ظهر رأس الضيف مجدداً . لكنه سرعان ما عاود الاختفاء . فقال بوجارد :
- " إنه يعود ، أوقفه . قل له إن جميع الطائرات الألمانية ستكون فوقنا في غضون نصف ساعة " .
تأرجح ماك جينيز نزولاً عند مدخل الممر . صرخ :
- " عُد! "
كان الفتى في الخارج تقريباً؛ أقعيا وجهاً لوجه مثل كلبين ، وهما يتبادلان الصراخ وسط صخب المحركات على جانبي الجدران النسيجية . كان الفتى يصيح :
- " قنبلة! قنبلة ؟ " .
- " أجل! أجل! . عد إلى سلاحك الآن بالله عليك " .
عاد ماك جينيز إلى موقعه .
- " لقد عاد . أتريدني أن أقود عنك لفترة ؟ " .
قال بوجارد : " حسناً "
ثم أنه تخلى عن المقود لماك جينيز قائلاً : " خفف سرعتها قليلاً . لن ينقضوا علينا قبل الفجر " .
- " حسناً " ، قالها ماك جينيز . ثم حرك المقود فجأة ، " ما قصة هذا الجناح الأيمن ؟ " .
- " انظر . . . هل ترى ؟ إنني أطير على الجناح وبعض الدفة . أشعر بهذا " .
أمسك بوجارد المقود للحظة :
- " لم ألاحظ ذلك . ثمة عطل سلكي ما على ما يبدو . لم أحسب أن أياً من تلك القذائف كان قريباً . انتبه لها مع ذلك " .
قال ماك جينيز : " حسن ، وإذن سترافقه غداً ، أعني اليوم ، في زورقه " .
- " أجل ، لقد وعدته . لا يمكنك جرح شعور فتى كما تعرف " .
- " لما لا تأخذ كوليير معك مع الماندولين الخاص به ؟ عندها يمكنك الإبحار والغناء معا! " .
وقال بوجارد : " لقد وعدته ، ارفع هذا الجناح قليلاً " .
أجابه ماك جينيز : " حسناً "
بعد نصف ساعة بدأت السماء تصير رمادية إيذاناً بالفجر وقال ماك جينيز :
- " حسناً ، ها هم أولاء . انظر إليهم! يبدون مثل البعوض في أغسطس . آمل ألا يتحمس الآن ويحسب أنه يلعب الورق . إذا فعل فسيسبقه روني بنقطة ، هذا إذا ما كانت للشيطان لحية! . . . هل يريد القيادة ؟ " .
وفي تمام الثامنة كان الشاطئ ، القناة ، قد أصبح تحتهم . خفف بوجارد السرعة ، وهبط بالطائرة نحو منعرج القناة . كان وجهه تبدو عليه أمارات الإرهاق ، كالكلب الميت . وبدا ماك جينيز مجهدا وبحاجة إلى حلاقة . وصاح عندما رأى الفتى يميل فوق الجانب الأيمن من الحجرة مجدداً ، ناظراً إلى الخلف والأسفل تحت الجناح الأيمن :
- " ما الذي ينظر إليه الآن ؟ "
قال بوجارد :
- " لا أعرف ، ربما إلى ثقوب الرصاص " ، أحدث صوتاً ثاقباً بالمحرك الأيسر ، " يجب أن نحصل على . . . " .
قال ماك جينيز :
- " يمكنه أن يرى ذلك على مسافة أقرب من ذلك . .أقسم إنني رأيت كشافاً ضوئياً على ظهره في إحدى اللحظات . ربما كان ينظر إلى المحيط . لكن لابد من أنه رآه حين جاء من إنجلترا " .
ثم هبط بوجارد بالطائرة ، فارتفعت حدة الضوضاء ، الرمل ، التيار البحري الملتوي جرى جانبياً مع الطائرة . بيد أن الصبي الإنجليزي ظل معلقاً إلى الخارج ، ناظراً إلى الخلف والأسفل نحو شيء ما تحت الجانح الأيمن ، وقد امتلأ وجهه بالحماسة الطفولية ، وظل كذلك إلى ما بعد توقف الطائرة كلياً ، ثم أحنى رأسه بسرعة إلى الداخل ، وفي الصمت المفاجئ للطائرة سمعاه يزحف في الممر . ظهر بينما الطياران ينزلان برشاقة من قمرة القيادة ، وجهه مشع ، متشوق ، وصوته عال وحماسي .
- " يا إلهي الرحيم! يا له من شاب . يا لحكمه الدقيق على المسافة! لو رأى روني ذلك فحسب! يا إلهي الرحيم! أوه ربما قنابلكم ليست مثل قنابلنا - لا تنفجر تلقائياً حين ترتطم بالهواء " .
نظر الأمريكيان إليه بحيرة . سأله ماك جينيز :
- " ماذا يفعل ؟ ماذا ؟ " .
قال الفتى : " القنبلة ، لقد كانت رائعة؛ أقول ، لن أنساها أبداً . أوه أقول كما تعرف! كان ذلك رائعاً " .
بعد برهة قال ماك جينيز ، مصعوقاً " القنبلة ؟ " . ثم تبادل الطياران النظرات؛ وهتفا معاً : " الجانح الأيمن! " . ثم هرعا يتبعهما الضيف حول الطائرة ونظرا تحت الجانح الأيمن فرأيا القنبلة ، معلقة من ذ*لها بشكل مستقيم مثل جرس منتفخ تحت العجلة اليمنى وطرفها يلامس الرمل . وبالتوازي مع أثر العجلات كان ثمة خط طويل رفيع خطه رأس القنبلة على الرمل . خلفهما جاء صوت الفتى الإنجليزي عالياً ، حماسياً ، طفولياً :
- " أنا نفسي وجلت . حاولت أن أخبركما . لكنني أدركت أنكما تعرفان عملكما أكثر مني . يا للبراعة . رائع . أوه ، أقول ، لن أنسى ذلك إطلاقاً " .
قاده الجندي من البحرية نحو رصيف الميناء ودله على الزورق . وجد الرصيف خالياً من المراكب ، ولم ير الزورق حتى اقترب من حافة الرصيف ونظر مباشرة إلى الأسفل نحو المياه ، حيث كان هناك رجلان منحنيان في بزتين قطنيتين متسختين ، نظرا إليه لبرهة ثم عادوا الانحناء .
كان الزورق بطول نحو ثلاثين قدماً ، وعرض ثلاث أقدام . وقد طُلي باللون الحشيشي الفاتح بغرض التمويه ، ووجه سطح مؤخره إلى الأمام فبرز عادما محركه الضخم ، فقال بوجارد في نفسه : " يا إلهي ، إذا كان هذا كله محركاً . . . " .
عند مؤخر المركب كان مقعد القيادة حيث تنتصب دفة كبيرة ولوحة أزرار . وكان ثمة خيمة صلبة ، مموهة أيضاً ، تمتد بارتفاع قدم من الكوثل حتى بداية سطح المركب ، وتلتف من هناك جانبياً إلى الطرف الثاني من الكوثل ، فتغطي عملياً الزورق كله باستثناء عرض مؤخره ، وقبالة الدفة حلقة أشبه بالعين بقطر ثمانية إنشات تقريباً . كما رأى مدفعاً رشاشاً ثُبت على سطح الكوثل ، وإذا تأمل الخيمة الواطئة - علماً أن المركب برمته ، ومعه الخيمة ، لا يرتفع عن سطح الماء أكثر من ياردة واحدة .
حدّث نفسه بصمت : " إنها من الفولاذ . إنها مصنوعة من الفولاذ " .
كان وجهه رصيناً تماماً ، وقوراً تماماً . شد معطفه على جسده وزرره وكأنه يشعر بالبرد .
سمع خطوات تقترب منه فاستدار ، لكنه كان مجرد حاجب من الميناء الجوي ، يرافقه جندي من البحرية يحمل بندقية . كان الحاجب يحمل صرة كبيرة لُفت بالورق . " هذه من الملازم ماك جينيز إلى الكابتن " .
أخذ بوجارد الصرة ، ومضى الجندي والحاجب . فتح الصرة ، فوجد في داخلها ملحوظة قصيرة كتبت بخط رديء وبعض الأشياء : دثار كنبة حريرية أصفر جديدة ومظلة يابانية جديدة ، من الواضح أنهما مستعاران ، ومشط ولفة من ورق التواليت . أما الملحوظة فكانت تقول :
لم أستطع العثور على كاميرا في أي مكان ، وكوليير لم يسمح لي بأخذ آلة المندولين الخاصة به . لكن ربما يستطيع روني العزف على المشط .
ماك
تأمل بوجارد الأغراض ، بالرصانة ذاتها ، ثم أعاد لف الصرة وحملها إلى نهاية الرصيف ورماها بهدوء في الماء .
رأى شخصين يدنوان وهو في طريقه إلى الزورق . عرف الفتى في الحال . كان طويلاً ، نحيلاً ، ثرثارا ، وقد أحنى رأسه قليلاً نحو مرافقة الأقصر منه قامة وكان يسير متهادياً بجانبه ، واضعاً يديه في جيبيه ، يدخن الغليون ، كان الفتى في سترته الكاكية ومعطف واسع واقٍ من المطر ، لكن بدلاً من قبعته اعتمر خوذة عجيبة من تلك التي يرتديها جنود المشاة ، جاراً وراءه ، كأنها صدى صوته ، قطعة قماش أشبه بالستارة بطول بشكير طويل .
صاح الفتى من بعيد :
- " مرحباً يا ولد! " .
بينما بوجارد كان منشغلاً بتأمل رفيقه ، يقول في سره أنه لم ير في حياته رجلاً غريب الشكل أكثر منه . كان ثمة شيء شديد العصبية في كتفيه المنحنيتين ووجهه المطرق نوعا . كان رأسه يصل إلى كتفي الفتى . وكان وجهه يميل للحمرة كذلك . لكنه يوحي برصانة عميقة تكاد تبلغ حد العدوان . وكانت ملامحه ملامح شاب في العشرين يحاول منذ عام ، حتى في أثناء نومه ، أن يبدو في الحادية والعشرين! وكان يلبس كنزة من الصوف عالية القبة وسروالاً قطنياً؛ وفوق ذلك سترة جلدية؛ وفوقها واقٍ من المطر متسخ يكاد يصل إلى قدميه ، وكان ثمة شريطة مفقودة عن إحدى كتفيه . ويعتمر قبعة بحرية مربعة النقش ، أحيطت بوشاح يغطي أذنيه ، ويلتف حول رقبته لينعقد تحت أذنه اليسرى . كان الوشاح قذراً بشكل لا يصدق ، فإذا أُضيفت إلى ذلك يداه اللتان دسهما عميقاً في جيبيه وكتفاه المحنيتان ، لبدا أشبه بساحرة شمطاء وقد أُعدمت شنقاً بتهمة الهرطقة .
صاح الفتى :
- " ها هو! هذا روني . هذا الكابتن بوجارد " .
قال بوجارد :
- " كيف حالك ؟ " .
ومد يده . لم يردّ الآخر ، لكنه مد ببطء يده الباردة الصلبة . ونظر لبرهة إلى بوجارد ثم أشاح نظرة . وفي تلك اللحظة التقط بوجارد شيئاً ما في نظرته ، شيئاً غريباً أثار كل دهشة؛ نوع من الاحترام العميق الخفي ، شيء أشبه بصبي في الخامسة عشرة يرى المهرج في السيرك .
لكنه ظل لا ينبس ببنت شفة . أطرق برأسه وتابع سيره ثم اختفى فوق حيد الطريق كأن البحر قد ابتلعه .