السحر .. الحب والخيال خلطة خاصة, مغوية , ساحرة , خلطة اتقنتها بعض النساء والبعض الاخر امتلك الأدوات ولم يجد سبيل لمعرفة الخلطة واستخدامها..
صباح جديد والمذياع يشق ال**ت بهمس ناعم كما تعتقد هي..(ياصباح الخير يالي معانا..)، ولكن الصوت كان حاد، عالي، مزعج..
وهي هنا تعني سيدة البيت , فريدة التي تقف بمطبخها ويدها تعمل على عمل بعض الشطائر الخاصة بأبنائها من أجل المدرسة وتصب الشاي من أجل زوجها .. وتحضر بعض الأطباق من أجل الافطار..
منهمكة في عدة اشياء وكل واحد منهم تتقنه ببراعة..
نظرت للساعة التي تخطت السابعة بربع ساعة وفجأة تحولت ملامحها من الهدوء للصخب وهي تصرخ صرخة حفظها المقيمين بالمنزل معها والجيران وربما بعض المارة في هذا الوقت..
-استيقظوا, استيقظوا..
كررتها وهي تقتحم غرفة ابنائها الثلاث مكررة بصراخ حاد عنيف:
-استيقظوا وإلا اجبرتكم على ذلك بطريقتي الخاصة ..
لم تكمل كلمتها عن طريقتها الخاصة إلا وكانوا خارج اسرتهم قبل أن تفعل تهديدها..
بعد قليل كان الجميع يحمل حقيبته من أجل الخروج من منزل فريدة..
انحنى زوجها يود منحها قبلة أعلى رأسها بلفتة رومانسية لم تفهمها زوجته ؛ وكيف تفهم وهي تدور بتروس حياة لا ترحمها ، ولأنها زوجة أصيلة قامت بزوبعتها الصباحية :
-ما الذي يجب أن أقم بطبخه اليوم يا غسان ؟!
استقام مسرعًا من انحنائه وشفتيه لم تنال منها أي قبلة المستبدة فريدة فلتلحقها اللعنات ..
عيناه ترتكز عليها وهيئتها متخصرة مغوية لا ينكر, تزوجها منذ عشرة أعوام ولكنها كما هي مغوية ويود فقط لو أنها تمنحه بعض الرقة.. الدلال كما سنواتهم الأولى، فأين ذهبت الرقة ومتى أقيم عزاء الدلال؟!
كان شاردًا بها والشرود في عرف فريدة جريمة, وتلك الاغنية تتلاعب كلماتها بأوتارها فتهزها .. تجعلها تتأرجح بين مطارق الشك ؛فتلقي بها على حافة الجنون..
(فتشي ورا جوزك واعرفي دايما باسورداته....)
صرخت به وعيناها تعانق عيناه الهائمة بفقاعة وردية عسى أن تنفجر :
-بما شردت يا رجل..
هتف سريعًا بلا تردد بعد أن انتشلته من تحديقه بها:
-انت يا حبيبتي..
ارتدت للخلف تتأمله بريبة, وكلمة حبيبتي تلك لا تعجبها بعد الشرود.. هل يحبها حقًا؟
سألته وهي ترفع إحدى حاجبيها بشر ونبرتها التي أنبأته بزوبعة أخرى منها بثت به بعض الرهبة:
-اخبرني ما الذي يجب أن أطهيه ؟
وكعادته وعادة كل الرجال منحها اجابة مختصرة زادت من غضبها قبل أن يخرج من المنزل:
-أي شيء ..
فقط ذلك وهرول للخارج, بينما هي تغلق الباب بعنف بعد أن رحل الجميع..
دخلت مطبخها مرة أخرى وعيناها ترتكز على جرة الجبن القديم التي ورثتها من والدتها ووالدتها ورثتها من والدتها ووالدتها من والدتها وهكذا , لا تعرف هي ما عمر تلك الجرة ولكن حقا هي فقط من يملك الخلطة السرية لعمل الجبن القديم المعروف بالمناطق الريفية باسم (المش)..
ولكن الجرة كانت تحمل قصة أخرى, الجرة بجانب الجبن كان السحر..
همت بتقطيع بعض الخضروات حتى ظهرت (جنية) , أو عفريته كما تطلق عليها, تلك الجنية ذات الشعر الأحمر التي ظهرت لها حينما حصلت هي على تلك الجرة منذ خمس سنوات.. في البداية اصابها الفزع وبعدها تعودت عليها خاصة بعدما اخبرتها أن والدتها كانت صديقتها بل وكل الأجيال السابقة..
-صباح الخير فريدة..
-كل يوم استيقظ من نومي واتمنى ألا أجدك بمطبخي يا عفريته..
احتجت الاخرى بحدة :
-اسمي جنية , جنية لا عفريتة..
استقامت فريدة من مكانها تغسل الخضروات هاتفة بسخرية:
-حقًا , وما الفرق بين جنية وعفريته ..
جلست أعلى المنضدة التي تتوسط المطبخ وخصلاتها الحمراء تحاوط وجهها بعبث, كانت تشبه فريدة بتلك الخصلات ولون البشرة..
اجابتها بينما هي تحاول مساعدتها بتنظيف المكان إلا أن فريدة همهمت معترضة كعادتها :
-الجنيات من صفاتهم الجمال وحب الناس والخير.. والعفاريت من صفاتهم القبح ..
وقفت امامها قائلة بحنق:
-وأنا كما ترين جميلة..
لوت الاخرى فمها بتهكم وهي تبدأ بتنظيف شقتها بينما الجنيٌة تتبعها وتلح عليها:
-دعيني اساعدك يا فريدة لما ترهقي نفسك وأنا استطيع مساعدتك..
تجيبها وهي منهمكة في التنظيف, تهتم بأدق التفاصيل, هوس أن يكن كل شيء بلا أخطاء متناسية أنها بشر..
-أنا لا أحب أن يساعدني أحد , لا أثق بتنظيف أحد سواي ولا طهي سواي ..
رفعت الجنية كتفها للأعلى هامسة بصوت مسموع:
_تشبيهن والدتك وجدتك وجدة جدتك وجدة...
قاطعتها بحنق :
-منذ متى وأنت مع نساء عائلتي؟
هتفت بزهو ويدها تتلاعب بخصلاتها الحمراء:
-منذ زمن طويل جدا يا فريدة انا ارافق كل امرأة متعبة , منهكة..انا روح كل أنثى نسيت نفسها..
ت**ت وتتأملها بابتسامة مشفقة مكملة بهدوء:
-انت مثلا منهكة, متعبة, تهوين ت***ب نفسك يا فريدة.. تُغرقين نفسك ف أعمال المنزل بينما زوجك بات يتوسل منك الإهتمام..
حديثها ترك أُثر داخل الاخرى ولكنها اخفت ذلك ببراعة وهي تلتفت للتنظيف.. رادفة بخفوت ويدها تزدادعنفًا في التنظيف.. عينيها تلتحف بالعبرات :.
-انا بخير ..
توقفت عن الحديث ثم كررت بصوت متعب مجبرةالعبرات على الجمود:
-بخير , أنا بخير .
وبين كلمة بخير وشقيقتها كان هناك ألف حكاية داخل روحها المشتتة في دهاليز طريق الحياة؛ تتسائل ووجعها تخفيه كل يوم بصراخها على ابنائها من أجل إستيقاظهم للمدرسة؛ تخفيه وهي تسأل زوجها عن نوع الطعام الذي يود،تناوله على الغذاء لأنه يتأفف لو لم تسأل وصنعت هي الطعام الذي تحبه هي..
تخفيه وهي تود من زوجها العناق والحب.. ولكنها تختار البعد لأن روحها مزدحمة..
تود لو تخرج معه إلى السوق تبتاع هي الطماطم وهو الباذنجان من أجل عمل المسقعة التي تهواها هي وهو لا فيقول لها بابتسامة سأتناولها فقط لأجلك..!
عجيب الرجل وغريبة المرأة فهمها محض خيال..
التفتت للجنية التي تراقبها دون أن يرف لها جفن؛ تفلت هي من حصارها اللعين مضيفة ببؤس مخبيء خلف نبرة صبغت المرح بأكذوبة..
_أنا بخير يا عفريته؛ أنا بخير ..
لوت ثغرها .. تمايلت بخصرها في وضع سخرية من الأمر ككل قائلة:
_تكرري الكلمة حتى تصدقينها.. ثم اسمي جنية
بترت حديثها الغاضب واتبعت ذلك بهزة كتف مكملة بهدوء:
_انت حرة يا فريدة.. والدتك كانت تشبهك .. بالطبع كانت مرحة عنك .. تتميز بطبيعتها المغوية لزوجها..
تتن*د ويدها تتلاعب بالنيش فتزمجر الأخرى بغضب ينذر بحرق الاخضر واليابس..
تصرخ بها وهي تكاد تمسكهامن خصلاتها الحمراءالشبيهه بها :
_إياك والنيش .. هذا أهم من أبنائي نفسهم..
تخصرت الجنية .. رأسها يهتز وخصلاتها تتماوج معه ...؛ تبتعد عنها الأخرى رادفة وأصابعها تتلاعب بمشغل الموسيقى :
_هيا لنرقص..
لاحقتها الجنية بينما هي تختار اغنية لتشغيلها والرقص على عبث لحنها..:
_لما لا ترقصين لغسان ؟!
قالتها بتعجب.. استنكار.. وترقب للإجابة..
والأخرى تتهرب ولكنها تهديها الإجابة ببساطة منطق لاتعرف سواه..
_ماما اخبرتني أن الرقص عيب..
رفعت حاجبها بشر وهي تقترب منها تكاد تصرخ فتفزع فريدة:
_ماما من؟..تقصدين والدتك عنايات..
أومأت الأخرى برأسها إيجابًا فتتابع هي بسخرية:
_ماما كانت ترقص لبابا يا معتوهة القرن..
فريدة كانت تعلم ذلك ولكنها فضلت ال**ت؛ هل يمكنها أن تخبرها ببساطة أنها تخجل أحيانا من فكرة الرقص أمام زوجها..!
تتسائل احيانًا ترى هل عدم الرقص من الخجل؟ أم من تلك الفجوة التي ازدادت في الاتساع يومًا عن الآخر؟
الأفكار كادت أن تغرقها في دوامتها ولكنها هزت رأسها والتفتت منتبهه لكلمات الأغنية.. فالرقص لها رياضة لأن الذهاب لصالة أل**ب رياضية بات رفاهية في ضيق وقتها..
بتنادينى تانى ليه .. انتى عايزه منى ايه..
رفعت ذراعيها لأعلى في حركة افعوانية مضحكة ، تضحك وجسدها يتمايل والجنية تراقبها مصفقة لها بينما فريدة ترافق الأغنية بصوتها الناعم في أصله بدلًا من الصراخ..
ما خلاص حبيتى غيرى .. روحى للى حبتيه
يا أنا يا انا .. يا أنا يا أنا يانا.. ومن عيونك النعسانه...
تميل للأسفل بنصف جسدها ثم ترتفع فجأة .. شعرها كذراع ثالث لها وهي يتشابك بخلاياها.. ويتمسك بها.. يعلوا ويسقط ..
تربت يدها أعلى قلبها وجسدها يدور .. نظرها معلق بالأعلى.. وبعض الذكريات المرة تخترقها مع الكلمات..
انا قلبى ولا ناقص خيانه من اللى جرى منك يكفيه..
انسى غدرك والاسيه ولا حبى اللى راح ضحيه..
في الرقصة عيناها شفتاها.. وجهها وملامحه الجميلة تشارك.. وكأنهم يبغون تحرر لا تمنحه هي لهم..
ولا اللى انتى بديتيه عليا قدام عينيه ايدك فى ايديه..
وبالنهاية تميل وذراعاها يتشابكان وخصلات شعرها الطويلة تكاد تلامس الأرض معلنة عن إنتهاء الرقصة..
*********************
خلال رقصها كان زوجها يعاني مع والدته عبر الهاتف، والدته لا تحب فريدة أو ربما تراها مضمونة.. زوجة لا تملك سواه فباتت مضمونة!
فريدة زوجته وحيدة والديها رحمهما الله ، لا تملك سواه ورغم كل شيء هو لا يرى سواها!
معادلته معها مكتملة ولو تخللها الف تعثر..
والدته منذ أن انفصلت ابنة صديقتها المقربة وهي تدعوه الزواج منها.. معددة مميزاتها ،تن*د وهو يجيب والدته بحدة يخفيها بصعوبة كونه في عمله:
_أمي أنا لن اشتت عائلتي لأنك تريدين ذلك رغبة منك في السيطرة على كل شيء..
صرخت به على الجانب الآخر وهي تسير في شقتها بعصبية شديدة؛ هي تريد منه الزواج من ابنة صديقتها.. الفتاة جميلة .. شقراء.. تعليمها أفضل من فريدة... هي تريد ذلك بشدة لما لا تن**ر فريدة كما ان**رت ابنتها وتزوج زوجها بالسر..
_ولما لا تفعلها؟
تصطنع الهدوء بشق الأنفس بينما يدها تمسك بقلم من الخشب خاص بأحد أبناء ابنتها فت**ره..
_انت تملك المقدرة المالية من أجل الزواج مرة ثانية يا غسان ..
وغسان لا يسمعها؛ رغم تباعد زوجته في الأعوام الأخيرة عنه إلا أنه أول ما يفكر به هو أبنائه، في تلك المعادلة لن يخسر أحد سواهم..
ولا ينكر أنه يفكر بها أيضًا , زوجته لا يمكن تعويضها, والأهم هو يعشقها..
همس بعذاب من تكرار الأمر ، يذكرها
بأولاده.. أو أحفادها..
__أمي ألم تفكري بأبنائي؟ ..
ال**ت كان الجواب؛ ظنها قد تتراجع ولكنها أكملت هجومها بلا رحمة..
_انظر لأبناء شقيقتك تزوج والدهم سرًا ولم يحدث شيء..
قاطع استرسالها الذي بات بغيضًا على سمعه..:
_زوج شقيقتي عاد لها وانفصل عن الأخرى.. ولا تنكري أنك كنت سبب أساسي بما حدث..ابنائها تفكر بعرضهم لطبيب نفسي..
يلتقط أنفاسه والعقل يشتعل بقوته لقلب الدفة والمسار لصالحه..
_كنت تنصحينها بالتباعد.. البرود.. والعصيان أماه..
تهدأ ثورته وكلماته ترهق والدته ولكنها تنكر وتكمل في عنادها وتسلطها المختال..،فيكمل هو بتروي والحقيقة لا تحتاج هنا لعرض:
_أبناء شقيقتي في تشتت.. وشقيقتي نفسها في حرب عدم الثقة مع زوجها.. هل هذا ما تودين حدوثه لي؟
حديثه لا يشجعها أبدًا على إكمال خطتها , فلجأت لخطتها الأخرى ول**نها يقطر الهدوء كذبًا.. تقتنص هدنة وتعاود الكرة بسم أفعي متمهلة للانقضاض..
_أنت محق.. ربما أنا فقط أردت لك الأفضل..
تطلق ضحكة قصيرة باهته.. تتابع بخفوت وداخلها بركان غضب:
_أنت الغالي يا غسان .. ما رأيك لو أتيت غدًا لأتناول الغذاء معك أنت وفريدة.. ولا تنسى توصيها بإعداد الفطير الذي أحبه..
أجابها مسرورًا بالإيجاب.. معتقدًا بداخله أنها اقتنعت بحديثه ولكنه لم يعلم أنها بداية اللعنة
***********************
بعد يوم عمل شاق عاد لمنزله وداخله شوق غير عادي لفريدة, لا يعرف سوى أنها بكل حالاتها تعجبه وأكثر،حتى مع ربطة رأسها العجيبة التي ورثتها عن والدتها بالمنزل وكأن خصلات شعرها عورة, وجلبابها رغم أناقته ونظافته ولكنه فضفاض وكأنه سيدةمسنة ..
تعجبه وهي تذاكر مع أبنائه بانضباط , وهي تسهر على تعبه بلا ملل؛ وهي تحيل حياته لجنة!
يراها اساس منزله بل كل منزله.. ربما هي الحياة و دونها لن تشرق الشمس في بيته ..
كانت تجلس في المطبخ تنهي الغذاء ويدها ممسكة بملعقة كبيرة ؛ عيناها تدور على تلك الجالسة أعلى رخام المطبخ بفستان احمر قصير وخصلاتها الحمراء تكاد تبتلع ملامحها.. لما تستفزها جنية هل لأنها تواجهها بحقيقية تتهرب منها؟!
تجاهلتها بينما هي تقف بجانبها قائلة بصوت لا يسمعه سواها:
_ما رأيك تجلسي وأنا أكمل الطعام بدلا عنك فريدة..
قلبت عيناها بملل؛ تبعته بأنفاس مغتاظة تزفرها بحنق؛ متجاهلة النظر لها بينما يدها تغلق غطاء الطنجرة بعنف..و خطواتها تقودها لمنضدة تتوسط المطبخ..
تتبعها جنيتها هاتفة بصراخ:
يتبع