قال لها نصف الحقيقة وجَمَّل باقي الأحداث،مط شفتيها وقالت: ولكني لا أذكر أي شىء مما حكيت، تن*د بقوة ثم اقترب منها وربت على وجنتيها لأول مرة برفق منذ لقائها به ، بدأ يعاملها بحنان حيث رق قلبه لها عندما لاحظ الشبه الكبير بينها وبين زوجته المتوفاة ؛فقد ذكرته بها كثيرا خاصة في براءتها .
اقترب من أذنيها وقال بلهجة أقرب للهمس : عزيزتي لقد تعرضت لحادث في رأسك ثم أشار لجبهتها، حيث كان هناك جرحًا غائرًا فيه تجمعات متجلطة من الدماء، لم يسعفه الوقت ليضمده لها ، ثم أردف قائلا: في طريق عودتنا تعرضنا لحادث وقد غِبْتِ عن الوعي حتى أحضرتك لملاذ آمن.
بدت الحيرة على ملامحها الرقيقة وقالت: ولكن لماذا هناك زوجين يشبهوننا؟ حكَّ جومار رأسه بقوة ثم هز كتفيه : لا أعلم ولكن علينا أن نراقبهما لعلَّنَا نجد في ذلك الجواب الشافي لحيرتنا.
تثاءبت ساري بقوة معلنا بذلك حاجتها الشديدة للنوم، لذلك بحثت حولها عن مكان مناسب لتلقي بجسدها عليه فلم تجد؛فشعرت بالاحباط، جلس جومار على الأرض ومد رجليه وأشار لها لكى تجلس بجواره،رفعت فستانها قليلا ثم جلست،فأحاطها بذراعيه وهمس لها: ستكونين ضيفتي الليلة ثم أسند رأسها على ص*ره العريض،استسلمت ساري للنوم بعد ما هدأت أنفساها عندما عادت دقات قلبه تعزف من جديد ألحان الحب.
مرَّت تلك الليلة بسلام، بدأت البرودة تتبدد بعد سطوع الشمس ذات الضوء الأزرق،كان الضباب الكثيف سببًا في منع وصول أشعة الشمس إلى عالمهم لذا كانت البرودة التي تغلب على طقسهم طوال العام.
نجحت بعض الأشعة في التسرب خلال ذلك الضباب لتضىء الكهف الصغير الذي بات فيه جومار وساري ليلتهما أمس.
تنبه جومار لشمس الصباح فاستيقظ على الفور، لاحظ استمرار ساري في النوم،مسح كفه برقة على رأسها التي اتخذت من ص*ره وسادة لها.
تنبهت حواسها له ففتحت عينيها برفق ثم تثاءبت برقة دغدغت قلبه الذي انتفض عندما لفظت اسمه .
نادته بعذوبة: جومار،أنت هنا، ابتسم لها وقال : نعم ، لقد لاح نور الصباح ،وحان وقت الافطار،ويجب أن أخرج لكي اصطاد شيئا ما؛لنتناوله.
نهضت من مجلسها بخمول ثم أخذت شهيقا قويا تملأ به جوفها لتجدد نشاطه،عدل جومار من هندامه وفحص سلاحه وهو عبارة عن سيف طويل نصله ينكمش ويتمدد حسب رغبة صاحبه،كما يتوهج فقط عندما يمسكه جومار ،وهذا التوهج يجعل جومار يندمج مع سيفه الذي يصبح جزء منه،هذا السيف من تقنيات مملكة ماهيرا التي اشتهرت بصناعة الأسلحة.
كانت ساري تتابعه باهتمام وهو يفحص سلاحه،التفت إليها ثم أشار بسبابته لها محذرا: لا تتركي الكهف ، لن أغيب.
هزت رأسها بالموافقة تبعتها ابتسامة عذبة،تركها جومار الذي هبط عدة درجات صخرية انحدرت من مدخل الكهف ،ثم استقام الطريق أمامه الذي كان ممهدًا بعناية.
كل الطرق بين الكهوف والبيوت في مملكة ماهيرا ممهدة،قابل في طريقه ذلك الكهف الذي تواجد فيه مباشرة بعد سقوطه في الفجوة الزمنية،لمح خروج شبيهه وزوجته المتوفاة يخرجان من الكهف.
كانت تردي فستانًا زهري اللون مزخرفًا بزخارف مموجة متدرجة، ذلك الفستان أثار في نفسه شعور بالرهبة والتشاؤم ،انقبض قلبه فجأة بل شعر بغصة تجتاحه،لم يعلم سبب ذلك ولكن ما حدث فيما بعد فسر له ذلك الشعور المقبض.
كانت زوجته تتأبط ذراع شبيهه في سعادة بالغة، ولكن تلك السعادة تبددت عندما ظهر ذلك الطائر الضخم المتوحش في السماء فجأة، كان جناحيه سميكين مغطاة بالقشور العريضة فضية اللون.
ذو رأس ضخم وأنياب حادة وأنف ضخم ينفث منها النيران والذ*ل طويل مدبب النهاية وكثير الأشواك الصلبة الكبيرة سوداء اللون.
رفرف بجناحيه بقوة ثم نفث نارا بالقرب منهما، اختبأت الزوجة خلف شبيه جومار الذي رفع سيفه فتوهج على الفور،دفع زوجته بقوة لتدخل الكهف حتى تكون بأمان فانصاعت له ، وكانت ترمقه بعيون تع** نار ذلك الوحش بداخلها،فتبددت نظرات السعادة إلى خوف ورعب في لحظات مقيتة .
بارز شبيه جومار الطائر بكل قوته ولكنه أصيب بجرح بواسطة ذ*له القوي،فطرحه أرضًا،فانطلقت صيح رعب من قلب الزوجة الملتاعة. انتبه لها الطائر الذي ترك الزوج ؛ليتجه لباب الكهف،تسمرت الزوجة في مكانها واختنق صوتها،كان الطائر مصرا على الإمساك بها.
قاوم الزوج دوارًا شديدًا عصف برأسه؛ لينهض لينقذ زوجته ولكنه لم يتمكن من ذلك واقتنصها الطائر الوحش ببراثنه ثم طار بها بعيدا.
انطلقت قوة فجأة في عروق الزوج وانطلق يجري خلف الطائر ملوحا بسيفه ولكن الدوار يزيد، شعر بالأمل عندما شاهد قافلة من الرجال والنساء والاطفال ظهرت في نفس الطريق الذي طار فيه الطائر الذي خ*ف زوجته لتوه.
ظن خطئا أنهم سينجدونها ولكنه لم يجد منهم سوى الخذلان المهين،طلب من الرجال مساعدته في إنقاذ زوجته من الطائر الذي كان يطير على ارتفاع منخفض حيث نجح الزوج في إصاب ذ*له قبل أن يترنح.
كانت إصابة ذ*له أثرت سلبا على قدرته على الطيران عاليا،وكانت تلك فرصة لكي يسقطوه وينقذوها، ولكنه خذلوه، نظروا لزوجاتهم وأطفالهم، لذا قال كبيرهم : إنا لنا نساء وأطفالا إن ساعدناك سيهلكون دوننا،ثم انصرفوا مهرولين مبتعدين عن طريق الطائر الذي كان ينفث نارا هنا وهنا ليبعدهم عن طريقه وقد نال مأربه.
صرخ فيهم الزوج الذي لم يستطع الوقوف على قدمه أكثر من ذلك فقال بغضب هادر: أيها الجبناء الحقراء سألقنكم جميعا درسا لن تنسوه أبدا.
.......... وقد كان .......
تلك الذكرى لم تحدث مطلقا ولكنها كانت نبوءة مستقبلية ستتحقق بطريقة ما في المستقبل،
بدأ كيان جومار يتزلزل عندما رأى شبيهه م**ورا ذبيح الروح هكذا، كان قلبه يرتجف رعبا على الزوجة التي خ*فها الطائر المتوحش لتوه.
طار بعيدا وكان قلب جومار يختنق شيئا فشيئا وغصة تعتصر قلبه،فرغ المكان إلا من رجل خارت قوته واستسلم لغيبوبة عميقة،هرع جومار إلى شبيهه لينقذه، ولكن حدث شىء عجيب،عندما حاول الامساك به لم يستطع، أو بمعنى أصح كان يمسك بالفراغ، ثم تبددت صورته وتبخرت،جفل جومار وتراجع للخلف فور رؤيته تبخر شبيهه.
ملكته حيرة هل ما رآه حقيقة أم خيال؟ صداع رهيب يعصف برأسه، نفس الصداع يمزق رأس ساري، لمحات وصور متقطعة ضبابية تتخبط بذاكرتها.
شعرت بدوار كبير تخلله صوت رخيم وموسيقى عذبة تشق الذكريات المتخبطة لتسيطر على عقلها،لم يتحمل جهازها العصبي تدفق كل تلك الذكريات العنيفة،فانهارت وخارت قواها لتسقط طريحة الأرض.
على الرغم من أن المسافة بينه وبين الكهف بعيدة إلا أن قلبه شعر بسقطتها،فقاوم بشدة دوار رأسه ثم قطع المسافة بسرعة ولهفة تتناقض مع قوته الخائرة.
وصل للكهف أخيرا ففزع عندما رأى ساري غارقة في غيبوبة،أمسك كتفيها بقوة،ثم قال بصوت متحشرج: ساري لا تموتي أرجوكي ثم صرخ باسمها ساري.
فقد وعيه لتوه هو الآخر،ليبدأ كل منهما رحلته الخاصة لتذكر ما نسياه،ومعرفة الحقيقة كاملة،الكثير من المفاجآت والذكريات المطموسة عمدا سيتم كشفها في الأحداث القادمة.
ولكن الآن نعود إلى حاضر عالم نورشا وجورما لنرى مصير أبطال الحاضر.
منزل جيرميا
مرت أسابيع على زواج جيرميا وأوارا،ذاقا فيها آيات الحب، ولكن كحال أي شيء دوام الحال من المحال،خاصة بعد عدة زيارات من تمارا لهما،بدأ جيرميا في التعلق بها، خاصة في الشهور الأخيرة من حمل زوجته أوارا التي بات جمالها باهتًا بسبب الحمل.
في الوقت التي كانت فيه تمارا تزداد جمالا يوما بعد يوم، كانت تمارا تأتي لزيارة أوارا بحجة مساعدتها في الأعمال المنزلية. كانت أوارا ساذجة عديمة الخبرة، لا تدري شيئا عن كيد تمارا لها.
استغلت فرص تعب أوارا في الشهور الأخيرة من الحمل، واختصت نفسها بأمور المطبخ فهى تعلم جيدا أن نقطة ضعف جيرميا هى الطعام ،حيث أنه عاش عازبا لفترة طويلة ولم يذق الطعام المنزلي كثيرا.
كانت تراه كثيرا يشتري الطعام كما أن جيرانه المتزوجون كانوا يدعونه كثيرا للغداء على موائدهم.
لذا كانت تنتبه كثيرا لدروس الطهى التي كانت تدرس للفتيات في مدارس أونتاريا،حيث أن هناك مدارس متخصصة لتدريب الفتيات المقبلات على الزواج ،على الأعمال المنزلية جميعها.
كانت أوارا زميلة لها في نفس المدرسة ولكنها كانت تهوى الحياكة وصناعة الوسائد ، لم تكن تهوى الطهى كثيرا تعلمت فقط بعض الوصفات البسيطة، على ع** تمارا التي تعلمت كل شىء فهى تعلم جيدا أن رجال أونتاريا يرون جمال زوجاتهم من خلال طهيهن وذوقهن في تنسيق المنزل وغيرها من الأعمال المنزلية.
رجال أونتاريا يؤمنون بأن اتقان النساء للأعمال المنزلية لهو الكنز الذي يتمنى وجوده في زوجته التي اختارتها الأقدار له.
بدأ جيرميا يشعر أنه ليس محظوظا في زيجته ،وبدأ في عقد المقارنات بين أوارا وتمارا،بين مشاعره تجاه أوسان التي كانت جارفة ثم بدأت تخبو شيئا فشيئا.
لم تشعر أوارا بتحول مشاعر زوجها تجاهها بسبب تعبها وكانت دائمة الشكوى،تنام أغلب الأوقات لم تعد تهتم به ،هكذا رآها جيرميا لم تعد تهتم،تلك الفكرة نجحت تمارا في غرسها دون أن يشعر،فذلك الحديث الذي دار بينهما منذ أيام كان الشرارة الأولى لإعراض قلبه عن زوجته بعد كل هذا الحب الذي كنَّه لها منذ سنوات.
في ذلك اليوم كان جيرميا يتسوق يشتري ما يحتاجه المنزل من طعام وكذلك بعضا من الخشب اللزم لصنع المشغولات الخشبية ، لحقت به تمارا على الفور لتبث بعضا من سمومها في نفسه.
تظاهرت بشراء بعض الأشياء من السوق ثم تظاهرت بأن تلك لبضائع لا تعجبها قالت بصوت يسمعه من في السوق مما لفت انتباهه لها فقد علم من صاحبة هذا الصوت الشجي.
هرع إليها فسألها بلهفة : هل ضايق أحدهم؟ تظاهرت بالاندهاش عند رؤيته ،فقالت برعونة : ومن يجرؤ بمضايقتي وأنا في حماية سيد الرجال ثم أطلقت ضحكة أنثوية جذابة خفق له قلبه ونسي ما كان سيشتريه.
رافقها لخارج السوق بعد ما اشترت بعض أثواب القماش التي أعجبته لونها والتي دفع ثمنها بطيب خاطر، وفي طريق عودتهما صادفا بيتا جميلا خرجت منه سيدة حبلى يرافقها زوجها تودعه وتضع له وشاحه حول رقبته في لمسة حنان لم يلحظ جيرميا هذا المشهد حيث كان هائما في قوام تمارا الممشوق فأخرجته من هيامه ولفتت انتباهه لذلك المشهد بقولها: انظر تلك امرأة أصيله فبرغم أنها حبلى ويبدو أنها في الشهور الأخيرة إلا أنها تهتم بأدق تفاصيل زوجها حتى الوشاح لم تتركه يرتديه بنفسه، يا له من محظوظ.
زاغت عينا جيرميا وشرد قليلا فقد تذكر حظه التعس الذي أوقعه في زوجته المهملة التي لا تفقه في شئون الزواج سوى حياكة الوسادات الأنيقة فقط.
ولا تهتم بأدق تفاصيل حياته كباقي الزوجات مثل تلك السيدة العظيمة إنها نعم الزوجة.
ابتسمت تمارا في قرارة نفسها فتلك النظرة التي تطل من عيني جيرميا تنبيء بشجار عنيف سيحدث بينه وبين زوجته المهملة كما أوحت له تمارا منذ قليل.
وصلت تمارا منزلها برفقة جيرميا الذي أشار لمنزلها قائلا: يبدو أن هناك خطب ما بجدتك . أدارت رأسها تجاه منزلها خفق قلبها بقوة عندما شاهدت الجيران يحملون جدتها فوق نقالة والقلق مرتسم فوق جباههم.
أسقطت اللفة التي كانت بيدها لتمسلك فستانها وتسابق الريح حتى وصلت لجدتها ،صرخت باسمها، كانت كالتمثال وافتها المنية منذ لحظات.
بكتها بحرقة وبعيون زائغة غارقة في دموع الفراق ودعتها للأبد، كانت لها سندًا بل كانت كل شيء، والآن ذهب كل شيء.
انكبت فوقها تبكيها جذبها جيرميا برفق محاولا تهدئتها بإبعادها عن جثة جدتها،رفع الناس نعشها لتوصيلها إلى معبد هارتيا حيث يتم تطهير نفسها وقلبها وروحها من إثم الكراهية والحسد إذا وجد بها.
فروحها لن تصعد للسماء وتنعم بالجنة إلا إذا كانت صافية غير مشوبة بأى شعور سيء كالكراهية والحسد. كانت متشبثة بنعشها بقوة ولكن جيرميا رفع أصابع يديها برفق من النعش، لتتركه يذهب بسلام، فاستسلمت ليده التي أمسكتها بقوة، كأنها ترسل له رسالة خفية مفادها : لا تتركني أرجوك، فلم يتبق لي في الحياة سواك.
يتبع...