأشعة الشمس التي تبع على النفس الحب والتفاؤل.
دندن مايلو ببعض التراتيل الصباحية التي اعتاد كل الشباب والفتيات على ترتيلها صباحا ومساء ابتهالا لهارتيا حتى تباركهم بزيجات مناسبة لهم عندما يصلون لسن الزواج.
كان يفصله عنه سنة واحدة، وذلك أن سِنْ الزواج يبدأ في الثامنة عشر في أونتاريا ، في تلك الأثناء كان ديمرا قد وصل إلى أطراف الغابة بين حى ناميرا وحى مورا مورا حيث وصل إلى الطرف المؤدي لحى ناميرا.
انتبه الحيوان الأليف (تاوا) لوجوده فأطلق نباحه المعتاد عندما يلاحظ شيئا جديدا، بدوره انتبه مايلو فتفاجأ بشاب يهبط من شجرة عالية مستخدما أحد فروعها الطويل القوية ليهبط بسلام على الأرض.
تعرف ديمرا مايلو على الفور، فهما جيران ، مط مايلو شفتيه وقال بحنق : أنت ؟ ألا يمكنك ولو مرة واحدة تسير كمواطن أونتاري محترم . ضم مايلو ذراعيه أمام ص*ره وقال بسخرية : وممن تهرب هذه المرة يا فتى؟
ضحك ديمرا ثم هز كتفيه باستهزاء وقال : لا شىء ، إنها فقط رياضة الصباح. ثم لاحظ أن جاره يحمل شيئا خلف ظهره، فسأله بخبث : وأنت ماذا تهرب وراء ظهرك؟ توقف مايلو وقال ساخرا : إنها فقط رياضة الصباح ثم تركه وأكمل مسيره. ضحك ديمرا مرة أخرى ثم تركه ليتخذ طريقا مختصرا إلى حى ناميرا.
انتصف النهار، وصل مايلو أخيرا إلى حى ناميرا، وبدأ في البحث عن منزل جيرميا، سأل هنا وهناك حتى وصل إلى منزله ، كان يشعر بالحرج فقد علم لتوه أنه تزوج أمس