الغربة هنا تخنقه.. الغربة هنا تقتله ببطيء وتتلذذ بنزف روحه وإختناقها..
ولكن هو لا يعلم ما يقتله هل شعور الذنب الذي يقتص من روحه كل ذرة راحه يحاول هو الوصول لها..
العمل لا يساعده على التلهي والنسيان... العمل لا يشغل روحه بل يشغل العقل فقط لا غير!
يشعر بجسده كآلة تعمل بمواعيد ثم تقف عند نقطة معينة.., تاركه اياه لعذاب روحه وضميره الذي لا ينفك يقتله بوجع لا يعرف متى الخلاص منه..
يمسك بهاتفه ينظر لصورة كريم الموضوعة على احد مواقع التواصل الاجتماعي وهو يحمل بين يده صغيره..
يده امتدت تكبر الصورة على الشاشة.. وأنامله تمر على ملامح الصغير عبد الله..
الصغير الذي يضعه عند نقطة البداية عندما قتل ابنه يده..
عندما قرر أن يترك نفسه لشيطانه يتلاعب به .. إلى الآن لا يستطيع أن يتخيل كيف وصل به الأمر عنا عند القاع..
السؤال واجهه كثيراً ومازال.. السؤال يشعل فتيل الذكريات داخل بوتقة وجع الضمير والذنب..
رنين هاتفه جعل الصورة تختفي .. ولكنه ابتسم للاسم الذي ظهر.. سما..
براءتها تقتله وتريحه في آن واحد.. سما تجعله يتمنى أن يكن بلا ماضي.. بلا ذكريات..
بل هي تجعله يتمنى لو فقد ذاكرته في تلك الحادث ربما حينها كان مضى معها..
جاوبها سريعاً :
-ازيك يا سما..
على الطرف الاخر خفق قلبها له.. ولا تعرف الخفق خفق اعجاب.. ام خفق عشق ربما لا تعرف انه يجب وأده وقتله لو لزم الأمر..
-عامل ايه يا مازن..
استقام من مكانه يدور بالشقة هاتفاً وهو ينظر لصورة موضوعة بحافظة جيبه..:
-بخير ..
استشعر من نبرتها أنها ليست بخير فأردف يتساءل:
-انت بخير يا سما.. صوتك ماله..
هتفت باختناق على الطرف الأخر والبكاء تكبته بصعوبة:
-ماما خلا ص قررت هي وماما اننا نرجع مصر..
جعد جبينه ولا يفهم ما سبب الحزن في ذلك الأمر متمنيا ليته مكانها يملك حق الرجوع دون قيد أو شرط.. يمسك الصورة الموجودة بيده .. يتمسك بها أكثر يذكر نفسه بخطئه.. يخاف الانجراف بمشاعره أكثر:
-طيب ايه المشكلة يا سما .. هو في احلى من انك ترجعي بلدك..
اردفت بهجوم على الجهة الاخرى وهو تقبض يدها غضباً:
-انا عشت حياتي كلها هنا.. اه اتولدت هناك وعشت طفولتي هناك .. بس حياتي هنا.. ذكرياتي هنا..
يحاول تهدئتها .. يصله وجعها .. يصلها معنى ان تنتزع من مكانك فتحبر ان تنغرس في مكان أخر لا يناسبك ولا يشبهك..:
-هناك هتنبني ذكريات جديدة يا سما..
يتوقف عن الحديث .. ويسرد بعدها بشرود مدمج بحنين التقطته هي:
-هناك هتبقى حياتك الجديدة.. هتلاقي شغل.. مع الوقت هتتعودي..
رغم كل ما يقول ولكنها هتفت تناضل من اجل منطقها وقناعتها .. تهدر به بعصبية وكأنه السبب بسفرها:
-بس مش من حق ماما عشان عاوزة تروح تقرب من ابنها تجبرنا نروح هناك..
تتوقف عن الحديث .. تلتقط أنفاسها وهي تدور حول نفسها بالغرفة .. بحالة هياج وجنون:
-مش من حقها تبعدني عن شغلي .. عن حياتي.. عن اصحابي..
تهمس بالنهاية بخفوت وقد أنهكت بالأخير:
-مش من حقها يا مازن مش من حقها انا حياتي هنا .. انا لما بنزل مصر اجازة ببقى عاوزة ارجع..
تنهمر عبراتها فتضيف بتمني:
-انت فاهمني يامازن..
وهو يفهمها جيداً .. ببساطة هو يعيش ما تصفه.. يعلم كيف هو الاشتياق .. يعرف ويصيبه الوجع لكل كلمة قلتها..
يهز رأسه وكأنها تراه .. يردف بتفهم:
-فاهمك جداً يا سما.. فاهمك..
يقترب من حاسوبه الشخصي .. يفتحه.. يسرع بالنظر لصورة شقيقه وصغيره.. يستمع لصوت تنفسها.. كل منهم يركن لل**ت ..
يهتف هو بقرار أصابه بالإلحاح.. منذ أن استمع لصوت كريم..
-سما..
اجابته :
-نعم يا مازن..
ص*ره يعلوا ويهبط من الانفعال .. من تصارع داخله يجبره تارة على قراره ثم يعاود منعه.. يطرق بيده هل المنضدة..
يتأمل صورة شقيقه مرة أخرى .. يسعى للحديث .. يسعى أن يصرح ا****ن بما يريد..
يصارع كل رفض وكل ذنب..
كل وجع وكل مستحيل يقف عائقاً هنا..
يهتف أخيرا بثبات جاهد لأجله:
-انا هرجع معاكم مصر ياسما!
شهقة خرجت منها .. تسارع بتساؤل:
-انت متأكد هترجع مصر..
أغلق حاسوبه الخاص.. وتأمل الصورة الموضوعة بيده يهتف بـتأكيد :
-ايوه هرجع مصر يا سما..
أغلق معها وتأمل الصورة الموجودة بين يده.. صورة نيرة ..
ضحيته وبداية لعنته.. جحيم ضميره المستعر وقفزة ألمه المتصاعدة في وتيرتها دون تروي..
سيعود.. قراراه هنا بلا عودة بلا رجوع.. بلا بتر وتردد..
سيعود يكفر عن أخطائه.. يعتذر مرة وأثنان ومليون لو لزم الأمر ..
سيعود عله يرتاح.. عله يجد وطن يعانقه..
ولكنه نسي أن العودة هنا .. باب ذكريات ممتلئ بأخره بالوجع.. والخسارة..
ممتلئ بالقهر لشقيقته..!
بالفقد لأبيه!
بالخطيئة لنيرة!
بالنهاية لروحه القديمة..!
برجل ينتظره يبرحه ض*باً أو قتلاً..
العودة هنا خطر.. ولكن منذ متى كانت الحياة زهيدة الثمن..
الحياة هنا ثمنها ربما حياته!
*******************************
هي أنثى تخطت مراحل السقوط والتعثر, هي انثى وجدت حالها بعالم لا تراه عالمها وحياة باتت تألفها..
هي غصن ماس وسط العدم..
هي شعلة وسط الجليد نجاهد الحفاظ على نارها ولكن الجليد يدحض كل مقاومة وكل نضال!
هي تعلم جيداً أنها تبذل طاقة جلية في وسط بارد ..
أمسكت هاتفها تنوي الاتصال بغسان .. رغبة منها بالخروج ولكنها بلحظة تمرد وجدت أنها لن تفعل ذلك .. ستتمرد وتخرج بالبنات دون أن تخبره بل ستترك له خبر مع والدته وكفى!
نفضت خصلاتها واستقامت تختار فستان للخروج باللون الأصفر كعادتها.. تذهب لغرفة الصغار تأمر المربية أن تقم بتجهيزهم من أجل الخروج..
تدور حول نفسها بالغرفة سعيدة بتمردها .. بل وتنظر النتيجة على فعلتها التي ستصيبه بالجنون حتماً..
صوت بداخلها يهدر فيها بمواجهه:
-هل اشتقت لغضبه.. ام اشتقت لحالته المشتعلة؟!
تتهرب من الاجابة تشعل الموسيقى بجانبه .. تردد مع الاغنية كلماتها التي راقت لها ولا تعرف لماذا؟!
انا مش مبيناله انا ناوياله على ايه..
ساكته ومستحلفاله ومش قايلاله ساكته ليه..
تدور تنهى ارتداء الفستان بلونه الأصفر والتي لا تعرف ان غسان يبغض هذا اللون جداً..
تعاود الصياح وقد أعجبها ذلك الاشتعال واندفاع الادرنالين بعد ان كانت مستقرة بقاع الجليد..
خليه يشوف يعينه ايه الي ناوية عليه
هخليه يخاف من خياله لما اغيب يوم عن عينيه
تبتر الكلمات .. تفكر بحيرة لا ترحمها .. تضع امامها الحقيقة دون زيف..
-هل تريد الاكمال ام الرحيل.. ام هي فقدت القدرة على معرفة ما تريد؟!
تهز رأسها .. تحاول الاستمتاع بكل شيء.. تقتنص من الحياة حياة جديدة تفتقدها.. ولو احترق العالم اجمع !
خرجت من غرفتها .. وأخبرت منى بما تريد وخرجت في طريقها لصديقتها سماح..
بعد ساعة تقريباً كانت قد وصلت لمنزل سماح .. تطرق الباب بخفة تمسك الصغار بيدها ..
تفتح سماح وهي ترتدي ملابس خاصة بالصلاة .. تشرق بابتسامة هاتفة وهي تدخلها:
-فريدة نورت ياحبيبتي ادخلي..
أغلقت الباب ثم نزعت رداء الصلاة هاتفة بصخب مرح:
-البيت نور .. انت فطرتي ولا لسا..
ضحكت وهي تجلس على اريكة تتوسط الغرفة التي دخلت لها:
-لا لسا انا والبنات مفطرناش..
صفقت بيدها وهي تصيح :
-حلو هعملك احل فطار ..
ثم نظرت للصغار تتأملهم بابتسامة بلهاء:
-ولاد غسان دول..
هزت رأسها ايجاباً فتكمل سماح وهي تردف بانبهار:
-لا باين الصرف.. حلوين كده.. ولاد ناس يعني
ترجع نظرها لفريدة التي غرقت بالضحك.. تهتف هي باقتراح :
-محتاجين يتبخروا يا فريدة..
استقامت فريدة من مكانها في نفس الوقت الذي اقتحم فيه صغار سماح المكان..
تقترب منهم تهديهم قبلة هاتفة:
-ولادك دول ..ربنا يبارك فيهم..
اومأت لها تمسك بيدها تردف بجدية مصطنعة:
-يلا عشان نعمل الفطار ..
توجست فريدة قليلا وهي تسأل بأعين تضيق من القلق:
-فطار ايه ..
تعدل سماح من ياقة منامتها ترفع من وضع عويناتها ثم تهتف بفخر:
- فول وطعمية طبعاً..
هزت رأسها بصدمة تنظر لعهد وعلا بتوجس.. ثم تهمس بقلق:
-بس دول معدتهم متستحملش الاكل ده يا سماح.. تفتكري هيستحملوه
لوت الاخرى شفتيها وهي تقول بامتعاض:
-دانا هديهم مناعة بدل ماهما نايتي كده..
امسكت يد فريدة المصدومة متحدثة بأمر لصغارها وكأنهم في مهمة قوميه:
-ولاد..
ت**ت وتشير للتوأم تكمل بغموض مضحك:
-دحرجوهم حساهم مش مصريين كده.. ارجع الاقيهم بيغنوا المهرجنات!