استقبل جيرميا رسالتها الخفية في صورة رعشة دافئة، سرت بأوصاله، فدغدغت حواسه وسجد لها قلبه وانحنت لها روحه.
اصطحبها لداخل منزلها وتغيب عدة دقائق قبل أن يخرج بمفرده،أغلق باب المنزل ثم توجه إلى منزله، كان ديمرا يراقبهما عن كثب،هز رأسه استياءً من أفعالها ثم تمتم بغضب: لن تهدئي حتى تخربي بيت هذا الرجل المسكين يا تمارا.
رغم أنه كان لصا ومخادعا إلا أنه كان يمقت بشدة خراب البيوت والزيجات،قفزت ذكريات طفولته إلى عقله ،تذكر كيف فرق أحدهم بين والديه عندما اتهم والدته بأنها تخون والده وهى بريئة ولكنه صدق هذا المدعي، كان ديمرا لازال صغيرا ولكنه كان يعقل تلك الأحداث ولم يصدق الرجل لأنه طول الوقت مع والدته فكيف لها أن تخون والده وهو يرافقها طول الوقت، لم يسأله والده ولكنه تجرأ وحاول أن يخبر والده بأنه يصاحب والدته كل الوقت وأنها بريئة ولكن والده لم ينتبه له وأخذته غيرة الرجال لقتلها على الفور.
استل خنجره بسرعة ودخل غرفتها وكانت تبتهل لهارتيا بأن لا يفرق بين زوجها في الحياة والموت وأن يموتا معا كما عاشا معا.
صرخ باسمها بغضب فانتزعتها الصرخة من صلاتها برعب؛ فانتفض جسدها الرقيق؛ ليقع أسيرًا لطعنات من خنجر آخر شخصٍ يمكن أن يفعل بها تلك الفعلة الشنيعة.
شعر بغصة تعتصر قلبه عندما تذكر والدته وهى مضرخة بدمائها ووالده يمسك بخنجره الذي تسيل منه دمائها الطاهرة، صرخ أماه ، صرخته رجت المنزل في ذلك الوقت، ض*ب والده بقبضته الصغيرة صارخا وناهرا إياه: لماذا صدقت ذلك الو*د؟ إن أمي بريئة ..بريئة قالها بصوت منتحب مختنق، لقد راودها عن نفسها ونهرته، كما هددته إذا لم يكف عن التحرش بها ،ستحكي لك وتجعلك تنهي شراكتك معه، لقد اتهمها زورا نكاية بها، لماذا قتلتها؟
لا بل أنا قتلتها أنا لم أقص عليك كل شيء ،كان يجب أن أحكي كل شيء حدث منذ أيام . ارتعشت يد والده فسقط الخنجر الدامي ، ثم سقط فوق جثة حبيبته التي ظلمها بتهوره وغيرته العمياء ، لقد استجابت هارتيا لصلاتها ولحق بها زوجها بعد وفاتها بدقائق.
صرخ ديمرا والداي .. رجت صرخته أرجاء الحي، فاندفع أحد الجيران للمنزل بسرعة ليفجع مما رأى ،دخلت زوجته خلفه فشهقت وصرخت صرخة النواح على المتوفى احتضنت الطفل المكلوم وحملته بعيدا ولكنه كان يركلها بقدميه حتى تتركه ،انفلت منها ولكن باقي النساء حالت دون عودته لمنزله مرة أخرى.
عاد ذلك الرجل شريك والده ليشاهد ماذا حدث؟ ليلمحه ديمرا الذي انطلق نحوه كحيوان شرس سريع انقض عليه بشراسة والكراهية تعمي قلبه ، صرخ في وجهه وقال: لقد قتلتهما لقد حرمتني من أهلي لن أتركك يجب أن تموت لتلحق روحك بالجحيم.
غرس أصابعه في رقبته وكادت أن تخترقها لولا تدخل الجيران، الذين انتزعوه بالقوة .
سعل الرجل كثيرا وشهق عدة مرات، ابتعد الرجل بسرعة ، وبعد ساعات نشر إشاعة بين الناس أن والدة ديمرا خانت زوجها مع أحدهم لذا قتلها لأنها دنست بيته بفعلتها المشينة ولم يتحمل الصدمة فتوفى فورا.
انتشرت الإشاعة بسرعة البرق،حتى اختنق بها ديمرا الذي لم يتحمل نظرات الناس له ومعايرتهم له ففر هاربا إلى الجبال النائية والتي تحيط بأرض أونتاريا، تلك الجبال التي ينفى إليها العصاة ومن يحملون قدرا من الكراهية والحسد.
إنهم منفيون بسبب مشاعرهم السلبية التي تعتبر ثغرة في درعهم الذي يحميهم من الأعداء.
هناك عاش ديمرا حتى تعلم الخداع والسرقة وغيرها من الشرور قررأن يعود لكي يبحث عن شريك والده الذي حرمه من الحياة الكريمة طوال تلك السنوات ومن إرثه.
ذكَّرته تمارا صديقة الطفولة بما فعله شريك والده به ، وأن التاريخ سيعيد نفسه مع أشخاص آخرين.
وهذا ما دفعه ليطرق بابها ليحذرها مما توشك أن تقع فيه، وهو التفريق بين جيرميا وزوجته التي لا ذنب لها ولا ذنب له أيضا.
كان منزل تمارا يخيم عليه الحزن ،حيث فقد شمعته التي كانت تضيئة فجدة تمارا كان قلبها يتسع للجميع، فأحبوها ولقبوها بالجدة الكبرى، يزورها الأزواج الجدد لكي يستقوا منها الحكمة، وكانت تمارا تنصت جيدا لنصائحها فيما يخص ب**ب قلب الرجل بعد الزواج.
ولكن تمارا نفذت تلك النصائح ،لتفوز بقلب رجلا لم يعد لها نصيب فيه، في الوقت الذي همَّ ديمرا ليطرق بابها ،زاحمه الكثير من الفتيات والسيدات اللاتي يرغبن في مواساة حفيدة الجدة الغالية.
شعر بالحرج فتركهن يطرقون بابها وأجلَّ ما كان يرغب في الحديث فيه لوقت آخر مناسب.
تذكر فجأة جيرميا وأوارا فهرع إلى منزلهما ليطمئن عليهما ،وليتأكد هل بثت تمارا سمومها في أذن ونفس جيرميا هذه المرة أم لا ؟
اقترب من منزلهما فوجد جيرميا يبدو عليه القلق، لم يفهم ماذا حدث؟ ولكنه سمع صراخا يشبه صراخ الوضع للسيدات. فاعتقد أن أوسان قد شارفت على وضع مولودها الأول.
أكد اعتقاده هرولة قابل الحي لمنزل جيرميا والتي استقبلها بتوتر واضح ، دخلا المنزل، فانتهز ديمرا تلك الفرصة ليتعرف على جيرميا من خلال عرض مساعدته له.
طرق الباب وبعد دقائق استقبله جيرميا الذي كان التوتر يرتسم على وجه بشدة،سأل جيرميا الطارق من هو وماذا يريد ؟ فأجابه ديمرا أنه أحد جيرانه ويريد عرض مساعدته حيث سمع صراخ زوجته وهو يعلم أنها على مقربة من وضع مولودها.
رحب به جيرميا فهو ليس لديه خبرة بما يخص ذلك لذا أدخله ، خرجت القابلة في تلك اللحظة والقلق يغطي وجهها وقالت بنفس لاهث: وضع الجنين خطير يجب أن أذهب للغابة؛ لكي أحضر بعض الأعشاب الهامة التي تساعد على قلب وضع الجنين لقد نفذت من عندي.
هز جيرميا رأسه نفيا وقال: لا تذهبي ، سأذهب أنا فقط قولي لي ما اسم تلك الأعشاب وسأحضرها لك.
كان ديمرا لديه حزام جلدي عريض يحتوي الكثير من الأعشاب فخلعه من حول خصره،ثم فرده على الأرض وقال لها : هل الأعشاب التي تحتاجينها موجودة بينهم؟
انحنت القابلة لتفحصها فقالت : نعم، تلك وتلك ،وأشارت لعشبتين ذات أوراق مفصصة صغيرة رمادية اللون، انتزعت صرخة عالية من أوسان القابلة فنهضت بسرعة ،لتحضر ال*قار الذي سيساعدها على قلب وضع الجنين ليكون الوضع سهلا عليها.
طلبت منهما أن يجهزا ماء دافيء ليسكن آلامها، هرع ديمرا إلى المطبخ بعد ما استأذن جيرميا وقام بتسخين إناء كبيرا من الماء،في حين جلس الزوج بجوار زوجته ليجفف لها عرقها.
كانت أوارا تتألم كثيرا ،وكان قلب زوجها ينتفض مع كل صرخة ألم تطلقها، بالرغم من أنه منذ دقائق ،كان مشحونا بالغضب تجاهها ،إلا أن ذلك الغضب انفض عن قلبه، كغبار تذروه الرياح وتلاشى بمجرد أن هبَّت نسمات الحب مرة أخرى في قلبه.
هذه المرة تمكنت نسمات الحب الرقيقة التغلب على رياح الغضب العاتية، فهل ستتغلب نسمات الحب في كل مرة يجتاح الغضب قلبه؟ أم ستن**ر نبتة الحب مع عواصف الغضب التي ستكرر لاحقا؟ النفوس يصعب التنبؤ بمكنوناتها فلننتظر ونرى ماذا يمكن أن يحدث؟
استغرقت عملية وضع أوارا لمولودها الأول عدة ساعات حتى وضعت زهرة جميلة تشبه كثيرا أمها وتحمل الكثير من قوة أبيها.
ارتسمت آيات الراحة فوق جبين الأم التي ارتخت عضلات وجهها أخيرا، بعد أن كان الجهد والألم يرسم طرقا غائرة على جبينها الغض منذ قليل.
قامت القابلة بتجهيز الطفلة ولفتها في قطعة قماش ناعمة مخصصة للأطفال الرضع، ثم أعطتها لوالدها الذي خرج بها ليراها ديمرا ذلك الرجل الذي يدين له بعمره حيث أنقذ زوجته وطفلته من خطر محدق كاد أن يودي بحياتهما.
ناول جيرميا طفلته لديمرا حتى يراها،حملها برفق ثم قبلها فوق جبينها الوردي،تثاءبت برقة ابتسم لها الاثنين.
سأله ديمرا : ماذا ستدعوها ؟
أجابه جيرميا: بل أنت ستختار اسم لها ،فأنت من ساهمت في إنقاذها.
ابتسم امتنانا لوالدها وقال بحب جارف : حسنا فلنسميها مورا على اسم والدتي.
ضحك جيرميا وقال : إنه نفس الاسم التي كانت ستطلقه زوجتي إذا كان المولود أنثى فهى تحب زهور مورا مورا كثيرا.
خرجت القابلة والحبور يملؤ وجهها الممتلىء بالتجاعيد، أنقدها جيرميا بعضا من النقود المعدنية مقابل جهدها مع زوجته.
أوصته بأن تلتزم الفراش يومين وعليه أن يلجأ،لأخته لتساعده في الاهتمام بالطفلة حتى تستعيد أمها عافيتها.
عرض ديمرا عليه بالذهاب لأخته لإبلاغها فوافق جيرميا على الفور كما طلب منه أن يذهب لأهل زوجته أيضا ليخبرهم ، أخبره بمكان أخته وأهل زوجته فانطلق على الفور.
اجتاح ديمرا شعورا قويا بالمسؤولية تجاه أسرة جيرميا، خاصة بعد احتضانه لطفلته مورا.
تهللت أسارير أخت جيرميا عندما علمت بأمر وضع زوجة أخيها وكذلك تهللت فرحا أسرتها بقدوم مورا لتزين عائلاتها.
في ذلك اليوم ولدت فرحة ميلاد قاسمها حزن فراق جدة تمارا، اختلطت مشاعر سكان حي ناميرا ما بين حزن وفرح.
حيث كانت نساء وسيدات حي ناميرا يَزُرْن تمارا نهارا؛ ليواسونها على وفاة جدتها، ويذكرون لها حكايا عن فضل جدتها على الجميع ،لعل تلك الحكايات تهون عليها فقدانها، وفي المساء يَزُرن أوارا؛ ليهنئونها على مولودتها الجميلة ويقصصن لها تجاربهن في رعاية الأطفال الرضع.
............................
في منزل أوسان وماجلان
كان جسدي أوسان وماجلان يعيشان كأى زوجين ، ولكن بلا وعيهما فكانت تصرفاتهما وسلوكياتهما آلية تماما.
صارت أوسان حبلى قبل وضع أوسان بعدة أسابيع، بدأت تظهر عليها علامات الحمل المعتادة من غثيان وإرهاق وتعب، كان سوراها قد توهج باللون الأزرق أى أنها حبلى في ذكر.
داخل اللوحة لم تنتبه أوسان الصورة المنع**ة من جسدها لتوهج سوارها،فأوسان داخل اللوحة متصلة بطريقة ما بجسدها خارج اللوحة.
بدأت تشعر هى الأخرى بالغثيان فغابت عن الوعي وسقطت أرضا، صرخت الكاهنة ساري لتستنجد بماجلان الذي كان مشغولا في صيد حيوان بري ليكون طعاما لهم.
انتبه لصرختها ماجلان وكذلك الحيوان الذي كان سيصطاده،فشعر بالضيق وتمتم:لقد ضاع طعام الغداء.
هرع إليهما ليجد زوجته غائبة عن الوعي تحتضنها الكاهنة ساري،انحنى ماجلان وسألها بلهفة :ماذا بها؟
هزت رأسها بأنها لا تعلم، نظر جوله فوجد زهرة ذات رائحة فواحة فقربها من أنفها لعلها تستفيق.
كانت رائحة الزهرة نفاذة جدا فاستفاقت أوسان على إثر عطرها، سعلت بسبب دخول حبوب لقاحها الكثيفة أنفها التي تحسست منها.
لاحظت الكاهنة توهج سوار أوسان وقالت بلهفة : انظر سوارها يتوهج إنها حبلى، إنها تشعر بما يشعر به جسدها خارج اللوحة.
فرح ماجلان بالخبر، فاحتضنها وقبلها كثيرا، احمر وجه الكاهنة حيث أثارت تلك العاطفة والقبلات شيئا ما بداخلها، حنينا أو ذكريات دفينة تخص رجلا ما ، لا تعلم ولكن ما فعله ماجلان مع زوجته أيقظ بداخلها عاطفة طمست بداخل عقلها عن عمد.
بدأ وعي الكاهنة ساري يرتبط بجسدها خارج اللوحة ، بدأت تشعر بتلك الحيرة وذلك التخبط الذي انتابها منذ أن خ*ف جومار جسدها، وحبس وعيها في تلك اللوحة.
تغير المشهد في اللوحة عما كان آخر مرة، في اليوم التالي لوضع أوارا طفلتها، حضر مايلو لمنزل جيرميا من أجل لوحته التي انشغل عنها بسفره المفاجىء لإحدى المقاطعات الحدودية لأرض أونتاريا.
لم يكن يعلم بعد بقدوم طفلة جيرميا، طرق باب منزله ففتح له الباب ديمرا الذي كان يزور صديقه الجديد جيرميا.
انزعج مايلو عندما شاهده فتراجع للخلف وتملكته الحيرة لحظات، ابتسم له ديمرا وقال له مرحبا: أهلا بك، إذا كنت تقصد منزل النجار جيرميا فهو بالداخل، خرج جيرميا ليقابل زائره.
دعاه جيرميا للدخول، فاستجاب لدعوته، تبعه ديمرا للداخل أيضا، انطلق بكاء الصغيرة مورا لتعلن عن وجودها، فابتسم مايلو وقال: لقد صرت أبًا بهذه السرعة مبارك عليك،ثم سأله عن لوحته فقال: وماذا عن لوحتي هل أصلحت إطارها ؟
أومأ برأسه إيجابًا وقال: نعم ، لحظة سأحضرها حالا.
لم يلحظ جيرميا تغير مشهد اللوحة بعد، دخل جيرميا الغرف ثم اعطاها لمايلو الذي نزع عنها تلك قطعة القماش التي كانت تغطيها.
نظر إلى الإطار الذي تم إصلاحه فابتسم ، ولكنه عندما نظر للمشهد داخل اللوحة تغيرت تعابير وجهه التي كانت تنم عن الرضى إلى سخط واضح، نهض من مجلسه وقال محتدا: إنها ليست لوحتي فالمشهد الذي بداخلها لم يكن هكذا، لقد تغيرت وضعية من بداخلها،ثم نظر بحيرة إلى جيرميا وسأله: كيف فعلت ذلك إن ما بداخل اللوحة لهم نفس الهيئة الخارجية نفس الملابس ونفس الملامح ولكن كيف عدلت من وضعية وقوفهم في اللوحة؟
أخذ منه اللوحة والدهش ترتسم على وجهه ثم هز رأسه نفيا: أنا لم أغير شيئا ، ولا أعلم كيف حدث ذلك؟
في تلك اللحظة تسربت أشعة الشمس من نافذة المنزل لتلقي بأشعتها السحرية على خلف اللوحة لتكشف سرها ،حيث ظهرت عبارات وخطوط لاحظها ديمرا الذي كان يجلس في مواجهة ظهر اللوحة.
فصاح قائلا: لحظة يا سادة، انتبه له جيرميا ومايلو فوجها ناظريهما له وقال جيرميا: ماذا هناك؟
أشار ديمرا لظهر اللوحة تحت أشعة الشمس وقال: انظر هناك كتابة ما خلفها تظهر عندما تلامسها أشعة الشمس.
أخذ اللوحة مايلو وقلبها ليواجه ظهرها أشعة الشمس فظهرت كتابات تشبه التي تنتشر على جدران معبد هارتيا ولكنه لم يتمكن أحد منهم من قراءتها.
في تلك اللحظة دخلت أورارا زوجة جيرميا ،تحمل طفلتها فوق أحد ذراعيها وتحمل صينية بها مشروبات لضايفة ديمرا ومايلو باليد الأخرى.
أسرع ديمرا إليها ليحمل الصينية عنها ، فسألت : ماذا هناك؟ أشار لها زوجها لتأتي لترى تلك الكتابة المقدسة.
حمل عنها زوجها الطفلة ثم أعطاها اللوحة ،تعرفتتها على الفور وقالت: لقد تعلمت الكتابة المقدسة، إنها تقول: أن تلك اللوحة هى مدينة نيجاتيفيا حيث ينفى إليها كل من اعترض على اختيار هارتيا، حيث تعلق الروح فيها إلى الأبد ويبقى الجسد بلا روح ، يتحرك كجذع شجرة أصابها الموت.