حلقة -18- وكان العفو بين المحبين رسولا

1536 Words
بعد أن وصل المنطاد لإرتفاع معين، توقف الحبل عن التحرك فوق تلك البكرة،لاحظ دومار جسورا معدنية ضيقة تصل بين قمم الجبال البركانية الخامدة، تساعدهم على التنقل بين الأحياء، التي قسموها حسب الجبال البركانية الخامدة، فكل جبل بركاني خامد يمثل حيا سكنيا تطوف المناطيد حوله بحركة دائرية بطيئة تكاد لا تلحظها العين المجردة، كان المساء قد حل على تلك المملكة العجيبة، كلما مر الوقت على دومار فيها ازداد انبهاره بها، كان أكبر سؤال يراود نفسه، كيف لهؤلاء أن يَحْيَوْنَ هكذا في خطر دائم؟ وكيف صنعوا تلك الحضارة من الرماد؟! كانت تلك التسؤلات تطل من عيني دومار خلف قناعه الذي يساعده على التنفس بسهولة في ظل الجو المسمم بالغازات السامة، أشار العالم ساجا إلى ضيفه دومار لكى يخرج من المنطاد لينقلا إلى منطاد آخر أكبر، وهو مقسم لغرف صغيرة تتسع لفرد واحد. كان اللون الغالب على الغرف هو لون الحمم بدرجاتها المختلفة ما بين الأحمر والبرتقالي، والرسومات والزخارف، تحكي تاريخ مملكة ماندا على جدرانها،كانت غرف المنطاد معمل أبحاث كبير،يضم الكثير من الأدوات والأجهزة العجيبة،التي لم يفقهها دومار،كانت إحدى الغرف عبارة عن صوبة لانتاج نباتات تصلح لضيفه،كان العالم ساجا يحلم بأن تصلح بلده لاستقبال سكان الممالك الأخرى، كان يمقت تلك العزلة التي فرضت عليهم منذ عصور. أخيرا ستاح لهم الفرصة في استضافة سكان الممالك الأخرى، فتلك الخضر والفاكهة تصلح لهم، فهى زرعت في صوبة تنعزل عن الغازات السامة المنتشرة في الجو. جهز ساجا مائدة بها مختلف الفاكهة والخضر،ليس كرمًا منه، بل ليجرب تأثيرها على جسد ضيفه دومار الذي تضور جوعًا ف*ناول الطعام بلهفة ودون أن يهتم هل تلك الأطعمة آمنة أم لا؟ كان ساجا يراقبه بعدسة عالم حريص أن يسجل كل شيء عن الحالة محل التجربة، فرمق دومار بنظرات جانبية دون أن يلاحظه دومار الذي انتهى من تناول وجبته بكل سعادة. تثاءب دومار إعلانا منه على رغبتة ببعض الراحة، رافقه ساجا إلى غرفة معينة يتوسطها فراش معدني بارد يعلوه بعض الأعشاب الغضة الطرية. استسلم للنوم، وضع ساجا منوما في إحد الثمرات لكي يجري تجاربه على دومار دون أن يشعر، أوصل جسده بعدة أنابيب رفيعة مجوفة، كانت أنبوبة رفيعة جدا تسحب بعضا من دمه. استقبل ساجا الدم الخارج من تلك الأنبوبة الرفيعة بقنينة صغيرة حبسن الدم بداخلها. أخذ منها بضع قطرات ليضعها في طبق طويل به العديد من الحفر الصغيرة ،وضع بكل منها نقطة دم ، ثم وضع مواد كيميائية مختلفة لكى يدرس خصائص دم دومار وتفاعله مع الغازات السامة في مملكة ماندا. انتهى ساجا من الاختبارات المعملية على جسد ضيفه دومار، جلس على ذلك الكرسي الهزاز ليسترخي ويرتب أفكاره، ولكن قطع تفكيره، صوت حراس الملك الذين أمروه بالمجيء معهم للمثول أمام الحاكم، وأن يرافقه ذلك الشخص المجهول الذي رصده حراس الحدود منذ قليل. شعر ساجا بالقلق، حيث أنه دوما على خلاف مع الحاكم الذي يعارض تجاربه التي لا يرى أى نفع لها للمملكة. لم يجد مفرًا من مواجهة الملك، وإقناعه بأهمية تجاربه التي تسمح للغرباء بزيارة مملكتهم والتجارة معهم.  استأذنهم لكي يحقن ضيفه بعقار يجعله يستيقظ لكي يسهل من التنقل معهم والذهاب إلى القصر. أذن له كبيرهم الذي أمر بمرافقة أحد الحراس له؛ حتى لا يقوم بأى خدعة، استفاق دومار الذي شعر بالرهبة من هيئة الحراس ولكن ساجا ابتسم له وربت على كتفه لكى يطمئنه. كان سكان الممالك الثلاث يتحدثون نفس اللغة ولكنهم حرفوها إلى لهجات تميز كل مملكة عن الأخرى وذلك قبل تفرقهم بسبب تلك الكارثة الطبيعية التي لحقت بعالمهم. وصل الجميع للقصر بسرعة من خلال تلك الجسور المختصرة التي تصل بين الأحياء وبعضها البعض. كان القصر عبارة عن منطاد كبير ذو طابقين ، الطابق الأول عبارة عن قاعة كبيرة يتوسطها عرش الملك،فيها يدبر شئون المملكة ويجتمع فيها مع وزرائه من رؤساء الأحياء. النار مص*ر الطاق الرئيسية في القاعة حيث انتشرت المصابيح المشتعلة في تناسق مدروس لكى تنير القاعة بأكملها.كان الملك يجلس على عرشه يقرأ أحد السجلات الهامة الخاصة بميزانية المملكة، وكان الغضب يغتصب ملامح وجهه. دخل ساجا ودومار القاعة الملكية بخطوات متثاقلة، يحثهما وكزات الحراس لهم بتلك العصى المدببة ليسرعا في خطواتهما. ابتلع ساجا ريقه عندما رأى ملامح الملك الغاضبة خاصة بعد ما لمح اسم السجل الذي كان يقرؤه،أشار له الملك لكي يقترب ساجا منه الذي ابتلع ريقه بصعوبة ثم تقدم عدة خطوات لتصبح المسافة بينه وبين الملك قريبة. حدجه الملك بنظرات غاضبة وهو يشير للسجل الذي يضم ميزانية ديوان العلوم الذي يرأسه ساجا، العالم الأكبر لمملكة ماندا،والذي تمالك نفسه ليشرح للملك كل شيء. سأله الملك: هل تعتقد أنه من الأهمية أن تنفق نصف ميزانية ديوان العلم على تجارب الغرباء؟ خفض ساجا رأسه قليلا ليفكر في جواب منطقي يقنع به الملك، ولكن قطع تفكيره صوت دومار الذي تدخل في الحديث وقال بلهجة مملكة ماهيرا:سيدي الملك، لقد أنقذت نصف ميزانية ديوانك روحا فهل ذلك يعاتب عليه العالم ساجا،سيدي لقد علمت من تاريخكم كم عانيتم وكم من أرواح بريئة زهقت بسبب تلك الكارث التي ألمت بعالمنا جميعا، لقد عاش سكان مملكة ماهيرا حياة صعبة جدا وفقدنا الكثير من الأرواح، حتى تمكنا من ترويض تلك الطبيعة القاسية لنصنع حضارة لا تقل عن حضارتكم، وكذلك عاش سكان مملكة شايا حياة صعبة في مواجهة الكائنات البحرية المتوحشة وفقدوا الكثير من الأرواح البريئة أيضا. رفع الملك حاجبيه دهشة فقد اعتقد طول تلك السنوات أنهم فقط الذين عاشوا حياة صعبة، وأن الناجون في المناطق الأخرى من عالمهم مروا بنفس التحديات والصعوبات. شعر ساجا بالفخر بنفسه بما قدمه من حسن صنيع لدومار ذلك الغريب عن مملكته. تدخل ساجا ليكمل حديث دومار وقال: ضيفي يقصد أن اختراعاتي وتجاربي التي تساعد الغرباء على المجيء لمملكتنا دون أن يتأذوا لهو أمر عظيم، يستفيد منه شعبنا مستقبلا. فمثلا يمكننا استيراد المحاصيل والثمار التي تنمو في الممالك الأخرى ويستحيل انباتها في تربة أرضنا السامة. قال دومار بلهفة : ونحن يمكننا أن نتاجر معكم في الأعشاب الطبية النادرة التي تنمو فوق قمم الجبال العالية دون غيرها. وشعب مملكة شايا يمكنهم التجارة معكم بتلك الكائنات البحرية التي يستحيل أيضا تربيتها هنا. أخذ الملك نفسا عميقا ثم أخرجه ببطء شديد، أغمض عينيه وأسند ظهره للكرسي،كانت ملامحه تدل على التفكير العميق؛ لذا لم يقاطعه ساجا أو دومار. كان دومار يمتلك موهبة نادرة وهي التأثير على قرارات الآخرين ذهنيا لذا ركز في فكرة واحدة وهى موافقة الملك على كشف وجود مملكة ماندا لمملكة شايا وماهيرا. ابتسم الملك ورحب بفكرة ساجا وقال له: حسنا فلتفعل ما تراه صوابا، يا ساجا، ارتسمت ابتسامة خبيثة خلف قناع دومار لم ينتبه لها الملك،نظر ساجا للملك بدهشة وسأل نفسه كيف غير الملك رأيه هكذا للنقيض؟ لمح ساجا تلك الابتسامة على وجه دومار ففطن أن لدومار قوة ما أثر بها على الملك ليوافق، فتبدل شعور ساجا نحو دومار إلى القلق والحذر منه،خاص بعد ما أمر الملك باستضافة دومار في القصر الملكي. شعر ساجا بالغيرة من دومار الذي احتل اهتمام الملك منذ قليل وقربه لمجلسه، فاستأذن منه ليستريح قليلا في منطاده، هز الملك رأسه بالموافقة دون أن يلتفت له حيث كان مشغولا بحكايات دومار الذي يقصها عن مملكة ماهيرا بلده. شعر ساجا بالإهانة من سلوك الملك فخرج والضيق يحتل ملامح وجهه،وقبل أن يخطو خارجا رمق دومار بنظرة جانبية تنم عن غيرة وكراهية وليدة لذلك الذي سرق مكانته لتوه. .................... في القصر الملكي مملكة شايا غرفة جومار وساري بعد عودة وعي الأميرة ساري لجسدها، تركتها الساحرة نورمي مع زوجها جومار، حتى يتعاتبا ويصلحا الأمور بينهما من سوء فهم تسبب فيه بعض المغرضين. بدلت ساري ثيابها في الغرفة المخصصة لذلك،كان جومار ينتظرها وقد تكالبت عليه المشاعر المتخبطة ما بين حب وشعور بالخزي والأمل في أن تعفو عنه ساري عما بدر منه من غباء عاطفي كاد أن يهلك الجميع لولا تدخل الساحرة نورمي. أنهت ساري تبديل ثيابها لتطل عليه بإطلالة ساحرة بذلك الرداء الأزرق اللون الذي جعلها تبدو كموجة بحر مدللة تطرب لها النفس وترقص لها نبضات القلب. شعر جومار بالحبور وزينت وجهه ابتسامة رائعة أشرقت وجهه بها،اختلست ساري نظرات محبة له، تقدم جومار منها بضع خطوات ،كان المشهد عجيبا رجل مفتول العضلات يشبه في هيئته صلابة جبال مملكة ماهيرا في حين تبدو ساري رقيقة تشبه في هيئتها أمواج البحر الهادئة التي تعانق سفح جبل عظيم تلاطفه بدلالها حتى يلين لها بمرور الوقت. رغم قسوة جومار وجبروته الذي اشتهر بهما بعد اعتقاده خطئا أن ساري استغلت حبه لها لكي تغزو وطنه مع والدها، كان قلبه ينعم بمحبة دفينة حاول بكل قوته وكبريائه أن يطمسها ولكن دون جدوى بمجرد رؤيته لساري خفق قلبه من جديد فَرق ذلك الجبل العاتي تحت دلالها. اقترب جومار منها ثم أمسك يديها وقبلهما؛فشعرت بالخجل فحاولت الابتعاد عنه وأشاحت وجهها، ولكنه قربها منه أكثر وقال لها بكل حب الدنيا :أعتذر عما بدر مني لقد أعماني الحب حقًا،شردت ساري للحظات تذكرت فيها كراهيتها له بعد ما تحول لشخص مقيت سيء بل صارت له عدوة، فسالت دموعها الغالية لتلهب قلب جومار الذي لم يتحمل ذلك فاحتضنها ليهديء من روعها. هدأت قليلا ،رفعت رأسها لتقرأ عيني جومار اللتان لم تتغيرا بعد كل ما حدث بينهما من أحداث دامية أودت بحياة الكثيرين بسبب حفنة من الحب. أمسك جومار كتفيها وقال بحزم: يجب أن نتخطى ماضينا الأليم حتى نبني عالما قوامه الحب، ساعديني لكي أصلح ما اقترفته يداي، **ت هنيهة ثم قال بصوت يملؤه الخزي مما فعل من قتل النساء البريئات من المملكتين.  توقفت ساري عن البكاء ولمعت عيناها بالعزيمة والاصرار لإصلاح ما أفسده الحب الأعمى،ذلك الحب الذي يعمي القلوب عن مزايا المحبوب إذا حدث سوء فهم بين الطرفين، حب أعمى لا يعاتب بل يتسرع في إتهام المحبوب دون تقصي للأمر، حب أعمى لا يعفو ، لا يسامح ولا يغفر. غابت شمس ذلك اليوم ، ليسدل الليل ستاره على تلك البيوت الطافية فوق المياه الساحرة التي ع**ت وجه القمر فوق سطحها فرسمت أروع لوحة فنية يمكن أن تشاهدها ليلا. لوحة تنبيء عن مستقبل مشرق يأتي مع إشراق شمس الحب بين الممالك الثلاث ليحتل قلوب الجميع ويكون العفو بين العاش*ين رسولا. يتبع>>
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD